تنامي ملحوظ في العلاقات الاقتصادية بين السعودية وألمانيا    وزير الصناعة والثروة المعدنية يبحث في الهند الفرص المشتركة لتوطين صناعة الأجهزة الطبية والسيارات والآلات بالمملكة    رئيس إسرائيل وقادة المعارضة يطالبون نتنياهو بتنفيذ هدنة غزة    2112 مالكاً من 16 دولة.. و7300 مطية في مهرجان خادم الحرمين الشريفين للهجن    حصر المباني الآيلة للسقوط في الفيصلية والربوة.. ودعوة ملاكها للمراجعة    الاختبارات المركزية في منطقة مكة مع نهاية الفصل الثاني    يمثلون 13 منطقة تعليمية.. تكريم 60 فائزاً في «تحدي الإلقاء»    "أوبك بلس" تبقى على سياسة الإنتاج دون تغيير    ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ يطَّلع على مؤشرات أداء فرع هيئة الهلال الأحمر السعودي بالمنطقة    الذكاء الاصطناعي... ثورة تُولد عوائد استثمارية كبيرة    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 56 لمساعدة سكان غزة    70 قتيلاً فلسطينياً في هجمات إسرائيلية على الضفة الغربية    تدشين برنامج أمل التطوعي السعودي لمساعدة السوريين    المستشار الألماني: الدفاع الأوروبي يحتاج إلى "مزيد من التصميم"    سوق الأسهم السعودية يتراجع لليوم الثاني ويخسر 32 نقطة    اكتمال مغادرة الدفعة الثالثة لضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة إلى بلدانهم    أمير القصيم يتسلم تقرير أعمال شركة الاتصالات السعودية لعام 2024    أمير القصيم يكرّم المشاركين في ملتقى اليوم السعودي العالمي للتطوع    تعديل مدة رفع ملفات حماية الأجور إلى 30 يوماً من أول مارس    طاقم تحكيم سعودي يقود لقاء العين والريان في كأس الأبطال للنخبة    محافظ الخرج يستقبل رئيس جامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز    روسيا تدرس السعودية والإمارات كموقع محتمل لقمة بين بوتين وترمب    أمانة القصيم تنفذ أكثر من 658 ألف جولة رقابية خلال عام 2024    نائب أمير الشرقية يستقبل قائد القوة الخاصة للأمن البيئي بالمنطقة    عبدالعزيز بن سعد: رالي حائل الدولي ..حقق مكاسب تنموية ورياضية واقتصادية تتماشى مع رؤيه الوطن 2030    استئصال ورم سرطاني ضخم يزن 8 كغ من بطن مريضة بالقصيم    7 مليون فحص مخبري في مستشفى الرس خلال 2024    تفعّيل برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    أمير الجوف يستقبل قائديّ حرس الحدود بالمنطقة السابق والمُعيَّن حديثًا    سلمان بن سلطان يدشن قاعة المؤتمرات الكبرى بغرفة المدينة    جولة مدير مستشفى عفيف العام التفقديه    رئيسة وزراء الدنمرك: غرينلاند ليست للبيع    "كشتة البديع" تجتذب المزيد من العائلات والأفراد ب 19 فعالية متنوعة    تقييم صادم للنجم المصري عمر مرموش ومدرب «مان سيتي» يبرر !    الجامعة الإسلامية تُطلق فعاليات "أسبوع البحث العلمي السادس"    الدولار الكندي لأدنى مستوياته في 22 عاماً    5 مخاطر صحية تهدد العاملين بنظام المناوبات    عبدالله آل عصمان مُديراً لتعليم سراة عبيدة    كلنا نعيش بستر الله    التعاقدات.. تعرف إيه عن المنطق؟    من أسرار الجريش    ضمن نزالات UFC في «موسم الرياض».. «إيماموف» يحسم مواجهته مع «أديسانيا» بالضربة القاضية    العلاقات بين الذل والكرامة    إن اردت السلام فتجنب هؤلاء    محافظ جدة يطلع على خطط المرور والدفاع المدني    مواقف تاريخية للسعودية لإعادة سورية لمحيطها العربي    في الجولة ال 20 من دوري" يلو".. الصفا يستقبل العدالة.. والبكيرية يواجه الجبلين    الأهلي يعير «ماكسيمان» لنابولي الإيطالي    «عاصفة الفئران» تجتاح 11 مدينة حول العالم    شرطة الرياض تقبض على مقيم لمخالفته نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    هيئة الترفيه.. فن صناعة الجمال    3 أهداف تتنافس على الأجمل في الجولة ال18 من مسابقة دوري روشن للمحترفين    على هوامش القول.. ومهرجان الدرعية للرواية    القيادة تعزي أمير الكويت في وفاة الشيخ دعيج إبراهيم الصباح    القيادة تُعزي رئيس ألمانيا في وفاة الرئيس السابق هورست كولر    أمير تبوك يواسي أسرتي الطويان والصالح    الأسرة في القرآن    تفسير الأحلام والمبشرات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أوان القطاف" للكاتب المصري محمود الورداني . رؤية متشائمة ... وروائي يعي مأساة الزمن النوعي
نشر في الحياة يوم 24 - 08 - 2002

"أوان القطاف" رواية جديدة للروائي المصري محمود الورداني استوقفت الناقد جابر عصفور فكتب عنها المقالة الآتية متناولاً فيها الخلفيات التاريخية والواقعية وأبعادها الجمالية والرمزية.
