مدينة صغيرة تشبه قرية كبيرة في خصائصها: الدائرة المكانية المحدودة نسبياً، السكان الذين يعرفون بعضهم بعضاً، الدخل المحدود، التفاوت الاجتماعي الذي يتسع بدائرة المهمشين من المقموعين اقتصادياً واجتماعياً. ولكن هذه المدينة تختلف عن القرية الكبيرة بتنوع الحرف الموجودة فيها، ومن ثم تنوع الشخصيات التي تتشكل من ملامحها المادية والمعنوية لوحة سردية لا تفلت ما يميز هذه المدينة، سواء في علاقتها بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تأثّرت بها، أو علاقتها بالتحولات السياسية التي لا نراها على نحو مباشر، ولكننا نرى أثرها ظاهراً في تراتب أوضاع الشخصيات. هذه المدينة هي الفضاء السردي الذي تدور فيه أحداث رواية "ليلة عرس" للكاتب المصري يوسف أبو رية، الصادرة ضمن سلسلة "روايات الهلال" المصرية في شهر تشرين الثاني نوفمبر من العام الماضي. وهي الرواية الرابعة بعد رواياته السابقة: "عطش الصبار"، و"تل الهوى"، و"الجزيرة البيضاء". وتنطوي ملامح المدينة الصغيرة على ما يجعل منها نموذجاً لغيرها، أي على ما يجعل من الغوص السردي في حياة مهمشيها المتعينين سبيلاً إلى الكشف عن العام بواسطة الخاص، ومن خلال التحديق في الملامح المتعينة للنموذج البشري المختار لدلالاته التي تبين عنها الرواية، فصلاً وراء فصل، عن التتابع الزمني للسرد، وبواسطة الإلحاح على التفاصيل الواقعية التي تضع القارئ في مواجهة أحداث ومشاهد ونماذج بشرية مألوفة لكل من يعرف الحياة في هوامش المدن الصغيرة، خصوصاً في المتواليات التي أخذت في التتابع مع الحقبة الساداتية وما بعدها، فهناك الحرف اليدوية التي أصابها البوار، وانغلقت على اصحابها أبواب الرزق، فانغقلوا على عالمهم المحبط في عتمة "الغرزة" أو "البوظة" بعيداً من النور والأمل. وهناك التراتب الاجتماعي الذي ترك الزمن الساداتي بصماته عليه، فصعد صبي بائع "السقط" بعد هزيمة 1967، بواسطة قائد إحدى وحدات الجيش الذي التقاه في "غرزة" الكيف، وقبل الرشوة والصحبة، فأصبح الصبي مُورِّد الوحدة، فالمعلم الكبير مع زمن الصعود الساداتي. ولا تنفصل عن ذلك تحولات الأخلاق في تلوّنها وازدواجها الذي يجعل من حراس معابد مُوردين للمخدرات، ومن الدرويش المتصوف متآمراً على البراءة، ومن أحاديث "التحشيش" فتاوى في الدين، سخرية من زمن "العلم والايمان" الذي خلا من العلم والإيمان. وتتكشف الكتابة الروائية عن انحيازها الفني والإنساني بما يجعل من اختيارها الأسلوب الواقعي نهجاً يتناسب وهدف تعرية النفاق الاجتماعى، ويؤدي إلى الكشف عن الهيمنة القمعية لرأس المال على الخاضعين له، وذلك إلى الدرجة التي تبرز تَفَسُّخ العلاقات الإنسانية وتشوهها في المدار المغلق للمهمشين الذين يزيدهم القمع تشوهاً. ولكنهم - على رغم كل ما يقع عليه - لا تخلو نفوسهم من بقع مضيئة تقاوم الظلمة الغالبة والكاسحة، فتبدو نتيجة المقاومة علامة على أن النقيض يمكن أن يحتوي نقيضه مهما كان ضئيلاً أو واهناً، وذلك في شبكة العلاقات السردية التي تدخل القارئ إلى عالم المُذَلّين المُهَانين، وتخايله بتفاصيل العلاقات التي تؤكد انحياز الكتابة الى رسالتها، وحرصها على دفع هذا القارئ إلى معاودة النظر في مواقفه من علاقات الواقع التي تناوشها الكتابة بالتعرية والكشف. وتدور رواية يوسف أبو رية حول شخصية محورية، هي مبدأ الحركة السردية في القص، فكل شيء يبدأ منها وينتهي إليها، خصوصاً في علاقاتها ببقية الشخصيات داخل المدار المغلق الذي تتحرك فيه، حاملة صفات المُهَمَّش المقموع، سواء في علاقاته بأمثاله الذين يشبهونه في الوضع الاجتماعي كما يشبهونه في التشوه الجسدي، أو علاقته بعالم السادة الذي يتصدره "المعلم" الجزار بملامحه الجسدية التقليدية التي لا يفارقها "الكرش"، أو