عملياً، نقلت السياسة الأميركية مبدأ "الاحتواء" إلى عتبة جديدة في العراق ونجحت إدارة جورج دبليو بوش في استخدام الحزم السياسي المدعوم عسكرياً من أجل منع القيادة العراقية من استدراك سوء أنماط سياساتها. وحتى الآن، غلّب الرئيس الأميركي الخيار الديبلوماسي المنبثق من اجماع دولي لتناول الملف العراقي جماعياً، عبر الأممالمتحدة والمفتشين، على الحسم الانفرادي العسكري. بذلك حقق جورج بوش انتصاراً يمكنه ان يبني عليه بغير ما يبتغيه دعاة اجتياح العراق وبغير ما يبتغيه الفكر التقليدي في القيادة العراقية. ومن أجل تمكينه في هذا الاتجاه، على القيادة العراقية أن تنفذ استراتيجية الامتثال بزخم، وأن تبادر بصدق على مختلف الأصعدة، من نزع السلاح المحظور إلى إقامة الفيديرالية في العراق. وعلى بيئة العراق الاقليمية تمكين مبدأ "الأدلة" التي يتبناها رئيسا هيئتي التفتيش، من دون الايحاء لبغداد بأنها في طور الخلاص الموقت والعودة إلى أساليب الماضي المعهودة، كما عليها مساعدة الرئيس الأميركي على خوض المعركة ضد الحرب مع أقطاب في إدارته. بيئة العراق الاقليمية، بمعظمها، قنّنت مواقفها من الحرب في القرارات الدولية، وبذلك ساهمت في تعزيز الاحتواء على حساب الحسم العسكري وساعدت في دفع بغداد إلى الامتثال. بعضها تصرف على أساس أن الحرب حتمية. إنما هناك من وضع ثقته بأسلوب الحزم السياسي عبر قرارات الأممالمتحدة، مع إبراز الدعم العسكري الجدي له باجراءات، وراهن على تمكين المفتشين الدوليين كمدخل لتجنب الحرب ولوضع العراق والمنطقة على مسار جديد. حديث اليوم في كثير من العواصم يصب في خانة مطالبة الرئيس العراقي صدام حسين أو حضّه على التنحي، لتجنيب العراق الاجتياح. ومن الأهمية أن يصدر هذا الكلام عن العاصمة الأميركية، لأنه يناقض ويُفشل أجندة دعاة الاجتياح التي تتعدى النظام العراقي والعراق. جميل جداً لو تأتي مفاجأة إعلان الرئيس العراقي أن تجنيب العراق كلفة الحرب عليه تستحق التنحي عن القيادة. جميل جداً لو يبادر حزب البعث الحاكم إلى التنازل عن السلطة ويدخل طرفاً في انتخابات حرة تقرر أن كان سيبقى حاكماً أو معارضاً. لكن طالما ان عقلية المنتصر والمهزوم تتحكم فمن المستبعد أن تتخذ القيادة العراقية مثل هذه الخطوات. ولذلك، كي يكون في الإمكان التوصل إلى قرارات حكيمة، من الضروري فرز الخيارات المتاحة كما تقويم الحاضر والماضي من منظور جديد غير ذلك الذي ربط الانتصار ببقاء الرئيس العراقي وحزب البعث في السلطة، وربط الهزيمة بزوال النظام. واشنطن أيضاً عليها إعادة النظر في معادلة الانتصار والهزيمة. فإلحاق الهزيمة بالنظام العراقي وصدام حسين لا يعني أبداً الانتصار التلقائي للولايات المتحدة. فأميركا لم تقم بحياكة نسيج الثقة مع الشعب العراقي وبقية شعوب المنطقة العربية، واطاحتها النظام العراقي لن تكون مدخلاً لها إلى قلوب الشعب، مهما اراد التخلص من قيادة صدام حسين، طالما أنها في عيون الشعب غير عادلة بحقه، متشوقة للسيطرة على الموارد الطبيعية كالنفط، عازمة على ممارسة عظمة الامبراطورية في عقر داره، مُثقلة بتبنيها الأعمى للغطرسة الإسرائيلية وهيمنتها. في هذا المنعطف، وإذا كان لا بد من استخدام معايير الهزيمة والانتصار بمفهومها التقليدي، يمكن القول إن القيادة العراقية على وشك الهزيمة، فيما الإدارة الأميركية بعيدة عن تحقيق الانتصار. أما لو اُخذت معايير المعادلة إلى بُعد جديد، يمكن القول إن أمام القيادة العراقية فسحة لتحويل الهزيمة الحتمية إلى فرصة لنصر الشعب العراقي، وأمام الإدارة الأميركية فرصة لتحقيق الانتصار لأميركا والمنطقة ومفهوم الشراكة الدولية بقيادة الدولة العظمى. واقعياً، إذا وقعت الحرب في العراق، ان الجيش العراقي سيُهزَم أمام جبروت الجيوش الأميركية، والنظام العراقي سينهار وسيُلاحق قادته ويُحاكم بعضهم بتهمة ارتكاب جريمة الحرب. ومهما كبدت الحرب من خسائر أميركية، فإن العراق وشعبه ساحة الحرب، ومعاناته أعظم. وبالتالي، ان قيام الحرب سيحسم هزيمة القيادة العراقية ويكلف العراق غالياً. لكن الحرب لم تحسم الانتصار للإدارة الأميركية، مهما كسبت من معارك وهزمت النظام والجيش العراقي، ذلك أن التحدي الأكبر سيأتي في أعقاب الحرب من داخل العراق ومن المنطقة العربية إذا تصرفت أميركا بجبروت العظمة من دون حياكة نسيج الثقة مع الشعوب. فانتصار أميركا يكمن في نجاح الديبلوماسية