عنوان دال بمجازيته على رمزية الرواية التي يشير إلى دلالاتها، وتؤكده هذه الدلالات في الوقت نفسه، داخل رواية محمود الورداني الأخيرة التي صدرت عن روايات الهلال القاهرية في الشهر الماضي، لافتة الانتباه بعنوانها إلى بعض أشكال التناص التي تنبني عليها. فالعنوان "أوان القطاف" يسترجع المدلولات القمعية المعلنة في عبارات الحجاج بن يوسف الثقفي
ت 95 ه - 714 م التي تضمنتها خطبته الشهيرة التي قال فيها: "إنني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها". وهي مدلولات تتجاوب مع غيرها من المدلولات التي تنطقها دوال القمع في تراثنا الثقافي، مؤكدة أن زمن قطف الرقاب زمن مستمر، في تاريخ متواصل الحلقات من القمع الذي يتجدد كالعنقاء عبر الأزمنة، حتى لو اكتسى في كل عصر أزياءه الخاصة ومخترعات تعذيبه النوعية.
ولا يكتفي محمود الورداني باختيار عنوانه الدال للإشارة إلى عمق البعد التاريخي للقمع في روايته، فهناك شخصية الحسين بن علي الذي رفض مبايعة يزيد بن معاوية، فقتل في كربلاء في العاشر من محرم سنة 61 للهجرة =10 تشرين الأول اكتوبر سنة 680م وذلك بعد جولات من العنف الدامي الذي سعى إلى استئصال أبناء علي بن أبي طالب، وظل مستمراً بعد مقتل الحسين في مواسم الذبح التي أطلق عليها الأصفهاني اسم "مقاتل الطالبيين" في كتابه المعروف. ولا يقنع محمود الورداني بأن يجعل من شخصية الحسين إحدى الشخصيات الأساسية التي تقطف رؤوسها في روايته، موازية لبقية الشخصيات التي تنتهي إلى المصير نفسه من طرق متباينة، بل يضيف إلى سلاسل التناص المرتبطة بمقتل الحسين وقطع رأسه، إشارات إلى سلاسل أقدم، مؤكداً - بالاستعانة بالمراجع التاريخية - أن قتلة الحسين لم يكونوا وحدهم الذين انطووا على التوحش في القمع. فالخوزقة والتقطيع ابتكرهما الآشوريون، ويرجعان إلى زمن أقدم من الإسلام، زمن ظل متصلاً مثل أشكال التعذيب التي تعاقبت في التاريخ الإسلامي، كما تعاقبت في التاريخ الأوروبي الوسيط والحديث، ولا تزال تظهر في تجليات متباينة، مفيدة من أحدث تقنيات العلم والتكنولوجيا في زماننا المعاصر، ولعلها ستظل كذلك إلى أبد الآبدين، لو مضينا في إنطاق المسكوت عنه في تجاوب المتناصات التي تنبني بها رواية محمود الورداني.