ملامحه المعنوية التي تلازم الاستغلال والظلم. وكما يتيح موقع الصدارة للكاتب التركيز على ملامح النموذج البشري الذي تجسده الشخصية المحورية، في تعينه وخصوصيته، تتيح له معالجة علاقات النموذج بأشباهه ونقائضه رسم الملامح البانورامية لعالم المهمشين في المدينة المصرية الصغيرة، وطبيعة علاقات المدينة نفسها من حيث هي نموذج لغيرها. أما الشخصية المحورية فهي "حودة" صبي الجزار، الأصم الأبكم الأبله الذي يعمل مع شقيقه الوحيد "زكي" من الصباح إلى المساء، لا يكفان عن الكدح في سبيل اللقمة والستر في غرفة فقيرة، مقطوعين من شجرة. وأول ما يلفت الانتباه إليه في السرد غريزته الجنسية المتفجرة، فهو في سن المراهقة التي لا يستطيع كبحها بحكم بلاهته التي تسقط في وعيه القيود الاجتماعية، وتتيح له أن يرى ما لا يتاح للآخرين رؤيته، ومن ثم معرفة أسرار الجميع في الفضاء المكاني الذي يجمع ما بين البيت الذي يعيش فيه، ومحل الجزارة الذي يعمل به، والشارع الكبير الذي يبيع فيه مع أخيه ما يجود به عليهما المعلم. ولا تنفصل عن حركته في هذا الفضاء "المشاوير" التي يقضيها للآخرين، ومنها الذهاب إلى منزل المعلم حاملاً الخضار واللحم إلى زوجته الجميلة. ويبدأ الحدث الرئيسي باحتمال اعتداء حودة الأبله على زوجة المعلم عثمان، اعتداء لا نعرف عنه شيئاً إلا ما حكت الزوجة لزوجها: إما على سبيل الحقيقة، أو على سبيل التمويه لإبعاد الانتباه من الفاعل الحقيقي. ويصدِّق المعلم زوجته، مقرراً الانتقام من "حودة": "الكلب الذي خان سيده". ويخطط مع صديقه "الشيخ سعدون الحصري" لعملية الانتقام التي تبدأ بإيهام "حودة" أن المعلم قرر تزويجه، متحملاً عنه كل أعباء الزواج، ويصدِّق الأبله كل ما يقال له بعد أن خدعته الشواهد الزائفة، غير مدرك أن المعلم يرتب تمثيلية زواج هزلية، تكون الزوجة فيها "حمادة" ابن "فرحة" صاحبة "البوظة"، وذلك بقصد فضيحة الأبله والسخرية منه. وتمضي خيوط المؤامرة التي يصبح الجميع على علم بها في ما عدا الضحية الذي تنقلب حياته رأساً على عقب. وتتصاعد الأحداث بمشاركة الأخ الذي يبيع أخاه، طمعاً في عطاء المعلم وخوفاً من ماله، كأنه صورة أخرى من "يهوذا" في علاقات الضحية والجلاّد، فيتواطأ بالصمت والإسهام في المخادعة. وتقترب خيوط المؤامرة من الاكتمال، يشترك فيها الجميع بحماسة كما لو كانوا يشتركون في إقصاء مستودع الأسرار الذي يخيفهم بأكثر من معنى. وتأتي اللحظة الحاسمة التي تسبق ذهاب الضحية لاصطحاب العروسة المزعومة من عند "الكوافير" الذي تجمعت البلدة كلها حول محله، منتظرة عريس الغفلة. ولكن عريس الغفلة تنجيه شفقة الجارة التي تمنحه نفسها في فعل تعويضي، يختفي بعده كلاهما من السرد الذي ينتهي بانقلاب المؤامرة على اصحابها، وخيبة أمل الجلاد الذي سخرت منه ضحيته، فلم يملك سوى الضحك الكظيم مع زبانيته، بعد أن سخر منهم الأبله الذي أثبت أنهم البلهاء. وتكتمل بالضحكات دائرة المفاجأة التي لم يكن يتوقعها القارئ نتيجة عمليات التمويه السردي التي لجأ إليها القاص على امتداد تداعي الأحداث وتشابك علاقاتها، وذلك لإبقاء القارئ في حال من التوتر المتصل الذي تحركه الرغبة في معرفة ما ستسفر عنه الأحداث في النهاية. ويقترن التشويق بحيل سردية تضفي على الحكاية التي تنطوي عليها الحبكة أبعاداً متجاوبة لحكايات صغيرة متوازية، وعلاقات فرعية تدفع بعلاقات القص إلى مناطق من الثراء الذي لا يجعل من الرواية مجرد "نكتة" تبعث على الابتسام العابر أو الضحك السريع. وأول مظهر للثراء هو المفارقات الساخرة التي تنطوى عليها الرواية، خصوصاً حين تجعل من العقلاء بلهاء، ومن الجلادين ضحايا أفعالهم. وهو المستوى نفسه الذي يتكشف عن التعارض المتصل بين الظاهر والباطن من الأقوال التي