تضيق الفسحة الزمنية امام الحكومة العراقية وتضيق معها الفرص والخيارات، وترتكب بغداد اخطاء فادحة اذا تصورت ان موجة مقاومة الحرب ستشكل للقيادة حزاماً امنياً او درعاً بشرياً يحميها من الحرب والمحاسبة، كما تخطئ جذرياً اذا راهنت على حاجة المفتشين للمزيد من الوقت ودعم بعض دول مجلس الامن لهم. فالتأجيل، اذا حصل، لا يعني الإلغاء. وموجة مقاومة الحرب، الشعبية والحكومية، ستنهار كزلزال اذا استغفلت بغداد المفتشين ولم تسرع الى استدراك الثغرات والاغفال في الاعلانات التي قدمتها. الكلام يزداد في المنطقة عن تحميل الرئيس صدام حسين مسؤولية الحرب على العراق واعتباره "عثرة" امام استقرار المنطقة وتجنيبها التدخل العسكري، والدعوات تتوالى لتنحيته عن السلطة في صفقات منفى خارجي او داخلي. لكل هذه الاسباب بقي امام الرئيس العراقي خياران: إما المغامرة، بانتحار، بمنطق "عليّ وعلى اعدائي"، فيضحي بالعراق. او اتخاذ القرار الاستراتيجي بانقلاب جذري على الفكر والذهن والقرارات التي أُدخلت في خانة "الاستحالة" ليبادر الى انقاذ العراق ونقله الى عتبة جديدة. أمامه المساهمة في نوعية شهادة التاريخ على ما فعله للعراق وما فعله بالعراق. ينطلق دعاة الحل الديبلوماسي ومعارضة خيار الحرب في العراق من حرصهم على العراق كبلد وليس من ولائهم للعراق كنظام. حماس بعضهم قد يترك الانطباع لدى اقطاب في النظالم العراقي بأن هؤلاء على استعداد لأقصى درجات التضحية، تحت أي ظرف كان، دعماً لمواقف الحكومة العراقية. صحيح ان هناك من يرى ان الولاياتالمتحدة لا يحق لها تغيير النظام في العراق، سلماً او حرباً، وأن اهداف الادارة الاميركية اكبر وأوسع من اطاحة النظام، وأن ايقاف الحرب يتطلب عرقلتها حتى ولو بدرع بشري في بغداد يطوّقها ويحميها من العمليات العسكرية. انما الصحيح أيضاً أن اكثرية معارضي الحرب في العراق لا توافق على امتلاك بغداد اسلحة الدمار الشامل، وتطالبها بالتعاون الفاعل مع المفتشين. وهي ايضاً لا تريد للعراق المضي بالوضع الراهن بلا دستور ولا حق للمعارضة ولا تعددية ولا ديموقراطية ولا أمل بالخروج من حلقة الاستبداد والعقوبات. الاكثرية بين دعاة معارضة الحرب، اذا خُيّرت بين بقاء النظام في السلطة وبين تجنيب العراق الحرب، تختار العراق على النظام. وهذا ما على الحكومة العراقية قراءته بواقعية بدلاً من التسرع الى استنتاج العكس. وكي تكون حركة السلم ومعارضة الحرب مفيدة وفاعلة وبناءة، عليها ان تجنّد جهودها ليس فقط في معارضة سياسة الاندفاع الى الحرب التي يتبناها بعض اقطاب الادارة الاميركية. عليها، أيضاً، مطالبة الحكومة العراقية بالاقدام على اجراءات وخطوات تثبت احترام الشعب العراقي وحقه في اختيار السلم على الحرب واختيار قيادته من دون قمع وعقاب. فتقليص المعادلة الى "مع" و"ضد" يعكس فكراً مبسطاً وبسيطاً. وضروري جداً لهذه المجموعة العالمية المهمة ان تضع استراتيجية تتضمن مطالبة الحكومة العراقية بأفعال سبّاقة ونقلة نوعية في نمط حكمها وفكرها، الى جانب الضغوط على الادارة الاميركية كي تعدّل سياساتها وتعدل عن