لم يعرف التاريخ الحديث كتاباً او وثيقة كان لهما ذاك الاسهام الذي كان ل"بروتوكولات حكماء صهيون" في تأسيس الوعي الخرافي، والعنصري تالياً. ولم يعرف التاريخ الحديث كذلك كتاباً او وثيقة كان لهما ذاك الانتشار الذي كان للبروتوكولات، على رغم بداهة رفضه وإدانته من قبل "أذكياء العالم". على أن الذكاء لم يردع مرة من المآسي، بما فيها مآسي التردي الذهني العام. والمؤسف أن العرب المتأثرين بالعدوان والظلامة اللذين نزلا بالفلسطينيين، لم يكونوا في منجاة من هذا الانتشار، فتولى محمد خليفة التونسي وعجاج نويهض وغيرهما "تنويرنا" ب"حقائق" الكتاب التي سطعت في العالم بأسره، وأضافوا الذين صدّقوه بيننا الى الذين صدّقوه في كل مكان آخر من الكون. وتبدأ قصة البروتوكولات الأشهر مع ان البروتوكولات نفسها لم تُشتهر عالمياً إلا بعد الثورة الروسية والحرب الاهلية، مع تولي نقولا الثاني العرش القيصري في 1894. لكن التولي هذا اكتنفته "عِبَر" تجربتين سابقتين لقيصرين سابقين. فاسكندر الكسندر الثالث كانت البيروقراطية البدائية التي ورثها عن اسلافه علّمته درساً شهيراً واظبت على تلقينه اياه. ومفاد الدرس ان سلفه اسكندر الثاني، الاصلاحي قياساً بباقي آبائه واجداده، ما كان ليقضي بقنبلة يلقيها الثوريون الراديكاليون عليه، لو انه كان حازماً وقوياً. هكذا بات على اسكندر الثالث، ومن ثم نقولا الثاني، ان يتعلما الامثولة الذهبية التالية: ان القمع والاضطهاد هما السبيل الوحيد الى التعامل مع قوى المعارضة الراديكالية ومع اليهود. فهؤلاء مجتمعون، وهم في النهاية وبحسب الخرافة: واحد، هم مصدر الخطر على الحكم والسلالة، ومن ثم على مستقبل روسيا، ومن غير الجائز ان لا تترتب على "المعطيات" هذه سلوكيات مطابقة. هنا يبدأ المسلسل الجهنمي الذي يشبه جهنمية البروتوكولات نفسها، بغض النظر عن فعلية الاول وافتعال الثانية. ففي الحبكة المفضية الى الوثيقة المزعومة، والتي شكلت خلفيتَها وتمرينَها الاولي في آن، لعب دورَ الايحاء رجلٌ يدعى جاكوب بارفمان Brafman، المرتد عن اليهودية مثل مرتدين كثيرين آثروا الأمان، او آثروا الانتهازية. وقد عُين برافمان هذا في 1858 استاذاً للعبرية في معهد لاهوتي ارثوذكسي، بمهمة خاصة اوكلت اليه هي مكافحة ديانته السابقة. وخلال عمله ذاك وضع كتاباً وُصف رسمياً بالجرأة، وحوى استشهادات بالتلمود بالغة الانتقائية. اما فكرته الرئيسية فزعمه ان الكاهال، على رغم الغائه رسمياً وفعلياً عهد ذاك، ما يزال قائماً بالسر على شكل حكومة مستترة تعمل على نطاق عالمي، ولا تكف عن التآمر لاطاحة العالم المسيحي. والكاهال، الذي يعادل المجلس الملّي العثماني في العالم الاسلامي كما يفوقه كثيراً لجهة الصلاحيات التي يتمتع بها تعليماً وتشريعاً وجبايةً للضرائب، هو نتاج لحظات من التسامح النسبي والعابر عرفتها بولندا، لتتعمم لاحقاً على بلدان اوروبية اخرى. وفي وصفه لحكومة يهودية عالمية وسرية، اوكل برافمان المهمة المركزية لمعاهد "الاليانس الاسرائيلي"، وهي مدارس انشأها يهود فرنسا لتسهيل تعليم ابناء اليهود في العالم. وتحديداً هنا ارتسمت الملامح العامة للمؤامرة، كما تم انتخاب الهيئة "العالمية" المولجة بها. غير انه بدا مكملاً لهذا التقدير الاوليّ تعيينُ مهام للتنفيذ، فأعطت موسكو تعليماتها للسفارة الروسية في باريس كي تحصل على مزيد من "البراهين" التي تقطع