أبحرت في سفينة ضخمة في وقت صعب وظروف قاسية. كانت تؤمن بأنها بحارة محنّكة قادرة على الوصول إلى الشاطئ بسلاسة ويسر، لكن ما حدث هو أن طوفاناً عاتياً اعترض السفينة بركابها وربانها. وعلى رغم ذلك، رست السفينة وحان وقت ترجّل قبطانها. الجامعة الأميركية في القاهرة لطالما كانت في مرمى سهام الانتقاد حيناً، والتشكّك أحياناً، واللجوء الى كوادرها ومواردها بهدف الاستعانة والتنمية المستدامة دائماً. الدكتورة ليزا أندرسون، تنهي فترة رئاستها للجامعة الأميركية نهاية الشهر الجاري، بعد خمس سنوات أمضتها على رأس الجامعة وعامين ونصف العام قبلها ضمن مجلس الأمناء، وهي السنوات الأصعب في تاريخ الجامعة العريقة. «الإبحار بالجامعة في هذا التوقيت والقدرة على تحديد موقع الميناء، كانا إنجازاً في هذه الأوقات الصعبة التي مرت بها مصر، وظلّت الجامعة محتفظة بسمعتها العالمية باعتبارها إحدى أفضل جامعات العالم بالنسبة الى حجمها». أندرسون التي تسلّمت رئاسة الجامعة في وقت كانت الأخيرة في صدد الانتقال من مقرها التاريخي في وسط القاهرة إلى القاهرة الجديدة، وهو ما تزامن كذلك مع شرارة «ثورة يناير» وما صحبها من أحداث كانت تجري رحاها على مرمى حجر من الجامعة وأحياناً في داخل حرمها. الجامعة ليست مجرد حرم، حتى وإن كانت تاريخياً وأثرياً كذلك القابع في ميدان التحرير. لكنها علم وبحث وكوادر بشرية من أساتذة وطلاب تصفهم أندرسون بأنهم – على رغم غلبة المصريين بينهم -، بفعل كثرة التنقّل والسفر سواء للتدريس أم لتلقّي العلم، ساهموا في تحويل الجامعة إلى بؤرة دولية. هذا البعد الدولي يساهم بقدر كبير في جذب الموارد إلى الجامعة لاستمرار العملية التعليمية ذات المستوى الدولي. أكاديمياً، كانت الجامعة قبل 30 عاماً مؤسسة تعليمية وبحثية ممتازة. لكنها كانت تبدو بعيدة. اليوم الأمر مختلف تماماً، فهي في القلب من جامعات العالم. العالم ممتلئ بشبكات دولية من الأكاديميين والباحثين وطلاب العلم، والجامعة باتت جزءاً لا يتجزأ من هذه الشبكات، ما جعلها أكثر سطوعاً في العالم. المثير أن الوجود الجغرافي نفسه للجامعة في مقرها الجديد في «القاهرة الجديدة»، كان في مثابة تحدّ عملاق لم تشهده الجامعة على مدى عقودها التسعة الماضية. فقد انتقلت من قلب القاهرة الحيوي والنابض إلى قلب الصحراء، حيث عملية تأسيس من الصفر لكل كبيرة وصغيرة بدءاً من قاعات الدرس مروراً بالخدمات الغذائية وانتهاء بوسائل المواصلات. تنظر أندرسون من نافذة مكتبها لترى مجتمعاً جديداً متكاملاً أدى الى نمو مجتمعات عدة خارجه، حيث مراكز تجارية ومطاعم ووسائل مواصلات وغيرها، ناهيك بارتفاع أسعار الأراضي والمباني المحيطة. وتشعر بفخر كبير أنها كانت جزءاً من عملية البناء. وضمن عملية البناء، جاءت عملية الاستمرار. تقول أندرسون: «الرئيس حسني مبارك تنحّى عن السلطة في 11 شباط (فبراير)، واالجامعة أعادت فتح أبوابها للطلاب يوم 13 من الشهر نفسه. لم يحدث هذا في مؤسسة تعليمية واحدة في مصر في عام 2011». إدارة الجامعة اتبعت في هذه الأيام العصيبة فكر «ناسا». فخطة الإطلاق تم رسمها وتجهيزها. وفي يوم الإطلاق، إن كان الجو مناسباً، تنطلق الرحلة، وإن لم يكن يتم التأجيل. كلمة السر تكمن في القدرة على رؤية ما بعد الأحداث، وهو ما جرى». وكانت الرسالة الموجّهة الى الطلاب، أن عملية التعليم مستمرة بغض النظر عما يجري. ليس هذا فقط، بل إن التعليم الذي سيحصلون عليه – حتى في أحلك الظروف وأصعبها - تعليم متميز ومعترف