ويدفعني هذا البعد الذي يؤكده التناص من رواية "أوان القطاف" إلى استدعاء البعد المماثل في مسرحية يوسف إدريس "الفرافير" التي قدمها المسرح القومي للمرة الأولى في مصر سنة 1964. فمسرحية يوسف إدريس تقوم على الصراع بين الخدم والسادة، مؤكدة البعد اللازمني لهذا الصراع بتأكيد الثنائية الضدية التي ينبني عليها، مبرزة أزلية الصراع حتى لو أصبح السيد عبداً، والعبد سيداً. فالصراع سيظل قائماً ما ظلت الثنائية التي تنبني على استغلال طرف لآخر. وتمضي رواية "أوان القطاف" في الاتجاه ذاته، مؤكدة أن قطع الرقاب مادياً ومعنوياً، كان، ولا يزال، وسيظل قائماً، ما ظلت هناك ثنائية المظلومين والظلمة، العبيد والسادة، المُسَتَغلين والمُسْتَغِلين، أنصار الحرية وأعداء الحرية، الحالمين بالعدل والحاصدين رؤوس هؤلاء الحالمين. ولذلك تصل تضمينات الإشارات التاريخية بين الحالات التي أطاح فيها المستبدون من أولي الأمر رؤوس المعارضين على امتداد تاريخ طويل، الأمر الذي يُرجِّع الدلالات متجاوبة الأصداء عن لازمنية القمع الذي سيظل قائماً ما ظلت شروطه، ويظل إطاراً تحيط لا زمنيته بكل مجلي زماني متعين من مجاليه التي تستدعي تاريخاً محدداً تدينه رواية "أوان القطاف" وتسعى إلى تعريته.
وإذا كان البعد اللازمني يؤدي إلى تعدد أبعاد الزمن وتجاور اللحظات التاريخية المتباعدة في الفضاء المكاني لرواية "أوان القطاف" على مستوى تعاقبها السردي، فإن هذا التعدد يسمح بتجاور زمن الحسين بن علي في القرن السابع الميلادي مع زمن شهدي عطية الشافعي في أواخر الخمسينات أو مطلع الستينات من القرن العشرين، مع زمن انتفاضة الخبز في كانون الثاني يناير 1977، مع زمن العائد من الخليج في العهد الساداتي، مع زمن عالية وعبدالوهاب في اليوم الأخير من القرن العشرين، خلال احتفالية الألفية التي صاحبتها موسيقى ميشيل جار التي أطاحت رأس أبي الهول في توهمات الرؤى. هذه التوهمات تضيف ما يؤكد مبررات كسر التعاقب الزمني، والتنقل الحر عبر الأزمنة، تأكيداً لعلاقات التضاد والتوازي والمجاورة، كما تسمح بتشكل حالات سردية فانتازية، يمكن مخيلة القارئ أن تنطلق معها لتخيل نوع من الواقع الافتراضي، يقترن بعالم من الكائنات البشرية السابقة التجهيز. أقصد إلى كائنات يعاد تركيب أدمغتها بعد صيانتها وتزويدها البرامج الجديدة التي تبقيها في حال من الإذعان المطلق، والتبعية الأزلية لصانعي البرامج من المستبدين الجدد الذين أنتجهم - أو أنتجوا - زمن العولمة الأخير.
وأتصور أن هذه التركيبة - بما تنطوي عليه من عنصر لا زمني مضفور بعنصر مواز من التوهمات - هي التي أتاحت لمغامرة الورداني الروائية أن تحقق الكثير مما قصدت إليه. وأول ذلك الكيفية التي لجأت بها الرواية إلى اللازمني، واستعانت به كي تؤكد الزمني وتبرز دلالاته التي تخنق الروح، وتؤدى إلى اليأس الذي يفضي إلى الانتحار المادي أو المعنوي. ومن هذا المنظور، يبدو الزمن الأساس - في الرواية - مؤطَّراً بمشابهاته عبر التاريخ، فترتد أشكال القمع المعاصر على نظائرها من الماضي القريب والبعيد، في ما يشبه التجاوب الذي يشير إلى إمكان التكرار لتجليات فعل "القطاف" نفسه في المستقبل.