بالنوايا الشريرة لليهود. اما في الداخل فتولّت الحكومة القيصرية، منذ 1866، ارسال نسخ من "كتاب الكاهال" الذي طبعته على نفقتها، الى حكام المقاطعات وكبار المسؤولين الرسميين كافة. وكان لمناخ الكراهية الذي فاقمه الكتاب ان ساهم في تشجيع السلطة على عدم التدخل لوقف بوغروم مذبحة مدينة اوديسا في 1871، مُدشّنةً نهج "الحياد" والاستقالة من مهام التحكيم وضبط الأمن، الذي لم تشذ عن اتباعه حيال البوغرومات اللاحقة. على اية حال تولى جمع "البراهين" وتنسيق حركتها وطرق اشتغالها موظف في الاستخبارات يدعى راشكوفسكي Rachkovsky الذي كان قرأ ذات مرة عن مؤامرة سرية ظن انها تناسب الغرض المطلوب وتستكمل عناصره. لكن يهودياً تحول لاحقاً، مثل بارفمان، الى المسيحية، يدعى الدكتور دو سيّون de Cyon كان من كتب تلك المادة الخرافية، ولم يكن راشكوفسكي متأكداً مما اذا كان المؤلف، الذي هو ايضاً طبيب بارز وصحافي ورجل مال، سيسمح باستعمالها. بيد ان دو سيّون، على عكس برافمان، كان كتب ما كتبه لأسباب تتصل بهواية شخصية لديه اكثر بكثير من اتصالها بما يبحث عنه راشكوفسكي. فالطبيب البارز هذا كان اعتاد على تسلية شخصية مفادها اختيار هجائيات ادبية قديمة ومطابقتها على اوضاع راهنة، ثم توزيع ما تنتهي اليه محاولاته على اصدقائه. ولما كان يشمئز من الكونت دو ويت de Witte، احد وزراء المال الروس، اختار هجائية سبق ان قيلت في نابوليون الثالث، وطمسها الاخير حتى لفّها النسيان الكامل، فعمل دو سيّون على استخدامها ضد الكونت الروسي. ذلك ان كاتب تلك الهجائية، موريس جولي M. Joly، كان قد تخيّل "حواراً في الجحيم" بين مكيافيللي ومونتسكيو، يبين فيه الاول كيف ان المبادئ السياسية للأخير يمكن تخريبها والعبث، بسهولة، بها. وسرق راشكوفسكي النص المحوّر من دو سيون واستبدل دو وايت بپ"حكماء صهيون"، ثم تولى التحريرَ راهبٌ من حاشية القيصر اسمه نيلوس Nilus، ثم سُلمت نسخة للقيصر نقولا موجودة حالياً في مكتبة الكونغرس في الولاياتالمتحدة الاميركية. هكذا ظهرت البروتوكولات للمرة الاولى في حوالى 1895 بوصفها ثمرة ابداع اعضاء البوليس السري القيصري العاملين في باريس. ويبدو ان نقولا الثاني نفسه انما شكك في صدقية الوثيقة هذه. وعلى اية حال فهي لم تُحدث آنذاك اي اختراق في روسيا، الا انه حين جيء بها الى الغرب على ايدي الضباط البيض الروس بعد هزيمتهم وانتهاء الحرب، بات للوثيقة الزائفة سحرها الذي لم تظفر بمثله الا كتب قليلة جداً في التاريخ. ففي روسيا نفسها، وفي سياق الحرب الاهلية المريرة 1918 - 1921، استعمل قادة البيض البروتوكولات استعمالاً بالغاً لاقناع الشعب بأن الثورة البلشفية ليست اكثر من مؤامرة يهودية لفرض حكومة يهودية على روسيا، وذلك كخطوة نحو الهدف النهائي ل"السيطرة اليهودية العالمية". اما في الغرب فبدت البروتوكولات وكأنها تسكّن القلق حيال المجهول بتقديمها "تفسيراً" للثورات والتحولات التي تهز العالم القديم، خصوصاً الامبراطوريتين الروسية والهبسبورغية، مهددةً بتصاعد لا سبيل الى وقفه. كذلك فهي خاطبت القاسم المشترك الادنى بين جماعات قومية متباينة وحّد بينها البحث عن اكباش محارق، وعن صد الهجرات السكانية الضخمة من الشرق والوسط الاوروبيين غرباً، ومن ثم عن اسباب وهمية تردّ اليها ظاهرات العالم المحيط جميعاً. هكذا عثرت الفانتازيا العُظامية في هذا النص المفبرك