يتحرك السرد في رواية "المهدي" معتمداً على ضمير المتكلم الذي هو تمثيل لراوٍ غير موجود في القص، ولكنه عارف بكل شيء، محيط بحيوات الأشخاص وعلاقات الأحداث، ومن ثم قادر على التفسير والتعليل قدرته على التعبير غير المباشر عن موقف المؤلف المضمر، أو وجهة النظر التي يتبناها في القص، والتي تنطلق أحداث القص كلها وتتحدد شخصياته من خلال منظورها المتميز الذي ينحاز - أولاً - إلى المقموعين في مواجهة القامعين، كما ينحاز - ثانياً - إلى حق الاختلاف وحرية الاختيار مقابل الإجماع القسري وإلغاء حرية الفرد في أن يعتقد ما يشاء من معتقدات. وأخيرا، ينحاز إلى المجتمع المدني المفتوح والعقيدة الدينية السمحة، في مواجهة محاولات إقامة دولة دينية تعتمد على العنف، سواء في تأويلات ممثليها التي لا تخلو من التعصب، أو في ممارساتها المتعددة التي لا تفارق العنف في نزوعها القمعي. ولذلك يبدأ السرد وينتهي من المنظور المدني لوعي الراوي الذي يريدنا أن نلتفت إلى المنحى الروحي السمح لجماعة "إخوان الطريق" مقابل المنحى التعاليمي الصارم لجماعة "شعبة الإخوان"، كما يريدنا أن نستخلص من علاقات التضاد تميز المواقف والاتجاهات، وعجز الجميع عن المواجهة الجذرية لاحتمالات تكرار مأساة التطرف التي راح ضحيتها "المعلم عوض الله" بلا ذنب ولا جريرة، وباسم دين يدعو في ذاته إلى الاختلاف وعدم الإكراه، واحترام اختيار الناس لدياناتهم ومعتقداتهم. والاستباق السردي لازمة دالة من لوازم الراوي العارف بكل شيء في هذا السياق، إذ لا يكف الراوي عن لفت انتباهنا إلى ما يرهص بنهاية الأحداث، أو يومئ إليها منذ البداية. وأمثلة ذلك كثيرة منها تنبيه المعلم عوض الله لنفسه، منذ البداية، بضرورة البحث عن كفر مسيحي "فيه كنيسة وراع صالح". ومنها تيبُّس أعضائه من الخوف، وإحساسه بأنه "يسقط في جب" عندما ينغلق عليه وعلى أسرته باب الغرفة التي استضافهم فيها علي أفندي، الأمر الذي انعكس على زوجه التي قالت له في صوت مرتعش: "ليتنا نخرج من هنا". ولا يتباعد عن دائرة الاستباق تصاعد شعور المعلم عوض الله بأنهم يواجهون شيئاً غريباً لم يحسبوا له أبدا حسابا، فيتذكر وجه أبيه على فراش الموت، وصوت الست جبونة الخفيض الذي ملأه القهر، فلا يملك سوى أن يهمس: "يا يسوع المسيح.. يا ابن الله.. خلصنا". وكل ذلك قبل أن تتدافع الأحداث، ويعاني "المعلم عوض الله" محنته التي تفضي به إلى الموت الذي رأى علاماته من قبل أن يدخل التجربة الكابوسية. ولذلك يقول لزوجه التي طالبته بمفارقة القرية: إن الأوان قد فات. ويوازي ذلك علامات الاستباق التي تنتجها بقية الشخصيات في السرد، ابتداء من طفل علي أفندي الذي يبكي حين يفارق دراهم "المعلم عوض الله"، مروراً بعبدالعزيز الذي ينقبض قلبه حين يلمح وجوه الأسرة تحدّق في رعبً، وانتهاء بعلي أفندي الذي سرت برودة الخوف في عظامه عندما تصاعدت الأحداث. وغير بعيد من ذلك العمدة الذي رأى في "عوض الله" - منذ البداية - فأراً سقط من السقف، مصيره الموت، وعصر قلبه خوف غامض مع اقتراب موكب "المعلم عوض الله" بعد أن أصبح اسمه "المهدي". وبقدر ما يؤكد الراوي العارف بكل شيء وجهة نظر المؤلف المضمر