في عام 1901، ظهرت الطبعة الروسية الأولى لكتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" على يد المتدين الروسي المتعصب سيرغي نيلوس. ومنذ ذلك الحين وهو ينتشر في العالم مثل وباء معد، فلم تبق لغة في العالم لم ينقل اليها، ولم يوجد بلد لم يوزع فيه. والكتاب لم يكن ليظهر إلا في روسيا، بلد الثورات الدائمة والمؤامرات "التي لا تفهم بالعقل وحده". وكانت روسيا، على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين، مقبلة على الانفجار في أي لحظة. وعوضاً عن اكمال الاصلاحات التي بدأها القيصر الكسندر الثاني، بواسطة تخفيف القبضة البيروقراطية عن أعناق الأقلية اليهودية، وتحرير القنانة في عام 1861، قام خلفه القيصر المحافظ الكسندر الثالث، الذي اعتلى العرش في عام 1981، بتجميد الاصلاحات هذه، وأعاد التضييق على اليهود في حقوقهم المدنية وحدد فرص حصول اليهود على التعليم. وخنقت هذه الإصلاحات، على يد آخر القياصرة العنصري والضيق الأفق نيقولاي الثاني، الذي غض النظر عن المذابح التي جرت في حق اليهود في مختلف مدن الامبراطورية. لم يبق لدى المواطنين إلا الثورة. وبالطبع وجد كثير من اليهود بين من رفع رايات الثورة. وحاربت الشرطة السرية الروسية، ببطش الثوار واستخدمت كل الأسلحة الممكنة. ونشط راتشكوفسكي، أحد أكبر ملوك التزوير في تاريخ روسيا، لتشويه التاريخ اليهودي. ونقل رجال راتشكوفسكي أكثر من نصف كتاب الأديب الفرنسي موريس جولي، الذي دفع حياته ثمناً لمهاجمته حكم نابليون الثالث، وحوروه، وأضافوا عليه، بلغة فرنسية ركيكة، الفصول الباقية. فأصبحت حوارات الأديب الفرنسي الفلسفية بين ماكيافيلي ومونتسكيو محاضر لجلسات حكماء صهيون السرية الهادفة الى السيطرة على العالم. ثم ترجم الكتاب المحوّر الى اللغة الروسية. وعندما علم القيصر نيقولاي الثاني بتزوير الكتاب رمى به جانباً قائلاً: "لا يجوز الدفاع عن الأهداف الطاهرة بوسائل قذرة". وأصبح كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، منذ ذلك الحين "كتاب العنصريين المقدس". واعتمد على الكتاب هذا هتلر في وضع كتابه "كفاحي". وظهرت مئات الطبعات من "البروتوكولات" في مختلف بقاع العالم، وظهرت الطبعة العربية في مصر عام 1951. ولقي الكتاب انتشاراً واسعاً في صفوف العرب الذين تضرروا من التضييق على اليهود في أوروبا، ومن انتشار الحركات الصهيونية بين هؤلاء. وعوضاً عن البحث في أسباب عجز الخلافة الإسلامية في اسطنبول، والقادة العرب، عن الدفاع عن القدس الشريف، وعوضاً عن فضح الحركات السياسية الصهيونية، التي تنافي العقيدة اليهودية الموصية بانتظار "المسيح"، تجرى محاولات متواصلة لتبرير فشل العرب الذاتي بتضخيم قوة العدو، وتحويل الصراع الى حرب دينية ثأرية بين الإسلام واليهودية. ولمحاربة العدو "التاريخي" بررت الغاية الوسيلة عند العرب، وأصبح كل عدو لعدونا صديقاً، وإن كان عدو الإنسانية جمعاء. ويسمح هذا المنطق بفهم تأييد سماحة الشيخ أمين الحسيني للنازيين الألمان الذين أحرقوا بني البشر في أفرانهم، ويفهم تأييد السياسيين العرب وكثير من رجال الدين المسلمين للشيوعية الالحادية الديكتاتورية في الاتحاد السوفياتي. وفي بعض الأحيان يلوى عنق الحقائق الإنسانية التاريخية الراسخة على مدى الدهور في سبيل أهداف سياسية آنية. وعلى سبيل المثال يضع أحد المواقع الالكترونية العربية، وهو نشر أخيراً هذه "البروتوكولات"، موضع الشك حادثة أوردتها التوراة عن قتل موسى لقبطي في مصر دفاعاً عن أحد الاسرائيليين على رغم ورود هذه الحادثة في القرآن الكريم في سورة "القصص". إن هذا الكتاب خرافة مضللة، ومضرة بالقضية الفلسطينية. لقد فضحت محكمة غريمستاون، في جنوب أفريقيا في 21 آب أغسطس 1934، ومحكمة بيرن في سويسرا في 14 أيار مايو 1935 أكذوبة البروتوكولات المعمرة. موسكو - حبيب فوعاني صحافي لبناني عربي ومسلم [email protected]