تمضي تجربة عازف العود والمؤلف الموسيقي العراقي نصير شمة قدماً مع اسطوانة جديدة، صدرت في اسبانيا الأسبوع الماضي وحملت عنوان "مقامات زرياب - من الفرات الى الوادي الكبير". وفي حين يشير شمة المقيم منذ 5 سنوات في القاهرة استاذاً لفنون العزف على العود في "دار الأوبرا المصرية" الى ان اسطوانته الرابعة بعد "قصة حب شرقية" و"اشراق" و"رحيل القمر"، كانت قراءة لشكل الموسيقى التي قدمها زرياب حين صار العازف الأول في بغداد العباسيين وبعد هجرته الى الأندلس، فإنه لا يضع عمله في اطار توثيقي، بل يؤلف موسيقى جديدة ضمن الأبعاد المقامية لزرياب، بما يجعل من الاتصال بينهما امراً ممكناً. عود نصير شمة في اسطوانته الجديدة يشرق روحاً وفكراً موسيقياً لافتاً. فالمستمع سيجد فيها متعة صافية، وسيجد فيها عازف العود مهارات مركبة وأساليب في العزف تشبعت بمدارس عدة مثلما سيجد بناء في التأليف يجمع بقوة بين المقام الكلاسيكي واللمسة المعاصرة. وعن اسطوانته الجديدة، وهذا الانشداد الى موروث زرياب يقول شمة: "على مدى أربعة أعوام قرأت كل ما كتب عن شكل الموسيقى التي قدمها زرياب عندما صار العازف الأول في بغداد وعندما هجرها الى الاندلس، كنتُ أشعر دوماً وأنا أقرأ، ان زرياب يريد أن يمنحني سره... لذلك تمرنت كثيراً لأترك نفسي بين بوح زرياب وبين العود وحين انتهيت من تسجيل كل الأعمال الموسيقية وجدت أنها لا تشبه كل أعمالي السابقة، خصوصاً ما يتعلق بالارتجالات والمقامات. لم تكن تقليدية بالمعنى المتعارف عليه في عالم العود ولم تكن اعادة لشكل المقام العراقي الذي درسناه في بغداد، بل كانت مساحة حرية واسعة لم أشأ الانتهاء من اللعب داخل فضاءاتها المبهرة". جانب غنائي وفي الأسطوانة التي سيقيم شمة حفلة توقيعها في القاهرة الشهر المقبل "مفاجأة" نادرة يقدمها صاحب "حلم مريم"، اذ ان الجذل استبد به وهو يعزف لحنه المقام على نص صوفي لأبي مدين الغوث، فراح يغني بطريقة لم يمتلك فيها المنتج الإسباني وصاحب شركة "نيوما" المعنية بالموروث الموسيقي الأندلسي، الا ان يصر على جعل المقطوعة المغناة بصوت نصير جزءاً من الاسطوانة. وكان شمة قدم مجموعة من الألحان المقامة على شعر ابي الغوث قبل نحو شهرين في القاهرة غناها المطرب المغربي فؤاد زبادي، ضمن قوالب جمعت بين الأشكال اللحنية الكلاسيكية ولمسة الحداثة في مقاربة شكل "القصيدة الغنائية". ومن المقامات التي صاغ وفقها شمة رؤيته لموسيقى زرياب، "مقام الحجاز" الذي جاءت مقطوعة "ضوء الروح" على اساسه، وزخرت بفيض من الحزن الذي رفعه التأمل الى درجة من الوجد الغني يالإيحاءات. كذلك كان هناك في الأسطوانة "مقام الرست" الذي يعد المقام الأهم عربياً، وبدا كأنه يصف خطوات زرياب وهو على أبواب الأندلس يستقبله خليفتها. وفي "مقام الأوشار" كان هناك الحنين الى انغام كردستان العراق وبيئتها الجغرافية والاجتماعية والثقافية، وقدم شمة في "مقام النهاوند" وصفاً لعلاقة زرياب بتفاصيل اللياقة والسلوك الأنيق. أما عن موسيقى "للروح حديث" ففي هذا العمل مزيج من الشفافية وسرعة الاداء بطفولة الروح وتوقها للانطلاق ولحظات الانكسار التي تقطع هذه الانطلاقة لتعرقلها بالألم. أما "مقام الصبا" فعزفه بشجنه وحزنه الشفيف الذي يفرض نفسه حتى لو جاء ضمن عمل موسيقي يضج بالتقنية والحركة والفرح. وعن المختلف في اسطوانته الجديدة يقول شمة: "وضعت في هذه الاسطوانة، خبرة تمتد منذ عام 1982 وحتى أواخر2002. لم اشأ استعراض مهارات عزف بقدر ما أردت جعل الموسيقى لسان حالي ومجتمعي وبيئتي وثقافتي وهويتي، وامتداداً لعلاقتي بالآخر الذي اتواصل معه بالموسيقى. في هذا العمل بوح بمشاعر متغلغلة ما بين المقامات والارتجالات والمؤلفات والتقاسيم". وعن نسيج نغمي مأخوذ من "المقام العراقي" والموروث الغنائي البغدادي، يمكن التعرف اليه في اسطوانة "مقامات زرياب"، اوضح صاحب مقطوعة "من اشور الى اشبيلية" ان "المقام العراقي شكل من اشكال الفلسفة لكن أدواته النغم وليس الكلمات واستخدمه العلماء والحكماء أمثال الفارابي والكندي والأرموي وابن سينا وآخرون في هذا الاتجاه. وهكذا اختاره زرياب علماً وفناً ليكون معينه في "أندلس الثقافة المزدهرة" ليؤسس من خلاله أشكالاً موسيقية وغنائية متعددة. وينشغل بزرياب اليوم جمع من الباحثين والمريدين فقط كي يوثقوا ما وضعه، وما نقله عن استاذه الموصللي وما كان إرثاً عراقياً حين قدم الى الاندلس".