ربما تكون هذه اياماً صعبة في تاريخ الجامعة الاميركية في القاهرة، فالعلاقات المصرية - الاميركية ليست في افضل حال، والجامعة لم تعد المؤسسة التعليمية الاجنبية الوحيدة التي تقدم نوعية تعليم متميزة، ومهما قيل عن استقلالها عن القرار السياسي الاميركي، وانتماء الغالبية العظمى من طلابها الى الجنسية المصرية، فإنها ستظل رمزاً اميركياً في مصر. وإذا كان منصب "رئيس جامعة" من المناصب المرموقة الرفيعة المستوى التي يسعى الى شغلها كثيرون، فإن منصب رئيس الجامعة الاميركية في القاهرة في ظل هذه الظروف، شائكٌ ويحتاج الى شخص محنك في "البهلوانية" السياسية والاجتماعية. قبل اسابيع وقع الاختيار على دافيد آرنولد ليقوم بتلك المهمة. حينما تدخل مكتبه ذا الطراز العربي الاسلامي، المشرف على ميدان التحرير، تندهش للشبه الشديد بين ملامح مدير الجامعة الجديد وملامح الداعية الاسلامي عمرو خالد. وبديبلوماسية شديدة يؤكد آرنولد أنه لم يسع ابداً لشغل منصب رئيس جامعة، وحتى حينما تحدث اليه عدد من مسؤولي الجامعة في شأن اختيار رئيس جديد للجامعة بعد وفاة رئيسها السابق الدكتور جون غيرهارت، كان آرنولد يشاركهم التفكير في انسب شخصية تصلح لهذا المنصب الحساس، لكن "لسوء الحظ" دفعه مسؤولون في الجامعة في الولاياتالمتحدة الى أن يضمّن قائمة الاختيارات المحتملة اسمه شخصياً. ويقول: "بعدما عرفت الكثير عن الجامعة، سعدت جداً بالترشح الذي اعتبرته تحدياً مذهلاً، وأنا سعيد لوجودي في هذا المكان في هذا الوقت بالذات". ولعل هذا هو مربط الفرس... "هذا المكان في هذا الوقت". هل هو فأل يقلقه؟ يقول: "نحن في أمس الحاجة حالياً الى تضييق الهوة بيننا وبين المنطقة العربية، لذا اجد الجامعة الاميركية قادرة على تقديم الكثير لمصر من حيث التعليم وتجهيز قادة المستقبل في مصر والمنطقة، كذلك فالجامعة جسر بين الشرق والغرب فهي تقدم لأفضل الطلاب في المنطقة فرصة الحصول على تعليم ذي مستوى عالمي، والتعرض للثقافة والقيم الاميركية عن قرب، كما تمكّن الجامعة الاساتذة والطلاب الاميركيين من المجيء الى مصر لفهم الثقافة العربية الثرية ودراستها". ويبدو من ملامح آرنولد قلقه ليس فقط من "نقص" الفهم الاميركي لثقافة العرب وتاريخهم وحضارتهم، بل لافتقار المنطقة العربية للفهم الكامل للثقافة الاميركية. وعن تزايد الشعور المناهض للولايات المتحدة في مصر والمنطقة بأسرها باستثناءات بسيطة، يقول آرنولد بثقة شديدة مستنداً الى تاريخ الجامعة في مصر إن تاريخ الجامعة "العريق" يطمئنه كثيراً، "فهي لم تخرج الى الوجود في العام الماضي، لكنها زرعت جذورها في المجتمع المصري قبل 80 عاماً، ومرت بأوقات عصيبة عدة كالحرب العالمية الثانية، وحرب 1967 وغيرها". ومن بين القنوات الكثيرة التي تعتمد عليها الجامعة في توصيل خدماتها، مركز جديد هو "مركز الدراسات الاميركية" الذي قدمه الامير الوليد بن طلال هدية الى الجامعة. وإذا كان الاسم في حد ذاته يبدو مكرراً، فإن هدف المركز "جديد، فهو لن يقدم صورة مثالية عن المجتمع الاميركي لجمهور محلي، لكنه سيسهم في ان يفهم المصريون نقاط ضعف المجتمع الاميركي وقوته". ولأنه قلما نعت شيئاً أميركياً بصفة "الضعف"، سألته "الحياة" عن تعريفه لنقاط القوة والضعف في مجتمعه. يضحك كثيراً ويقول: "المركز الجديد سيساعد في عرض التنوع الضخم في المجتمع الاميركي وبالتالي الرأي العام الاميركي... وقد أعجبت كثيراً بكلمة المفكر الرائع الراحل ادوارد سعيد، التي ألقاها في الجامعة قبل عام منوهاً بالتنوع الواسع في وجهات النظر السياسية والزوايا الاجتماعية التي تشكل المجتمع الاميركي، وهذا شيء إيجابي، إذ لا يوجد ما يمكن ان يطلق عليه وجهة النظر الاميركية، التي تتبناها الدوائر الرسمية في اميركا، لكن علينا ان نعي أن التنوع هو سمة هذا المجتمع في سياساته، واقتصاداته ووجهات نظره الاجتماعية، ومنظمات العمل المدني، والتعليم والاعلام وكل مناحي الحياة". لكن إذا كانت غالبية طلاب الجامعة الاميركية تنتمي الى الطبقات الاكثر تعرضاً ومعرفة بالمجتمع الاميركي، فماذا عن بقية الطبقات من الشباب الاقل معرفة ب"الاميركان"؟ يجيب آرنولد مدافعاً: "ليس هناك ما يعيب الجامعة كونها مؤسسة الصفوة، لكنني اعارض تماماً وصفها بالتحيز للنخبة. لكن إتقان اللغة الانكليزية شرط اساسي للالتحاق بالجامعة، وهو ربما ما يجعلها حكراً على فئة معينة، وعلى رغم ذلك، فإنني فخور جداً ببرنامج "منح المدارس الحكومية" الذي تقدمه الجامعة الاميركية ل15 طالباً وطالبة من المتفوقين كل عام شرط أن يكونوا خريجي المدارس الحكومية المصرية". ويوضح آرنولد ان الجامعة تستقبل - إضافة الى الخمسة آلاف طالب الذين يلتحقون بها للحصول على درجتي البكالوريوس والماجستير - نحو 30 الف طالب في اطار تعليم الكبار وعدد من البرامج الدراسية والتعليمية الاخرى، "هذا يعني أن الجامعة تلمس حياة 30 الف مصري وعائلاتهم بمختلف طبقاتهم وخلفياتهم". وإذا كانت الجامعة الاميركية ظلت منذ تأسيسها قبل 80 عاماً المؤسسة التعليمية الخاصة الوحيدة التي "تقدم نوعية تعليم متميزة للطلاب المتميزين"، فإن هذا التفرد لم يعد سارياً منذ غزا المجتمع المصري عددٌ هائل من الجامعات الخاصة التي يتبارى جميعها في رفع شعارات التعليم المتفرد والمختلف والمتميز. وساعد في زلزلة عرش الجامعة الاميركية انضمام كل من الجامعتين الفرنسية والألمانية الى معترك التعليم الجامعي "المتميز" في مصر. ومرة أخرى، يبدأ آرنولد رده بالرجوع الى تاريخ الجامعة "العريق، والاحترام الذي اكتسبته، ومستوى الخريجين المرتفع الذي يشهد له الجميع". لكنه يعود ويعترف بأن المنافسة ظاهرة صحية، ووجود غير جامعة خاصة ذات مستوى علمي جيد، في مصلحة مصر والجميع، "فالاستحواذ لا يسمح بفرصة المقارنة وتقويم الذات وتحسين المستوى، وأنا ارحب بالجامعة الالمانية الجديدة، وسعيد بالجامعة الفرنسية". وفي الوقت الذي تتفاخر فيه الجامعة الألمانية مثلاً بأن نحو نصف اساتذتها ألمان بغرض نقل المعلومة من مصدرها، فإن انتقادات عدة وجهت الى الجامعة الاميركية بزيادة عدد الاساتذة المصريين غير المتفرغين في السنوات الاخيرة يذكر أن بروتوكولاً موقعاً بين الحكومة المصرية والجامعة الاميركية ينص على أن يكون 45 في المئة من الاساتذة اميركيين، ونسبة مماثلة مصريين، والعشرة في المئة المتبقية من جنسيات مختلفة. يقول آرنولد: "من ابرز مميزات الجامعة حفاظها على التركيبة المنصوص عليها في البروتوكول، فلدينا مجموعة من الاساتذة المصريين، هم الافضل في العالم، كما ان اساتذتنا الاميركيين ذوو مستوى راقٍ جداً". ويعتبر آرنولد مبنى الجامعة الجديد في مدينة "القاهرة الجديدة" والقريب جداً من مقر الجامعة الألمانية - أكثر من مجرد نقلة جغرافية من وسط القاهرة الى مدينة جديدة، فهو - بعد انتهاء العمل فيه - "سيكون مغناطيساً تعليمياً لمنطقة الشرق الاوسط بأسرها". وفي مصر، يشهد الجميع بتمتع طلاب الجامعة بحرية التعبير عن الرأي. ولما كان التعبير عن الرأي بحرية في الآونة الاخيرة اصبح يعني التنديد بأميركا، سألت "الحياة" رئيس الجامعة عن موقفه من تلك الحرية، فقال: "أنا من أكثر المؤيدين للحرية الاكاديمية والكلمة. ومصدر فخرنا لا يرتكز فقط على تأهيل طلابنا ليتبوأوا ابرز المناصب، لكن ايضاً على تأهيلهم ليكونوا مواطنين تلقوا مهارات المواطنة بسبل مختلفة ليتمرنوا من خلالها على إدارة الحكومات والمنظمات والشركات". وعلى رغم أن الجامعة الاميركية ليست مؤسسة سياسية، إلا أن قدرها حتم عليها أن تكون مرآة لازدهار العلاقات المصرية - الاميركية أو تدهورها منذ تأسست. وتعامل كل رئيس مع هذا الموقف بطريقته. ويقول آرنولد: "دهشت للدرجة العالية من الفهم لدى المصريين لحقيقة أن الجامعة مؤسسة تعليمية مستقلة خاصة لا تهدف الى الربح تنأى بنفسها عن الوقوع في براثن السياسة". وبعيداً من براثن السياسة والتعليم يتحدث آرنولد عن الاماكن او الهوايات التي يحب ارتيادها او ممارستها في القاهرة فيقول: "اعشق الإبحار وقد سنحت لي الفرصة لأمارس هوايتي في اماكن عدة من العالم منذ كنت طفلاً، وحين كنت وزوجتي نعيش في نيويورك، كنا على مقربة من النهر، وكان لدينا زورق صغير وكنت دائماً استمتع في زياراتي القصيرة للقاهرة برحلات نيلية، ويدهشني تفوق "المراكبية" وقدرتهم في تسيير الزوارق في النيل، وانا سعيد بقدرتي على الهروب الى الماء في "فلوكة" بحثاً عن نسمة هواء ومشهد غروب وبعيداً من المدينة المزدحمة ب15 مليون شخص".