به عالمياً. عالمياً، الجامعة معترف بأدائها المتميز. ومحلياً، وعلى رغم الاعتراف الكامل بأنها الأفضل، لا سيما في تخصصات معينة، إلا أن الجامعة عانت لعقود عدة من تنميط شعبي، سواء لنوعية طلابها «المرفهين الأثرياء غير المتصلين بواقعهم المصري والعربي»، أم لهويتها الأميركية «التي لا تمت بصلة (وأحياناً تتناقض) الى الهوية المصرية». وعلى رغم ذلك، فإنه لا يكاد يخلو تشكيل وزاري من وزير أو اثنين – وربما يزيد - من خريجي الجامعة، ناهيك برموز إعلامية هي الأشهر ورجال وسيدات أعمال وكبار مسؤولين. تقول أندرسون «إن هذا يعني الكثير. فمنذ حكومة الرئيس مبارك الأخيرة مروراً بكل ما تلاها من حكومات وانتهاء بالحكومة الحالية، لا تخلو واحدة إما من خريجين أو من أولياء أمور طلاب لدينا. وهذا يؤكد أن القناعة السائدة هي أن الجامعة تخرّج مواطنين مناسبين لتبوؤ مناصب عامة قادرة على المساهمة في بناء الأوطان. مجتمع الجامعة الأميركية لم يعد منغلقاً على نفسه كما كان البعض يعتقد قبل سنوات. فالعلاقات الأكاديمية والطلابية بين الجامعة وبقية الجامعات الرسمية وغير الرسمية في مصر، متداخلة وقوية ومفيدة لكل الأطراف. تقول أندرسون: «لدينا قناعة بأن كلاً منا قادر على إفادة الآخر». فالجامعة الأميركية لديها تجهيزات ومعامل لا مثيل لها في مصر. والجامعات المصرية – لا سيما في كليات الهندسة - لديها أساتذة وطلاب بالغو الموهبة والذكاء. ومن ثم، فإن الفرق البحثية التي تزخر بها الجامعة الأميركية مكوّناتها مختلطة من طلاب وباحثين من كل الجامعات يعملون سوية. وعلى رغم أن أندرسون فخورة بغالبية ما تحقق في الجامعة على مدار السنوات الخمس الماضية، إلا أنها تتحدث بفخر شديد عن خدمات التوظيف التي تقدمها الجامعة. وهنا تكمن مشكلة الجامعات الرسمية التي تعاني نقصاً في الكوادر أو الإمكانات أو مستوى التعليم بقدر ما تعاني من مفهوم التعليم فيها، وهو المفهوم القائم على أساس إعداد كوادر لشغل الوظائف الحكومية، وهو ما لم يعد متاحاً أو ممكناً. تقول: «الدورات التدريبية التي نعقدها لطلاب الجامعات الرسمية – وبعضها قائم على أفكار بالغة البساطة مثل تدريبهم على إعداد سيرة ذاتية – تغير من بوصلة توجهاتهم المهنية تجاه حاجات السوق، وذلك في فترات زمنية قصيرة جداً». وبينما تلملم أندرسون متعلقاتها، تتمنى لو كانت نجحت بقدر أكبر في جذب موارد أكثر للجامعة، إلا أن الأوقات الصعبة خلال السنوات الخمس الماضية لم تكن مواتية. «تراوحت ردود فعل الراغبين في التبرع بالمال من أجل الجامعة الأميركية بين مؤمنين بأهمية دورها، لا سيما في ضوء الأحداث الدائرة رحاها في الشرق الأوسط، وآخرين تخوفوا من أن تذهب أموالهم سدى بسبب الأحداث». وتشير في هذا الصدد، إلى أن على الجامعات المصرية أن تخوض تجربة جمع الأموال لمصلحة الجامعات، لأنها عملية مجدية جداً، ونسبة كبيرة من الجامعات الأميركية تعمل على هذا الأساس. الأساس التعليمي والثقافي والبحثي الذي تقوم عليه الجامعة يؤهلها تماماً في هذه الآونة، لتضييق الهوة بين مصر وأميركا. وترى أندرسون أن مصر ليست الحكومة وأميركا كذلك، فالعلاقات بين الشعوب تقوى وتزدهر عبر الثقافة والتعليم حتى لو كانت العلاقات السياسية متوعكة. وبين التوعّك السياسي والتعضيد التعليمي، تستمر الجامعة الأميركية في مساراتها الثقافية والبحثية والتعليمية المختلفة، وتستعد لاستقبال رئيس جديد بعد رحيل أندرسون التي رسخت اسمها على جدار الجامعة في سنوات كانت الأصعب.