من خلال ترتيب الأحداث، وعلاقات الشخصيات، يفعل الأمر نفسه بالطريقة التي يرسم بها الملامح الجسدية والروحية للشخصيات المتقابلة أو المتوازية. لذلك تبدو الملامح الجسدية للأخ طلعت، على سبيل المثال، دالة على الموقف السلبي المضمر في السرد من تصلّبه الفكري، وذلك على نحو يرد ممارسات عنفه على ملامح جسده، سواء من حيث الإشارة إلى ضخامة الحجم، وتدلّي الفك، وجحوظ العينين، والرأس المبططة كأنها قرص قائم بين الكتفين، واعوجاج الحاجز الأنفي الذي يترتب عليه جفاف الحلق ومصمصة الفم بصوت مسموع، وأخيرا لحم الأسنان الذي يدمي بلا انقطاع ويجعل ابتسامته مقززة. أضف إلى ذلك الميل إلى التظاهر بغير ما هو عليه الواقع، ومن ثم ادعاء الانتساب إلى أكبر أسرة في "محلة الجياد" زلفى للأسرة التي فيها العمودية، بدل الانتساب إلى عائلة "أبو حبة" الصغيرة الهزيلة، وإلى أب مدرس قليل الشأن في المدرسة الإلزامية، فيما يقول الراوي على لسان علي أفندي. وإذا كانت كل هذه الصفات السالبة لا تنفي طيبة طلعت، فإن هذه الطيبة فيها "شيء من البلاهة"، وتجعل صاحبها أقرب إلى الدبة التي يمكن أن تقتل صاحبها. وقد يجد القارئ شخصية سعيد، شقيق طلعت، أقل تنفيراً، ربما لأنها تلعب دوراً أقل مباشرة في الأحداث المتصلة بمأساة "المعلم عوض الله"، فهناك القدرة الخطابية التي تملك مشاعر الناس، وتسيطر عليهم، وتثير انفعالاتهم بما يدفعهم إلى الانضمام لهؤلاء الفتية، رهبان الليل وفرسان النهار. ولكن هناك الرغبة في إذلال الناس بواسطة الخطابة، وتغذية شعورهم بالذنب، ومخايلتهم بأن باب التوبة لا يفتح إلا في اتجاه الجماعة الدينية التي ينطق سعيد باسمها، ويترأس تحرير مجلتها، ويتنقل ما بين أحياء القاهرة القديمة والجديدة، مؤكدا دلالة الثروة التي تدخل في دعم عمل الجماعة، ومعنى الطاقية الباكستانية التي تدل "على علاقة قوية بدولة باكستان الإسلامية". ولا تخلو الدلالة من الالتباس الذي يتجاوب مع طبيعة العلاقة بين صبحي وسعيد، وهي علاقة على النقيض في التباسها من علاقة المريد بالقطب، أو الأخ بأخيه في جماعة "إخوان الطريق". هذا الانحياز الواضح الذي يبديه الراوي بشكل غير مباشر، مبيناً عن وجهة النظر المتضمنة في القص، يتكشف تدريجاً، عبر تقنية "المونتا" التي ينبني بها السرد، متنقلاً ما بين مشاهد متباينة في الظاهر، متجاوبة في الدلالة الكلية التي ترد التكثر إلى وحدة التنوع التي تتجسد عبر الأوجه المتعددة والزوايا المختلفة لسياقات الحادثة الأساسية الواحدة. والانتقال بين المشاهد المتباينة سريع، يميزه الإتقان لصنعة القص أو حرفته، فلا يشعر القارئ بمفاجأة الانفعالات ما بين الأحداث والشخصيات التي تتباعد مواقعها، داخل الفضاء الروائي، لكن تتجاوب دلالاتها داخل المقاطع التي تصوغ ستة عشر مشهدا يتكون منها السرد، وذلك ابتداء من المشهد الاستهلالي للعم علي أفندي الذي يملؤنا بالتعاطف معه في تغرّبه عن قريته الأصلية، حيث منبع إخوة الطريق، نتيجة عمله في قرية محلة الجياد، وانتهاء بالمشهد الختامي الذي ينتهي بامرأة المعلم عوض الله، وهي تتسلل وسط الجموع الصاخبة لتلقي بنفسها على المهدي، وتأخذه إلى