سياق الاصلاح بالقوة العسكرية. ان دور معارضي الحرب على أهمية تتطلب توظيف الرأي العام العالمي ليس فقط للإصرار على تجنب الحرب وافرازاتها وانما ايضاً للإصرار على إحداث تغيير جذري في عقلية الحكم في العراق للإقدام على اصلاح صادق وعميق يجعله طرفاً اساسياً في نقل العراق من شفير الهاوية الى انطلاقة رائدة. مثل هذه الانطلاقة يتطلب قراراً في عمق القيادة العراقية يتعدى مجرد التكتيك للتغلب على التحديات الصعبة. والقرار صعب. فنادراً ما حصل في البقعة العربية أن قررت سلطة حاكمة أن البلاد قد تكون أفضل اذا خرجت عن قبضتها. ونادراً ما اقتنعت انظمة بأن التعددية والتناوب على الحكم ليسا كارثة. ونادراً ما فكّر قائد عربي بالتنحي من اجل وضع البلد فوق النظام. في وسع الرئيس صدام حسين الآن ان يسجل سابقة في المنطقة العربية يشهد له التاريخ بها اذا قرر وضع العراق قبل النظام. وبذلك يثبت انه فعل للعراق ومن اجل العراق. الاخراج عائد له. المهم ان يبادر الى القرار الاستراتيجي وان يرفض الانتظار الى حين الاضطرار. والخيارات عديدة، اذا اتخذ الرئيس العراقي القرار الاستراتيجي فالمهم التوصل الى الاستنتاج بأن مصلحة العراق، اليوم، تقتضي نقلة نوعية في ذهن وفكر ومعدن القيادة العراقية. البعض يتحدث عن استقالة، وآخر عن نفي الى خارج العراق او داخله. هناك كلام عن "صفقة" تنحي تضمن الحماية من محاكمات على "جرائم حرب" وتوجد "دردشات" عن قرار اقليمي يُصنع بحيث تعلن قيادات المنطقة ان النظام العراقي لم يعد مقبولاً لأنه عنصر مخرب" في المنطقة. وهناك من بدأ بتقنين المخاطر على المنطقة، بما فيها مخاطر الاسلحة الكيماوية والبيولوجية، في شخص صدام حسين. والسؤال الذي تتناوله الاوساط العربية والدولية هو: ماذا سيختار صدام حسين؟ أهو في وارد التنحي عن السلطة أم انه في وارد العناد والبقاء في السلطة، هل في معدنه انقاذ العراق ام أن معدنه عاجز عن وضع نفسه في المرتبة الثانية"؟ ولأن الاجوبة مستعصية على الجميع، فقد توجد محاولات عربية وتركية وايرانية للبحث في الخيارات "بصراحة كاملة" حسب مطلعين على ما يجري في هذه المباحثات. محاولات "جريئة" ذات "مداخل جديدة" اساسها تعريفه "العثرة" امام استقرار المنطقة في شخص صدام حسين. بكلام آخر، ان عملية التطويق للنظام وللرئيس العراقي اقليمية ودولية، سياسية وعسكرية. والكلام لم يعد عن مجرد احتواء بمختلف درجاته، فهذه مرحلة ما بين اقصى الاحتواء وبين الحسم العسكري. ولذلك تبرز غاية الضرورة للإبداع والاقدام، شرط ان تكون صادقة تنبع من العمق ولا تكون محاولة التفاف. وهذا يتطلب مبادرات مدهشة، وبسرعة فائقة، من القيادة العراقية، قبل فوات الاوان. اولى الخطوات تتمثل في تقديم نجاح باهر لزيارة الرئيس التنفيذي للجنة الرصد والتعقب والتفتيش انموفيك الدكتور هانز بليكس، والمدير العالم للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي الى بغداد الاحد المقبل. هذا النجاح ممكن فقط في استدراك ما أُغفل في الاعلانات التي قدمتها الحكومة العراقية عن برامج اسلحة الدمار الشامل كما في سد