والبداية هي ذلك الكائن البائس الذي تعلق بالعربة الأخيرة من القطار في اللحظة الأخيرة، وصعد منها إلى سطح القطار مغافلاً الحراس، فرحاً بحريته المسروقة لدقائق ظل يتقافز فيها عابراً الفواصل بين العربات، مغمضاً عينيه لثوان قليلة، طار فيها رأسه الذي ظل معلقاً على أول جسر حديد، بينما سقط الجسد تحت العجلات، تاركاً العينين تنظران في تبدلات الأزمنة مع كل حركة من حركات القطار الذي غدا معادلاً للحياة في امتدادها المتعاقب عبر العصور.
ويرى الرأس أول ما يرى - من أحداث التاريخ - أولى الحلقات المؤدية إلى قطع رأس الحسين في القرن الأول للهجرة، وأولى الحلقات المؤدية إلى قطع رقبة العائد من السعودية لبدء مشروعه الاستغلالي مع صعود وعود الزمن الساداتي، وأولى حلقات قطع رأس الطالب مع اصطدام الزمن الساداتي بالجماهير المظلومة في انتفاضة كانون الثاني يناير 1977. وتتجاور مع ذلك أولى حلقات خلع رأس المواطن العادي وإعادة تركيبها بعد إعادة برمجتها في زمن فانتازي يحمل ملامح زمن العولمة الجديد، وأولى حلقات اغتيال شهدي عطية الشافعي في السجون الناصرية سنة 1960، وأولى الحلقات التي قادت "عالية" إلى اكتشاف ضياع رأس أبي الهول. وينتهي القسم الأول من الرواية بعد أن صاغ مهاد أحداثها وشخصياتها في أزمنة متباينة. ويبدأ القسم الثاني الذي يتولى تطوير الأحداث لتصل إلى ذروتها النهائية في القسم الأخير، وهو القسم الذي يختتمه السرد بالعودة إلى الرأس المعلق على الجسر في صباح آخر. لكنه ليس مثل كل صباح مضى. فالرأس يهبط من على الجسر بعد أن أكمل فعل المشاهدة الذي تتشكل به الرواية، وتحمله فتاة تجري به، ربما لتبدأ معه مشاهدة جديدة، من منظور مختلف لأزمنة مغايرة، لكن بما لا يبعد الرأس - في النهاية - عن كل هؤلاء الذين يركضون خلفه.
ويتحول الرأس المقطوع المعلق على الجسر الحديد إلى تقنية روائية، أو موازاة رمزية لوعي السارد المعاصر الذي يظل متيقظاً على امتداد الرواية، ينطق بين الحين والحين ما يصل الأحداث، أو يعلّق عليها، أو حتى يقوم بالتمهيد لها، معتصماً بموقعه المرتفع الذي يتيح له مدى أوسع من الرؤية وعدداً أكبر من الشخصيات الرامزة إلى أزمنة مختلفة. وفي الوقت نفسه، يتحول الرأس إلى مركز تدور حوله - في مدى رؤيته - خمسة رؤوس مقطوعة مادياً أو معنوياً. والعلاقات البنائية التي تصل بين هذه الرؤوس هي علاقات المجاورة التي تقوم على التضاد أولاً، في المستوى الذي يتقابل العائد من السعودية مع الطالب الوطني البريء الذي طار رأسه في التظاهرات، وتقوم العلاقات على التوازي ثانياً، وذلك في المستوى الذي يدنو بدلالة ذبح الحسين من دلالة اغتيال شهدي عطية الشافعي. وهو المستوى الذي يتجاوب مع الأول في الأفق السردي الذي تتخلق فيه مشاكلة الواقع في حال العلاقة بين عالية وعبدالوهاب، أو الإيهام بفانتازية الواقع في حال مركز الصيانة العصري الذي يعاد فيه صوغ الرؤوس أو برمجة العقول.