صدرها، وذلك في لحظة صمت بالغة الدلالة، أغرقت هدير الجماهير في بئر ليس لها قاع، وصمت يطنّ بعمق، والناس ترى فلة تأخذ المعلم إلى صدرها، وترسم على صدرها علامة الصليب، وهي تصلي بحرقة: باسم الرب يسوع المسيح. وتؤدي رشاقة الانتقالات بين المشاهد دورها في إبراز ما بين هذه المشاهد نفسها من علاقات تؤكد - فضلا عن التقابلات الحدية التي أشرت إليها في الفقرة السابقة - تعدد الأصوات الذي يحاول السرد تأكيده بطريقته الخاصة، والتوازي بين الأحداث والمواقف والشخصيات، فضلاً عن الموازيات الرمزية التي تضيف إلى تتابع الأحداث ما يسهم في تعميق دلالاتها وتأكيد الحضور الرمزي للشخصيات. وأخيرا، المتناصات التي تلعب دورها في خدمة النص، سواء على مستوى وصله بنصوص أخرى لعبدالحكيم قاسم نفسه، أو نصوص خارج دائرة الكاتب، وتقع في تراثه، أو في أنواع الخطابات السائدة في مجتمعه. أما تعدد الأصوات فإن الراوي يحاول تأكيده بأن يبني كل مشهد من مشاهد السرد على صوت شخصية بعينها، تضيف إلى تتابع الأحداث، وتمضي بها إلى ما يغدو تمهيداً لما بعدها، وذلك في نوع من الحرص على أن نسمع النجوى الداخلية لكل من الشخصيات الفاعلة في القص، ابتداء من العم علي أفندي الذي يسهم في المأساة من دون أن ينتبه، مروراً بالمعلم عوض الله الذي يؤدي دور الضحية هو وأسرته، وانتهاء بالأخ طلعت الذي يلعب دور الجلاد، وتؤهله له ملامحه. وما بين ذلك تتوزع بقية الأصوات: العمدة والشيخ سيد الحصري وعبدالعزيز وغيرهم. وإما أن تنفرد الشخصية بالمشهد ليهيمن حضورها عليه، أو ينفتح المشهد لنجواها على نحو خاص، أو أن نسمع صوت هذه الشخصية في حديثها مع أشباهها أو أضدادها على السواء. ويحمل هذا التعدد الصوتي معنى من معاني الحوارية، يتيح لكل شخصية أن تصوغ عالمها الداخلي بلغتها الخاصة. ويترتب على ذلك اختلاف المستويات اللغوية للخطاب الداخلي أو حتى الخارجي للشخصية، بحسب موقعها من السياق ودورها في السرد، وبما يتناسب في الوقت نفسه مع تكوينها الثقافي والديني. ومثال ذلك شخصية المعلم عوض الله وزوجته، حيث لا يقتصر الأمر على ملامح الوجوه وعلامة الصليب على المعاصم، وعدم استخدام التحية الإسلامية السلام عليكم ورحمة الله بل استخدام التحية المسيحية نهاركم سعيد.. مبارك، وإنما يمتد إلى مفردات الخطاب وتراكيبه الدالة التي لا تخلو من تراكيب الصلوات الإنجيلية ومجازاتها ومتناصاتها. ويتيح الراوي الفرصة لتيار وعي الشخصيات لكي يبين عن نفسه، في التماعات سريعة، تجعلنا نقترب من داخل الشخصية، ونتعرف عليها عن قرب. لكن يلفت الانتباه في هذا المجال، أننا بالقدر الذي نستمع فيه إلى بعض التماعات تيار الوعي لكل من علي أفندي والشيخ سيد الحصري وعبدالعزيز والعمدة، لا نستمع بالقدر نفسه، إلى ما يمكن أن نطلق عليه التماعات تيار وعي مجموعات التطرف في الرواية التي يمثلها كل من "الأخ طلعت" و"الأخ سعيد" حتى تابعه صبحي، ومن ثم لا نرى هذه الشخصيات إلا من الخارج، ولا تتاح لنا الفرصة للغوص عميقا في وعيها، لندرك العمليات العقلية الشعورية أو اللاشعورية التي يتم بواسطتها تبرير السلوك الذي يقود إلى أفعال العنف أو ممارسات القمع. إننا