على تجسيد مادي لم يسبق له مثيل. والحال انه مع تقدم التحرر المجتمعي والقانوني ليطول اليهود اواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين، غدا المذكورون اشد بروزاً وعلنيةً في عدد من القطاعات الاقتصادية والثقافية، فبدت "بروتوكولات حكماء صهيون" ذاك التأويل النموذجي الذي يريح معارضي التحولات التقدمية. وسنة بعد اخرى شرعت تظهر ملايين النسخ في طبعة بعد طبعة. وكرّست صحيفة "المورننغ بوست" البريطانية الرجعية مسلسلات طويلة لمقالات خاصة تحلل "المؤامرة" ونجاحها البادي. وفي الولاياتالمتحدة فعل هنري فورد، قطب صناعة السيارات الشهير، الشيء نفسه عبر صحيفته "ذي ديربورن انديبندنت"، ثم اعاد نشرها في مسلسل متعدد الاجزاء سمّاه "الخطر اليهودي" تُرجم الى العربية مراراً، ليعترف، هو نفسه، في 1927 بخطأ معلوماته وتقديراته. وبدورها فالسيدة نيستا وبستر التي كانت تعتبر مرجعاً مهماً عن الجمعيات السرية، نشرت مادة تنذر بالخطر مما يحمله هؤلاء "الحكماء" تحت عنوان: "الثورة العالمية: المؤامرة ضد الحضارة". وكانت وبستر مهتمة في عشرينات القرن بتاريخ الثورة الفرنسية، كما تأثرت بمناخ المخاوف التي اطلقتها الثورة الروسية، فغدت تجسيداً حياً لخُواف الثورة، ووضعت كتباً دالة في عناوينها ك"الجماعات السرية". لقد صوّرت وبستر اليهود، في كتابيها "الثورة..." و"الجماعات..."، قوى شريرة وتآمرية، تضرب تآمريتهم جذرها في القرن الثامن عشر، من خلال التحالف مع مجموعة بافارية غامضة تدعى "المستنيرون" Illuminati، لتبلغ ذروتها وتتويجها مع البلاشفة الروس. وبالمعنى نفسه أفضت الحماسة بمجلة "سبكتايتر" البريطانية الى ان تطالب، تحت تأثير البروتوكولات، بتشكيل لجنة مَلكية كي تقرر ما اذا كان اليهود البريطانيون يخضعون حقيقةً لپ"حكومة سرية" ام انهم يخضعون لحكومة لندن. وانفجر الاهتمام بالوثيقة في اتجاهات متضاربة مع اكتشاف النسخة التي زوّرت من "حوار في الجحيم"، وفي 1921 نشرت "تايمز" اللندنية مقالات لمراسلها في اسطنبول الذي اكتشف نسخة من المنشور الفرنسي الاصلي ففضح "البروتوكولات" بوصفها تلفيقاً مخابراتياً. لكن هذا لم يحصل الا وقد أتمّ الكتاب نجاحه في تسميم المناخات الاوروبية لما بعد الحرب العالمية الاولى، وكان هناك ما يكفي من السم الذي استُغلّ لاحقاً خلال الكساد الاقتصادي للثلاثينات. وفي السياق هذا لعبت الوثيقة الزائفة دوراً بالغ الاساءة لليهود، خصوصاً المعذبين في اوروبا الشرقية والهاربين او المطرودين منها. اذ في وقت كان الاوروبيون منهم بحاجة الى العطف والتفهم حيال العنصريات الصاعدة، كانت البروتوكولات تحرّك في غير اليهود كل استعداداتهم للشك بهم والارتياب وعدم الثقة. وقصارى القول ان درجة التصديق التي حظيت بها تلك الوثيقة المزوّرة، رتبت من النتائج، وكُتب لها من الديمومة، ما يصعب تخيله. فعند الكثيرين من المثقفين الانسانيي و/أو العقلانيي الهوى، اثارت مرجعية البروتوكولات غير المنازَعة، تشاؤماً بعيداً في صدد الذكاء البشري نفسه، وكشفت الخصوبة التي يمكن ان يتحلى بها اللاعقلاني والوحشي في ظرف ما، مهما بدت العقلانية والنزعة الانسانية ظافرتين ومشعّتين. فهل يعقل، في النهاية، ان تنقاد الملايين الى تصديق خرافة وضعها رجال استخبارات؟ ألا يبعث هذا على الشك بعقل الملايين الذي يغدو، إذّاك، مقسوماً على... ملايين؟ * كاتب ومعلّق لبناني