الثغرات. أصعب الثغرات وأشدها تعقيداً التدمير الانفرادي للاسلحة المحظورة الذي تقول بغداد أنه حصل وأنها لا تمتلك الوثائق والاثباتات عليه. اذا صدقت بغداد بأنها لا تمتلك الادلة والوثائق لأن التدمير الانفرادي حدث اعتباطياً، عليها الخضوع لمطالب حددها بليكس والبرادعي وبينها السجلات والمقابلات مع العلماء والمسؤولين الذين قاموا بالانتاج والتدمير. وكما قال بليكس، فهذه ليست منتجات سكاكر "مربّى"، انها اسلحة دمار شامل، استخدمتها القيادة العراقية سابقاً، ولا يمكن الاسرة الدولية ان تكتفي بمجرد "تطمينات" من بغداد بأنها "دُمِّرت"، بعدما تم "اكتشاف" بعضها، كما في مزرعة دواجن، عبر منشقين أو باعترافات تحت سوط الاجراءات العسكرية. انها ضرورة فائقة ان "تكتشف" القيادة العراقية ما أغفلته سهواً في الاعلانات، وضرورة فائقة ان تنتقل بالتعاون من "الاضطرار" الى التعاون النشط قبل 27 الشهر الجاري. وامامها اقل من عشرة ايام. هذا الموعد، وإن لم يكن حاسماً للعدّ العكسي لموعد الحرب، فإنه موعد ادانة النظام في بغداد، اذا فشل في الاستدراك، انه تاريخ مهم في وضع حجر الاساس في "القضية" ضد العراق. ولن يهم اذا استغرقت محادثات مجلس الامن في الامر اسبوعاً او اسابيع. المهم ان القضية ضد النظام العراقي تُبنى لبنة بلبنة. وبعد استكمالها، ليس مهماً ان جاءت الحرب بقرار آخر عن مجلس الامن او بقراراته القائمة. وكما كان قرار الامتثال التام والكامل لهيئتي التفتيش قراراً استراتيجياً ينطوي على التخلي عن فكرة امتلاك اي قدر كان من الاسلحة المحظورة، كذلك يجب ان يكون قرار نقل العراق الى خارج قبضة الحكم الواحد قراراً استراتيجياً. وهذا يتطلب اقرار النظام العراقي بأن لا خيار امامه سوى المشاركة في تغيير النظام اذا اراد تجنب الاطاحة به قسراً. كيف يفعل ذلك، الامر عائد له: بالاستقالة، بطلب مساعدة الاممالمتحدة في بناء حكومة تمثل جميع العراقيين، او بالدعوة الى انتخابات حرّة باشراف دولي، باعلان الاستعداد لفرض اقامة جبرية طوعية على اقطاب الحكم، او بالرحيل الى المنفى وبترتيبات مع قادة المنطقة، او بالقفز فوراً الى ترتيبات مع بريطانيا لتوصلها الى الولاياتالمتحدة بخطاب للشعب العراقي، او بحديث الى وسيلة اعلام. القرار عائد الى الرئيس صدام حسين. فإذا بادر وأقدم على انقاذ العراق من الحرب والكارثة، فلن يبالي بتفسير الآخرين للقرار وسيترك للتاريخ أن يشهد له بأنه كان في وسعه ان يختار الدمار. ولم يفعل. العالم ينتظر الآن مثل هذه المفاجأة، التي يستبعدها. بل ان الاستعداد لتقبّل المعالجة غير الحربية للأزمة العراقية عارم. ويمكن للرئيس العراقي ان يمتطي جواد معارضة الحرب وافشالها وافشال أجندة دعاتها. بل يمكنه ان يحوّل الرأي العام العالمي المعارض للحرب الى قاعدة شعبية تقدّره لأنه وفّر وسائل انقاذ العراق من الحرب. وهذه شهادة تاريخية، فلا درع بشرية ولا حزام امنياً سيحمي العراق او النظام في بغداد. ان الدرع الحقيقية هي في قرارات القيادة العراقية. وقد حان الوقت لانهاء استخدام العراق كحزام امني لاقليم او لنظام.