نستمع من الخارج، مثلا، إلى إدانة "الأخ طلعت" لجماعة إخوان الطريق التي ينتسب إليها علي أفندي، ويصف عملهم بأنه وثنية. ولكن هذا هو الصوت الخارجي، فماذا عن الصوت الداخلي الذي يكشف أعماق شخصية "الأخ طلعت" وهو في حالة الفعل؟! إن غياب هذا الصوت يباعد بيننا وبين معرفة أوهامه الخاصة، ويحول بيننا ومراقبة أحلامه وهواجسه، بل حتى كوابيسه، فضلا عن صراعاته وتناقضاته وتعارضاته الخاصة، فنظل بعيدين عنه، كما يظل بعيدا عنا، لا نراه سوى من الخارج بوصفه نمطي الملامح، أمثولة وحيدة البعد، واحدة الدال والمدلول. وينطبق الأمر نفسه على سعيد الذي نراه رئيساً لتحرير مجلة لا نعرفها، وقياديا بارزا يقود التجمعات المختلفة، وخطيبا مفوّها يؤثر في الجماهير، وسياسيا يعرف الدهاليز ومواطن القوة والدعم المالي. ولكننا لا نراه في توحّده حين يخلي نفسه من كل شيء، ويبقى في حضرة شعوره الخاص، أو نجوى تيار وعيه. حتى علاقته بصبحي لا نراها إلا على سبيل اللمح الذي يكفي اللبيب الذي يفهم بالإشارة. لكن ماذا عن تحولات صبحي الداخلية، منذ أن وجد في جماعة الإخوان ملاذه من قسوة حياته العائلية، ومنذ أن استراح إلى أن الحكم بكتاب الله في أمور دنيانا سيجعل دنيانا أحسن؟! وماذا عن تركيبة الإحساس بهذه اللحظة الفريدة من الرضى العميق، وهو إلى جوار سعيد الذي "قبّله في شفتيه قبلة فيها كل الحب والأخوة الإسلامية". بعبارة أخرى، إننا لا نرى سعيد أو صبحي في تفرده الإنساني، وكلاهما مثل طلعت، لا نسمع صوته الداخلي، بل صوت الراوي العارف بكل شيء، المهيمن على كل شيء، ذلك الذي يمكن أن يسمح لأشباهه بالحضور، كما يسمح لنا بالاقتراب من عالمهم الداخلي. أما نقائض هذا الراوي، أو نقائض المؤلف المعلن أو المضمر، فمحكوم عليهم بالبقاء على مستوى السطح، الظاهر، حيث البعد الوحيد الذي يليق بالأمثولة السردية. هل يرجع السبب في ذلك إلى عدم معرفة المؤلف المضمر أو المعلن بمكونات الوعي الداخلي لمثل هذه الشخصيات، وافتقاره إلى المادة الحميمة الوفيرة التي تتيح له بناء شخصيات نقائضه من الداخل؟! وهل يرجع السبب كذلك إلى خوف المؤلف المعلن من الدخول إلى المناطق الشائكة لوعي أو لاوعي أمثال هذه الشخصيات، ذلك على الرغم من جسارته الاستثنائية في معالجة موضوع بالغ الحساسية، مثل فرض الدين الإسلامي فرضاً على قبطي بائس ليس في موقف الاختيار بأي حال من الأحوال؟ وهل يمكن، أخيراً، أن يكون السبب فنياً خالصاً يرجع إلى رغبة المؤلف المضمر أو المعلن في إبقاء مثل هذه الشخصيات داخل دائرة الأمثولة التي تكشف عن نتائج السلوك المتطرف، لا عن الآليات العقلية التي ينبني عليها هذا السلوك؟ كل هذه الاحتمالات ممكنة. ويمكن أن أضيف إليها نفور الراوي من هذه الشخصيات والحكم عليها من الخارج، وسلفاً، من دون استعداد، لاستماع أية محاجة داخلية. ولذلك ينتهي الراوي إلى التفضيل المضمر لتديّن جماعة إخوان الطريق، مع أن المجلي اليافع لهذا الراوي، في "أيام الإنسان السبعة"، ثار على أفكار الطريق الصوفي السلبية عندما نضج، وشاهد انحدار العالم الذي ينتسب إليه والده الحاج كريم، وسقوط الحاج كريم نفسه فريسة المرض الجسدي والعقلي.