مفيد الجزائري يبدو غريباً في المبنى المزدحم لوزارة الثقافة. الرجل الذي امتهن الكلمة سنوات، والذي عمل في مجال الفكر وناضل في المنفى خارج العراق وداخله، يبدو أنه منطلق في مهمة نضالية أخرى. وزير الثقافة العراقي عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي ورئيس تحرير مجلة "الشعب" لسان حال الحزب. وتعيينه وزيراً أدخله موقع صنع القرار في عاصمة بلده التي فر منها قبل أكثر من عقدين خوفاً من نظام مرعب رحل الآن. في براغ أنهى الماجستير في الصحافة وعمل صحافياً. وفي شقلاوة في شمال العراق عمل مدة عشرة أعوام ومنذ أسابيع قليلة استقر به المقام في مكتب وزارة الثقافة ليبدأ مهمة ليست بالسهلة: ترتيب أوضاع الثقافة والمثقفين في بلد هو خارج لتوه من الحرب ومن أزمة عمرها عشرات السنين، وهي مصاعب لا يمكن محوها بجرة قلم. "واقع الثقافة العراقية اليوم متناقض وصعب"، يقول الوزير معترفاً بأن هناك حيوية انبثقت من تحت السطح ما إن تأكد من أن الوضع السياسي انقلب على أعقابه. مثقفو الداخل باتوا أكثر رغبة في العمل والابداع، ومثقفو الخارج يرغبون في العودة والمسامحة. ويضيف: "البؤس الذي يعانيه المثقفون ليس سببه الحرية" التي حلموا بها "بل الظروف التي جاءت الحرية في ظلها"، ويؤكد وجود "جوع شديد" الى المعرفة في العراق ورغبة في الخروج الى العالم والى التعريف بنتاج المبدعين العراقيين في الخارج وترجمة الإبداع العالمي بمعنى الثقافة الأشمل وفتح الحدود أمام الكتاب العربي". ويقول: "العراق سيعود ليكون البلد الذي يقرأ ما يُكتب... ولن يشبعه ما يأتي من العواصم العربية... إنه في حاجة الى أمطار ثقافية". هواجس العمل اليومي في وزارة ثقافة تريد تجاوز الاهمال الطويل وسنوات الحرب تتوقف أيضاً عند "كادر" الوزارة الذي طرد بعضه لأسباب سياسية، ويؤكد الوزير رفضه محاكمة المثقفين الذين أخطأوا خارج الجرائم الجنائية. ويعرب عن خوفه من بقاء الثقافة في الظل بسبب نقص الموارد المالية، ويبدأ حديثه بالرد على سؤال عن شعوره، هو المناضل المثقف، عندما تسلّم حقيبة وزارة الثقافة: "كان تعييني وزيراً شيئاً كبيراً بالنسبة اليّ، ارتبكت في البداية! بل كان هناك قدر اضافي من الشعور بالفرح والارتباك. سألت نفسي: هل سأستطيع أن أنهض بما هو مطلوب مني؟ فرحت، لأن رفاقي في الحزب الشيوعي رشحوني لهذه المهمة، وفرحت أكثر لاحقاً لأنني أينما توجهت والى أي اجتماع انضممت كنت أجد تأييداً وارتياحاً، الى حد أنني كنت أخجل من شدة اللطف ويحمر وجهي. هذه الحقيبة شكلت بالنسبة إليّ كإنسان فرصة فريدة، فأنا بصراحة، لم أفكر أبداً في حياتي أن أكون وزيراً. جاءت المسألة عرضاً وفوجئت بها، ومن يفاجأ يرتبك!". هل غيّر فيك المنصب شيئاً وأنت حديث عهد فيه؟ - أنا أكره التصنع والتكلف. وهذا يحتم عليّ أن أجد معادلة وصيغة مناسبتين، إذ على رغم أنني أحتل موقعاً مهماً، فعلي أن أحافظ على طبيعتي وعلاقاتي البسيطة والجميلة التي أعتز بها مع أصحابي. هناك من يلومني لأنني أتبسط كثيراً، لكن هذه مسألة أجد نفسي، والحمد لله، قادراً على تخطيها، والأهم أن كل واحد منا يبقى بحسب طبيعته. حدثنا عن واقع الثقافة العراقية اليوم. كيف يُنظر الى هذا الواقع في ظل الهجمة الأميركية؟ - واقع الثقافة العراقية اليوم متناقض وصعب. هناك، من ناحية، مظاهر ايجابية، هي في الحقيقة حصيلة اطلاق الحرية للثقافة، للإبداع، للفكر، للرأي، للكلمة، الخ... وهناك ظروف تحيط بمنتجي الثقافة لم يسبق لهم أن تمتعوا بما يماثلها في العقود الماضية، لا سيما في ظل نظام صدام حسين. والشيء الجميل الذي فوجئت به للغاية هو أن المثقفين العراقيين، بعد فترة وجيزة جداً من انهيار النظام، بدأوا ينشطون في شكل مفعم بالحيوية والحماسة. في ظل النظام السابق كانوا مضطرين للصمت، ولكنهم كانوا مستمرين في التأمل والتفكير. ربما لم يكونوا قادرين أن يكتبوا خشية ان تتحول كتاباتهم الى أدلة ضدهم. لذلك راحوا يخزنون. وعندما انهار النظام أصيبوا في البداية بنوع من الشلل، لأنهم لم يصدقوا الحدث وكان كل منهم يترقب. ولكن ما إن تحول شعورهم بسقوط النظام الى يقين، حتى بدأ لديهم نوع من الانفراج، وخف التوتر الذي يعتريهم نسبياً، وبدأوا ينتجون. وهذا بالضبط ما كنت أتصوره: أي أن يُقبل الناس على ممارسة العملية الابداعية بهذه السرعة الفائقة، وأن يبرهنوا عن ابداع وحس وابتكار. على سبيل المثال أذكر أن "معهد الفنون الجميلة" أقام معرضاً عرضت فيه عشرات اللوحات التي تُصور معاناة الفنانين العراقيين: في ظل الحرب، وبعدها، وحتى عمليات النهب والسلب. كان مستوى اللوحات جيداً، والأكثر لفتاًَ للنظر أن كل ذلك تحقق في 30 يوماً فقط. لم تكن الأعمال الفنية التي عُرضت من الأشياء الشعاراتية لإظهار ادانتهم الديكتاتور أو نظامه، بل كانت أكثر عمقاً. وفي الوقت نفسه، وأنا أسوق أمثلة عن علاقتي مع واقع الثقافة، أذكر مثلاً آخر عن "مقهى الجماهير"، وهو مقهى صغير للغاية في بغداد، دُعيت اليه ووجدت فيه نحو 35 من المثقفين والكتّاب والنقاد ممن يجتمعون دورياً ليبحثوا في الأدب، وعلم الاجتماع وفي مختلف الاختصاصات، وحضرت جلسة لهم يعقدونها أسبوعياً في هذا المقهى حيث يلتقون، حتى في عز الصيف والحرارة تقفز فوق الخمسين. وشاهدتهم لساعات يتناقشون والكل مهيأ للحوار والادلاء برأيه، بعدما كانوا اتفقوا الأسبوع الأسبق على موضوع الجلسة. كانت هناك مداخلة عن الأدب التركماني استمعت اليها. ثم تحدث نحو 12 مشاركاً من الحاضرين، وكلهم أعدوا ورقة بعناية وكلهم لهم رأيهم المختلف والمتكامل. وهذا شيء طريف ومثير للاعجاب. ثم دعوني، عندما عرفوني، الى أن آتي الأسبوع المقبل وأقدم مداخلة حول الحزب الشيوعي العراقي، والتغيّرات الاجتماعية التي تحدث في البلاد. وبالفعل ذهبت مع الرفيق رائد فهمي وهو عضو لجنة مركزية أتى من باريس ورئيس تحرير مجلة "الثقافة الجديدة". وكانت جلسة استغرقت ثلاث ساعات ونصف الساعة. ولجودة المداخلات وعمقها اقترح الرفيق فهمي نشر المداخلات في مجلته، فطفح البشر على وجوههم. وكان قرابة ثمانية منهم