تعلن غير ما تبطن، والسلوك الذي يؤكد نقيضه المعلن. والمثال الأول شخصية المعلم الذي تؤكد حرفته الجزارة امتداد معنى ذبائحه إلى ضحاياه الذين يبدأون من الأرملة المتعلمة التي اشتراها بنقوده، وانتهاء بالصبيان - ومنهم حودة - الذين يتبادلون والذبائح التي يحملونها المعنى والمكانة. والمثال الثاني شخصية الشيخ الذي لم يحصل على عالمية الأزهر، الدرويش الذي يلبي النداء الغامض للأولياء الذين يدعونه إليهم، والذي يخفي وراء الثياب النظيفة الناصعة البياض، ووراء العمة والمسبحة التي لا تغادر يده كالبسمة التي لا تنسحب عن وجهه، حقيقة "الحشّاش" الذي لا يثنيه عن الإفراط في الموبقات سوى ضعفه الجنسي، ولا يوازي قدرته في التخطيط للأذى إلا مناظراته مع "أبو عاشور" حول معاني الآيات القرآنية التي لا يعمل بها. ويكتمل حضور السخرية - من حيث علاقتها بالمفارقة - في التلاعب بأسماء الشخصيات التي تتناقض دلالاتها وسلوك أصحابها، كما تكتمل بالمظهر الذي يناقض المخبر في دلالات الثياب، حيث تخفي نظافة الملبس دنس النفوس التي هي على النقيض من نظافة ثوبها، بينما تنطوي الثياب القذرة على أخلاق مناقضة، لا علاقة لها بظاهر الثوب الملبّد بالأوساخ أو الدماء. والتضاد قرين السخرية في إبراز طبيعة العلاقة التي تصل بين الضحايا والجلادين، سواء في معنى المشابهة الذي يجمع بين الضحايا من ناحية، والجلادين من ناحية مقابلة، ولكن بما يعطى الأولوية السردية للتركيز على عالم الضحايا بكل ما يزخر به هذا العالم من قذارة وتشوّه جسدي في آن. ولذلك تكثر صور القذارة في رواية "ليلة عرس" على نحو لافت ودال، ابتداء من حجرة "حودة" التي يتناثر فيها حصير مهترئ، ولحاف قديم له رائحة عطنة، مرورا بالبصقات التي تتكرر مع السعال الذي يدفع الهواء الفاسد في "بلغم لزج" يداس عليه بالأقدام، في موازاة الملابس الممزقة وروائح البول وزفارة السمك وقطرات الدماء التي تختلط بالتراب والعرق على الأجساد التي تتراكم عليها طبقات الوسخ، وانتهاء بأماكن التحشيش والسكر التي لا تعرف الضوء أو النظافة، جنباً إلى جنب "السلخانة" أو "المراحيض" التي تنبعث روائحها الكريهة متجانسة مع غيرها من روائح العفونة التي لا تخلو منها أماكن السرد. ولا توازي صور القذارة في الرواية سوى صور العاهات والتشوه الجسدي، فالبطل أطرش وأخرس وأبله، وجيران الغرفة في المنزل المتهالك منهم الشقيقات العمياوات اللائي لا ينشغلن بأكثر من رحلة المقابر والدوران على البيوت لقراءة "الراتب" من سور القرآن الكريم، وبينهم طالب المعهد الديني الذي يظلع في مشيته، مستنداً بكفه على الساق السليمة، بينما يجر ساقه المشلولة التي لا تزيد على ساق طفل صغير على الأرض، والجيران بينهم "نادية" - بنت "أبو سنة" السمّاك - التي لا علاقة لاسمها بجسمها الذي لا يكف عن التبول اللاإرادي. وكذلك "عزيزة الخنفا" أو "مبولة الطريق العمومي" العوراء، السوداء، الصدئة الجلد الذي له رائحة منتنة. وتضم دائرة المعارف أمين الأعمى الذي يعتلي مئذنة المسجد، و"كاكا" الذي أصابته "غرغرينه" في رجليه فاضطر الاطباء إلى بتر الساق المصابة، وانتهى به جنونه إلى حرق نفسه تشبهاً بالأنبياء. وقس على ما سبق غيره من صور القذارة والعاهات التي تقترن بالشذوذ الذي يتجسّد في شخصية "حمادة"، وذلك بما يؤدي دوراً بالغ الدلالة في تضافر علاقات القبح الصادمة التي تؤكد بها الرواية طبيعة الحياة اللاإنسانية للمهمشين المحاصرين بالمرض والفقر والقذارة وأشكال الهوان الإنساني المتعددة. وهي الأشكال التي ينسجها يوسف أبو رية في براعة، صانعاً منها عالماً روائياً جسوراً في موضوعه، صادماً بتفاصيل علاقاته البنائية، متحدياً باقتحامه مناطق محرمة من الهوامش الاجتماعية التي يتقن الروائي تقديمها.