وما بين التضاد والتوازي تتخلق المفارقة الروائية على امتداد ما يراه الرأس المعلق على الجسر الروائي الذي يصل بين الواقعي واللاواقعي، ويمزج بينهما في تداخل يؤكد الرؤية الروائية. ولا تخلو هذه العلاقات من الإشارة إلى تجاوب الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمعرفية في الوضع المأزوم الذي لا يزال قائماً إلى اليوم، والذي ازداد تأزماً مع صعود معدلات القمع في الزمن الناصري، تلك المعدلات التي سرعان ما انتقلت من الأجهزة القمعية للسلطة في الزمن الساداتي إلى المجموعات البشرية الخاضعة لهذه السلطة في ما يشبه تراجيديا المقتولين القتلة. أقصد التراجيديا التي تحدث حين ينقلب فعل القمع الذي يمارسه القامع على المقموع، وينعكس على نفسه بما يجعل المقموع يعيد إنتاج القمع الواقع عليه، تماما كما أعاد إنتاج القمع الواقع عليه أمين المكتبة الصعيدي الذي مارس بعض ما وقع عليه من قمع في جسد زوجته التي تحملت ضربه، وأعاد إنتاج القمع الواقع عليه في الخارج، ممارساً تجلياته على الزوجة والابنة وسائق سيارته الذين أعادوا - بدورهم - إنتاج القمع الواقع عليهم منه، عندما قاموا بفصل رأسه عن جسده. وقل الأمر نفسه في الحالات المناقضة، حتى بين الثائرين على قامعيهم السياسيين، أقصد إلى الحالات التي ينتشر فيها "سرطان الروح" الذي كتبت عنه إقبال بكري التي نرى امتدادها الإيجابي في شخصية قريبتها عالية، مؤدياً إلى الانتحار المادي أو المعنوي، خلاصاً من القمع الآتي من الخارج، بواسطة قمع مواز متولد من الداخل، خصوصا في لحظات اليأس التي يتكاثف فيها الظلام فيختفي كل ضوء من الداخل أو الخارج.
وإقبال بكري هو الاسم الذي اختارته الرواية للكاتبة المصرية أروى صالح في انتحارها الفاجع في يونيو - حزيران 1997 الذي كان تعبيراً عن يأسها الفردي الذي انتهى بها إلى كتابة "سرطان الروح" كما كان تعبيراً عن إدانتها لعجز الكثيرين من أبناء جيلها، جيل السبعينات الذي ينتسب إليه محمود الورداني المولود سنة 1950، والذي تخرج في معهد الخدمة الاجتماعية سنة 1972، وأدى الخدمة العسكرية التي أتاحت له المشاركة في حرب 1973، وكان قبل ذلك - وبعد ذلك - مشاركاً في أنشطة جيله في التمرد على الهزيمة الناصرية في العام السابع والستين، وعلى التراجع الساداتي الذي استغل الرؤوس التي تساقطت في حرب 1973، ذلك التراجع الذي صنع أفقاً دامياً ممتداً من "أوان القطاف" الذي حصد الكثيرين من أبناء جيل السبعينات مادياً ومعنوياً. ولذلك لا يتردد الروائي المختفي وراء قناع السارد في إعلان تعاطفه مع ما كتبته أروى صالح في "سرطان الروح". وهو الكتاب الذي جمعت فيه شقيقتها عبلة صالح بعض أوراقها، بعد أشهر معدودة من وفاتها، ومنها الأوراق التي وصفت فيها أروى مشاعرها المصاحبة للمحاولة الأولى في سلسلة محاولات انتحارها التي انتهت نهاية دامية في حزيران يونيو 1997، الشهر الذي يسترجع ذكرى هزيمة العام السابع والستين. ويستعين محمود الورداني بمقاطع من هذا الكتاب في النسيج السردي لروايته، ضمن علاقات التناص المختلفة التي شملت الإفادة من كتابات هادي العلوي، وكتاب محمد حسين الأعرجي عن "جهاز المخابرات في الحضارة الإسلامية"، فضلاً عن الشهادات والسير الذاتية للمعتقلين الشيوعيين في السجون الناصرية. وأخيراً، الوثائق التي جمعها رفعت السعيد عن اغتيال الشافعي في كتابه "الجريمة".