أعدوا دراسات بعضها مشكك وبعضها يحمل وجهات نظر مغايرة... والواقع أنه كان لقاء من أجمل ما تكون عليه اللقاءات. طبعاً قُدّمت مسرحيات وحفلات موسيقية وغنائية. وأحسست بالفعل وكأن هناك غطاء قمقم كان يحبس كل شيء داخله، وفجأة اختفى فانبثق كل شيء الى أديم الحياة وسطحها. في مقابل هذا الشعور بالحرية وتوافر الأجواء والمناخ المواتي للعمل و"الانفجار" في العمل، وتقديم النتاجات الثقافية، هناك بؤس لا يمكن تصوره على صعيد الوضع الأمني والمعيشي والحياة الاعتيادية. هذا الواقع الثقافي متناقض جداً، فمن ناحية هناك الحرية التي كان الجميع ينشدها والبعض يموت من أجلها، وجاءت الحرية فصاروا يتمتعون بها ويستثمرون فيها، إذ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. والبؤس الذي يعانونه ليس سببه الحرب بل الظروف التي جاءت الحرية في ظلها. ما هي برأيك، الآفاق التي يتعين بلوغها لكي تخرج الثقافة العراقية من حصارها؟ - الى جانب اطلاق الحرية للثقافة وللانتاج والابداع الثقافي في الداخل، هناك حاجة الى فتح الأبواب واختراق الحدود واخراج الثقافة العراقية فعلاً من هذا الحصار الذي جعلها بعيدة، وخلق فجوة بينها وبين الثقافة العربية والعالمية. هناك فقر شديد في متابعة ما هو عربي وماذا يجري في العالم. هذا الطوق الذي فُرض على الثقافة العراقية وجعلها تعيش وراء أسوار عالية، وكان عاملاً في خنقها أدى الى افقارها. وهذه العملية كانت مبرمجة. لدينا امكانات محدودة. من ناحية ينبغي تشريع النوافذ، وهذا أمر اعتيادي وطبيعي، كما في البلدان الأخرى، بين ثقافتنا ومثقفينا أولاً وبين ثقافتنا ومثقفي في البلدان العربية والأجنبية. هناك فقر في معرفة ما يدور في بقية أنحاء العالم، ليس فقط على الصعيد الثقافي، بل أيضاً على صعيد العلم وغيره، في معنى الثقافة الواسعة. ويبدو أنه سيتوجب علينا بذل جهود استثنائية الى درجة انها تصبح خارقة لتتيح لثقافة شعبنا أن تواكب ما جرى خلال العقود الأخيرة وما يجري حالياً، وهو يجري في الواقع في شكل متسارع. وفي العادة، ان من يتابعون في شكل اعتيادي يلهثون وراء الجديد، لذا ينبغي لنا أن نفتح الأبواب، ليس فقط أمام الأفكار الجديدة والمعارف الجديدة، بل أن نفسح في المجال ليخرج المثقفون العراقيون والباحثون وراء المعرفة. وكلمة ثقافة لدينا هي للأسف أقرب الى الثقافة والفن، وأنا أريد أن أؤكد معناها الأشمل. وفي ما يخص مسألة الاطلاع عليها، أؤكد أن هناك جوعاً شديداً وحاجة لا يمكن تصورهما لدى المهتمين بالثقافة ومن لهم صلة بالعمل الثقافي. جوع شديد وحاجة الى المواكبة وليروا بأم العين، وليس لأن يسمعوا أو يقرأوا. عليهم أن يخرجوا ويروا الى أين وصل العالم. هم يعيشون في بؤس، لا سيما في سنوات الحصار الاثنتي عشرة الأخيرة التي ساهمت، بالتضامن مع أعمال صدام حسين، في تحويل العراق الى خراب: هذا البلد الغني بأهله وحضارته وشعبه. هناك حاجة لدى الناس ليخرجوا. هناك حاجة الى حركة ترجمة في العراق ليس لها مثيل. ترجمة الأدب الأجنبي، ولكن ماذا عن الكتاب العربي؟ - نعم سنفتح الحدود أمام الكتاب العربي الذي منع من دخول العراق إلا ما ندر. كانت هناك رقابة صارمة لا مثيل لها وباسمها كانوا يمنعون الكتب لأسباب تافهة، وفي شكل غير معقول، ويغلقون الباب أمام المطبوعات. سيعود العراق ليكون البلد الذي يقرأ ما يُكتب. كما كان يقال: القاهرة تكتب ولبنان يطبع والعراق يقرأ. لكن في الفترة الأخيرة صار الأمر مختلفاً وصارت بيروت تكتب. سيعود العراق ولن يشبعه ما سيأتي من بيروتوالقاهرةوالعواصم العربية. وأمام وزارة الثقافة مهمة لوضع خطة راسية لإطلاق الترجمة ودعم كل مجالات التعريب والنشر على أوسع نطاق. البلد فعلاً عانى طويلاً هذا الجدب الثقافي، وهو في أشد الحاجة الى أمطار ثقافية. كيف ستكون علاقة وزارة الثقافة بمثقفي النظام السابق؟ هل سيدخلون دوائرها أم سيبقون على الهامش؟ - من الصعب الآن أن نتيح فرصة لأحد ممن حولوا الثقافة والعمل الثقافي الى دعاية للنظام الديكتاتوري والديكتاتور. هؤلاء يتحملون مسؤولية اخلاقية غير قليلة عما اقترفه النظام بحق البلد. هم طبلوا وزمروا وساهموا في مسخ الوعي وتشويه وجدان الناس وذاكرتهم ونشر الأمية الثقافية التي لا تقاس بمعرفة الألفباء، وساهموا أيضاً في حرمان أبناء شعبنا من مصادر الثقافة. من الصعب أن تكون الثقافة وأمور الثقافة وادارتها وشؤونها في أيديهم بعد اليوم. ولا يعني هذا أنهم سيحرمون من أسباب العيش، فمجلس الحكم الذي أقر مسألة استبعاد أعضاء الفرق والشُعَب في حزب البعث من المواقع القيادية في الدولة يبحث في مسألة توفير مقاعد لهم... فهؤلاء لديهم عائلاتهم وأطفالهم. كذلك بالنسبة الى بقية أعضاء حزب البعث، لا سيما أننا نظن أن كثيرين من أعضاء البعث والكوادر فيه تورطوا ولم يدخلوا الحزب لمجرد حثهم صدام أو حكم صدام، وانما اضطروا لذلك تحت عوامل الضغط والاغراء والابتزاز والتهديد، ولم يجدوا طريقاً آخر لتوفير رزق عائلاتهم بعدما سلك النظام طريقه المعروفة. وبالتالي لا بد من التمييز بين هؤلاء وأولئك. ولكن طبعاً هذا الآن لا يزال صعباً لأننا ما زلنا في الشهور الأولى التي أعقبت التغيير. ولا بد من أن يحدث تغيير وأن يُعزل من تسببوا في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والشعب ومن تسببوا في سفك الدماء. هؤلاء لا بد من أن يحاسبوا ويعاقبوا على ما ارتكبوا. أما الآخرون فلا بد من التمييز بين الفئات المختلفة بينهم. وفي رأيي الشخصي أنه يجب أن يكون للإنسان حقه في الندم أو التوبة. ثمة أناس أخطأوا وارتكبوا أخطاء ويريدون ان يعودوا عما ارتكبوه وعلينا ان نتيح لهم الفرصة ليتوبوا. والواقع أن هذه مسألة صعبة لأنّ ليس سهلاً أن تعرف من تاب فعلاً ومن يتظاهر بالتوبة. هذه القضية شائكة ويجب أن نبذل جهداً لبلسمة الجراح وتمكين ضحايا النظام السابق، وضمنهم كثيرون من البعثيين، وهذا يقيني الصادق، لكي يجدوا سبيلهم للعودة الى الحياة الطبيعية السوية مع أبناء الشعب الآخرين، أبناء هذا المجتمع العزيز. هل ستجرى محاكمة المثقفين الذين تورطوا في فضائح النظام السابق وجرائمه؟ - لا أعتقد أن من الصحيح اقامة محاكم في هذا المعنى. يجب أن يُحاكَم من ارتكب جرائم بحق الشعب والبلد والناس الآخرين. أما من هم مسؤولون عن سفك الدماء وارتكبوا آثاماً محددة يعاقب عليها القانون، وهناك الكثيرون ممن ساهموا في أعمال اجرامية، فلا بد من محاسبة المسؤولين المباشرين منهم ولا بد من معاقبتهم. أما المتورّطون غير المباشرين فيجب ان يعاقبوا بطرق أخرى: هؤلاء الذين برروا هذه الجرائم وزيفوا الحقائق وقدموا الجريمة وكأنها عمل وطني وانجاز كبير. وعلينا أن نذكر هنا أن ما ارتكب خلال سنّي النظام السابق كان كبيراً جداً، وألا نفاجأ عندما يقول لك أحدهم انّ ليس هناك عائلة ليس فيها فقير وشهيد سقط إما في حروب صدام أو في حملات صدام وفي الاعدامات وتحت التعذيب وفي القتل الجماعي والسجن. معظم النتاج الثقافي كان يقوم به مثقفو الخارج. أما مثقفو الداخل فلم يستطيعوا أن يبروزا مثل أقرانهم في المنفى. كيف ترى تطور العلاقة بينهم؟ - لم يكن مثقفو المنفى أكثر ابداعاً. كانوا مبدعين مثل غيرهم. مبدعو الداخل لم يكونوا صامتين بمعنى الصمت، بل انهم في الواقع لم يكونوا قادرين على تقديم أعمالهم التي كانوا ينتجونها بحرية واستقلالية كاملة، فاضطروا الى تخبئتها في الأدراج أو تداولها بعضهم مع بعض. كانوا يأنفون من الكتابة أو تقديم الأعمال الفنية التي تُجسد النظام ورأس النظام. ولم يجدوا أمامهم غير الصمت لأنهم لم تكن لديهم وسيلة لنشر ما يبدعون. وبالنسبة الى الفنانين التشكيليين كانت الفرصة أكبر، وكذلك كانت الفرص متباينة بين الكاتب في الخارج والكاتب في الداخل. في الخارج كانت فرص كثيرة متاحة للكاتب، بالمقارنة مع زميله وأخيه في الداخل. لكن هذا بحد ذاته لا يعني أن هذا مبدع وهذا غير مبدع، هذا منتج وهذا غير منتج. كانت هناك ظروف مختلفة في الخارج تسمح للمثقف بأن يوصل نتاجه الثقافي اضافة الى تطوير حجم اطلاعه. وأتوقع الآن، عندما تبدأ أمورنا بالانتظام في وزارة الثقافة ويبدأ العمل الاعتيادي ونضع خططنا وبرامجنا، وبينها ما يتعلق بالنشر، أتوقع أن تكون لدينا طلبات كثيرة ممن أعدوا أبحاثاً ودراسات وكتابات. وينبغي أن نكون مستعدين لهذا الدفق كله ولنشره. هؤلاء لهم حق كبير علينا. ولكن في الوقت ذاته يجب أن ننقل الى جمهورنا العراقي كل ثمار العراقيين وابداعهم في الخارج ممن لم تتح لهم فرصة ايصال اعمالهم الى البلد في السنوات الماضية. نحن لا نميز بين مثقفي الداخل ومثقفي الخارج. وهؤلاء الذين تحدثت عنهم هم مثقفو الداخل الذين أتيحت لهم فرصة الفرار من اضطهاد النظام وقمعه. وأعتقد أنهم ما إن تطأ أقدامهم أرض العراق من جديد حتى يعودوا، فعلاً وليس مجازاً، الى وضعهم الاعتيادي الطبيعي كمبدعين عراقيين. وهم في الخارج الآن، سوى أن ظروفهم هناك كانت أفضل. وخلال الأسابيع الماضية تبين بوضوح وجود رغبة عارمة لدى المبدعين العراقيين في الخارج في العودة الى الاسهام المباشر في كل القنوات الممكنة، وليس بالضرورة المباشرة. وقد يكون اسهامهم بالواسطة، لدعم العملية الثقافية الجديدة في جهودها الجديدة لاطلاق هذه العملية الثقافية، ولتحويل الوزارة نفسها الى دينامو حقيقي للنشاط الثقافي والابداع الثقافي بمختلف مبادراته وانماط الابداع العلمي والتكنولوجي والمعرفي وميادين النشر وأنساق الثقافة. ستذهب الفرقة السمفونية العراقية الى الولاياتالمتحدة، لِمَ لم تجعلوا أول وجهة لها بلداً آخر؟ - ستذهب والله، فقط لأنها أتيحت لها الفرصة للذهاب، ولو أتيحت لها الفرصة لللذهاب إلى أي بلد آخر فهي ستذهب. ظلّ هؤلاء الموسيقيون طوال السنوات الماضية، وفي صورة خاصة السنوات الأخيرة، معزولين. والآن نريد توسيع عمل الفرقة السمفونية ولكننا ما زلنا في مرحلة مبكرة. وماذا عن اعادة الموظفين الذين فصلوا لأسباب سياسية؟ - أنا في الواقع مشغول بإعادة المفصولين. لدى وزارتنا أكثر من سبعة آلاف موظف بما فيها دوائر السياحة. لدينا المسرح والثقافة والنشر والترجمة والثقافة الكردية والمكتبة الوطنية والمتحف الوطني ودوائر كثيرة غيرها. والذين فصلوا سابقاً ربما ليسوا كثيرين مقارنة بعدد من أجبروا على الاستقالة في الماضي. والآن هناك لجنة تبحث ليس فقط في اعادة المفصولين هؤلاء وانما في أمر من يمكن أن نسميهم المتضررين. هناك من فُصلوا أو أجبروا على الاستقالة، لكنهم رفضوا التورط في رشاوى كبيرة وسرقات. وهؤلاء هم ضحايا حقيقيون. ولكننا أيضاً نتحدث عن الضحايا الذين تعرضوا لأذى تبعاً لأسباب سياسية، وهؤلاء يبلغ عدد الطلبات التي تقدموا بها الى لجنة النظر في أوضاع الموظفين، نحو مئة طلب. والبت بأي طلب سيرتبط بتقويم طبيعة كل طلب ومدى انطباقه على المعايير التي تستوجب الاستجابة له. هل تعتقد أن الثقافة العراقية ستنال حصة من الموازنة المقبلة، لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان؟ - ستكون أمام الموازنة العراقية مهمات ثقيلة للغاية، لأنك أينما اتجهت وفي أي ميدان كنت سترى نفسك في حاجة الى استثمارات كبيرة حتى لمجرد اعادة الأمور الى ما كانت عليه قبل عقود. هناك أولويات لا بد من التعامل معها وأعترف بأنها سباقة مثل الكهرباء والماء والصرف الصحي ومستلزمات الصحة والتعليم، وهذه كلها مجالات حيوية، فضلاً عن البطاقة التموينية. لكن التصدي للمصاعب التي تواجهها الثقافة سيحتاج الى أموال طائلة، وأخشى أن تبقى الثقافة في الظل. لذا لا يبقى لنا إلا أن نتطلع الى الخارج والى المنظمات الدولية مثل اليونسكو، والدول المختلفة التي تربطنا بها اتفاقات. وسأتوجه الى دبي ثم الى باريس وسأُخرج ما لدينا من مشاريع كثيرة يمكن أن يساعدونا فيها. لكن هذا لا يكفي لأن هناك، في مجال الثقافة، خراباً وتدميراً، وهما لم يحدثا نتيجة الحرب الأخيرة وما تلاها من خراب ودمار، وانما لأن النظام السابق أهمل الثقافة لسنوات طويلة، وكانت سنوات الحصار منهكة بدورها على كل المستويات. لذا نحن في حاجة شديدة الى الإعانة الخارجية كي نعبر السنوات الأولى ذلك ان عائدات النفط لن تضمن لنا ما نحتاج اليه.