ومن هذا المنظور، تؤدي مقاطع أروى صالح المولودة سنة 1951 بعد ولادة محمود الورداني بعام واحد، وفي العام نفسه الذي ولد عبدالمنعم رمضان وحلمي سالم ورفعت سلاّم وغيرهم من أبناء جيل السبعينات وبناته، دوراً بارزاً في السرد، دوراً تؤكده التضمينات الأخرى التي تنجذب إلى المدار المغلق الذي يشير إليه دال "سرطان الروح" في تجاوبات السرد، فتبدو الأهمية الخاصة للحقبة السبعينية التي تحتل بؤرة السرد بصفتها نتيجة لما قبلها وسبباً لما بعدها. ولم يكن من قبيل المصادفة، والأمر كذلك، كثرة التمثيلات المنتسبة إلى السبعينات في الفضاء السردي، وذلك على نحو تبدو معه التمثيلات السابقة على السبعينات أو اللاحقة عليها بمثابة الإطار الذي يبرزها بصفتها نتيجة وسبباً في الزمن المتكرر من "أوان القطاف" من ناحية، وفي الأفق الذي تمضي كتابة محمود الورداني تجسيداً للرؤية النوعية التي انطوى عليها جيل السبعينات من ناحية ثانية. ولذلك تتضام رواية "أوان القطاف" مع الأعمال التي سبقتها، ابتداء من المجموعات القصصية الأولى: "السير في الحديقة ليلاً" 1984 و"النجوم العالية" 1985 و"في الظل والشمس" 1995 وانتهاء بالروايات المتعاقبة: "نوبة رجوع" 1990 و"رائحة البرتقال" 1992 و"طعم الحريق" 1995 و"الروض العاطر" 1998. وكلها أعمال لا تخلو من علامات القمع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تعانيه الشخصيات، في عالم تنحدر مسيرته، وتتهاوى شعاراته الزائفة، وتسقط الشخصيات المتمردة في غوايته أو في شراك اليأس من إصلاحه.
ولكن رواية "أوان القطاف" تصل بعلامات القمع إلى ذروة العنف المأسوي الذي يقترن بقطع الرؤوس مادياً ومعنوياً، وتضيف إلى علاقات القمع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي علاقات القمع المعرفي، على النحو الذي تجسده الشخصية الرابعة بعالمها الفانتازي الذي يشير إلى شروط واقع جديد تحميه أحدث تقنيات العلم وأجهزته العصرية. هذه الشخصية هي نموذج للشخصيات التي تعيش في عالمنا المعاصر، بالمعنى المحلي أو القومي أو العالمي، مخدّرة بفعل أجهزة الإعلام المعاصر التي وصل تقدمها التقني إلى درجة غير مسبوقة، ونجحت في إشاعة إيديولوجيات استولت على العقول الرؤوس في كل اتجاه، لكن بما يفضي إلى ضمان الطاعة الدائمة لمركز واحد، هو القطب الأوحد الذي تتفرع منه كل الاتجاهات، في نوع من الضبط المعرفي والرقابة المعلوماتية والتوجيه الإعلامي الذي يتجدد باستمرار. وآلية التجدد هي الصيانة الدورية التي تقترن بذهاب شخصيات زمننا - على المستوى الفانتازي - إلى مراكز الصيانة التقنية التي تفصل الرؤوس عن الأجساد، وتعيد حشو هذه الرؤوس بالبرامج الجديدة التي تتلاءم مع المتغيرات، وتنتهي فترة الصيانة بعودة الرؤوس إلى أجسادها التي تستجيب إلى ما تمليه العقول المبرمجة بكل تعليمات القطب الأعلى، أو إمبراطور العالم الجديد الذي يحكم بواسطة نواب صغار وأجهزة إعلام ومعلومات منتشرة في كل مكان، قوية إلى درجة لا تفلت أحداً، مهيمنة إلى درجة لا يبدو معها أمل في الانتصار عليها. وكيف يبدو الأمل مع هذه القسوة الهائلة التي تتحكم حتى في المعرفة التي تحشى بها رؤوسنا، أو التي تجعلنا نتوهم أننا نحن الذين نملأ بها رؤوسنا، وذلك على امتداد كوكب أرضي لا ثابت فيه إلا الزمن الممتد المتكرر المتصل من "أوان القطاف".
رؤية متشائمة؟! نعم. تعيدنا إلى قدرية "الفرافير" و"المهزلة الأرضية" في المرحلة الثانية من تحولات يوسف إدريس؟! نعم. لكنها رؤية تجعلنا نتأمل الشروط التي تؤدي إلى تكرار "أوان القطاف" وامتداده، والشروط المتعاقبة متغايرة الخواص التي تؤدي بنا إلى الانهزام دائماً في "حكاية بلا بداية ولا نهاية". رؤية روائي من أبرز كتاب جيل السبعينات في مصر، ومن أكثرهم وعياً بمأساة الزمن النوعي الذي لا يزال يكتوي به.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.