الحازمة التي يتبناها الرئيس الأميركي حتى الآن من دون الاضطرار إلى الحرب. وهذا يتطلب اجراءات عراقية لا سابقة لها، لا تقتصر على الاذعان لمطالب المفتشين الدوليين، بل تشمل فكراً خلاقاً ينقل القيادة العراقية من ذهن الاملاء والمكابرة والسلطوية والتحدي، إلى ذهن اطلاق العراق في اتجاه جديد نحو التعددية والديموقراطية والتحول إلى قوة مدنية لا مثيل لها في المنطقة قوامها مواردها الطبيعية وسياستها التطبيع مع جيرانها والعالم. جورج بوش رسم المسار في خطابه أمام الجمعية العامة في أيلول سبتمبر الماضي، وصدام حسين يقوم بتلبية بعض الشروط التي حددها بوش حينذاك. فالمفتشون عادوا إلى العراق، والقيادة العراقية أصدرت التعليمات بالتعاون التام معهم بلا عرقلة، لكنها ما زالت قيد الامتحان طالما لم تقدم الأدلة والاثباتات المقنعة على خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل وبرامجه. فإذا استدركت الاغفال واكتشفت الأدلة وقدمت العلماء والمسؤولين للاستنطاق وتقبلت عمليات تفتيش في كل وقت ومكان، تساهم عند ذاك في تلبية الشرط الأول. الشرط الثاني الذي وضعه بوش يتعلق بملف الأسرى والمفقودين والممتلكات الكويتية. بغداد بدأت تلبية هذا الشرط الشهر الماضي، ووجهت دعوة إلى منسق الملف، يوري فورنتسوف، لزيارة العراق للمرة الأولى. فورنتسوف سيقوم بالزيارة في 19 الجاري. وما لم تسرع القيادة العراقية إلى حسم هذا الملف، ستبقى خطواتها ناقصة، أما إذا قدمت كل ما من شأنه اقفال الملف، فإنها تساهم في سد النوافذ على الحرب. الشرط الثالث يتعلق بانهاء التجارة غير المشروعة خارج برنامج "النفط للغذاء"، والحكومة العراقية مضطرة لتلبيته شاءت أم أبت، لا سيما بعد تبني مجلس الأمن قرار قائمة البضائع ذات الاستخدام المزدوج وبعد وضوح عواقب التعامل غير الشرعي للدول المجاورة. أما الشرط الذي اعتبر استفزازياً، فإنه قد يكون المدخل الرئيسي لتجنيب العراق الحرب، وتجنيب القيادة العراقية الهزيمة الكاسحة. قال بوش في خطابه إن في حال اتخاذ الحكومة العراقية جميع هذه الخطوات "فإن ذلك سيكون مؤشراً إلى انفتاح جديد وخضوع للمساءلة في العراق، وقد يفتح ذلك إمكان أن تساعد الأممالمتحدة في بناء حكومة تمثل جميع العراقيين، حكومة تقوم على احترام حقوق الإنسان وحرية الاقتصاد وانتخابات تحت اشراف دولي". موافقة القيادة العراقية على ذلك "مستحيلة"، من وجهة نظر الإدارة الأميركية، لأنها تعني الانقلاب الجذري على فكر ومعدن ونمط النظام العراقي بقيادة صدام حسين. وربما كان ذلك حقاً مستحيلاً قبل الخريف الماضي. أما الآن، فهو حاجة وضرورة وفرصة. واضح الآن ان الخيار محصور إما في كارثة الحرب وافرازاتها على العراق، وكذلك على أقطاب النظام العراقي، وإما الانقلاب الجذري في فكر ومعدن القيادة العراقية بمبادرات مدهشة وغير متوقعة. المبادرة إلى الإصلاح الجذري بلا عقدة السيادة المصطنعة. المبادرة إلى طلب مساعدة الأممالمتحدة في بناء حكومة تمثل جميع العراقيين واجراء انتخابات تحت اشراف دولي. وتخطئ الحكومة العراقية إذا افترضت أن تحرك بيئة العراق الاقليمية معارضة للحرب أو مقاومة الرأي العام العالمي للحرب تعني صكاً لها للاستمرار بنهج الماضي. تخطئ إذا ظنت نفسها منتصرة والإدارة الأميركية منهزمة في حال تجنب الحرب. وتخطئ جداً إذا استمرت في وضع النظام قبل وفوق العراق وتجاهلت غضب وامتعاض الشعب العراقي والشعوب العربية من القيادة العراقية وسوء قراراتها وحكمها. فمشاعر الغضب والامتعاض وانعدام الثقة عارمة، ليس فقط نحو السياسات الأميركية في المنطقة، وإنما أيضاً نحو سياسات صدام حسين التي حوّلت العراق إلى بلد بؤس وانعزالية وجعلته عرضة للاستباحة من قبل دعاة الاجتياح. فليس كافياً أن تذعن بغداد لمطالب لجنة الرصد والتحقق والتفتيش انموفيك ورئيسها هانس بليكس وللوكالة الدولية للطاقة الذرية ومديرها محمد البرادعي. فالاذعان لهما جزء مهم من المعادلة، لكنه ليس الجزء الوحيد، إنما لأن هذا الجزء يمثل الاطلالة على الحرب أو تجنبها، يبدو هذا الشهر العنصر الحاسم في معادلات الأدلة والاثباتات والمبادرات، إذ أنه سيشهد عمليات تفتيش واستجواب لا سابقة لها وسيضع بغدادوواشنطنوالعواصم العربية ومجلس الأمن وبليكس والبرادعي في خانة الامتحان والقرارات الأصعب. فرنسا بالذات لها دور فائق الأهمية هذا الشهر، ربما لم تستوعبه بعد، بسبب رئاستها لمجلس الأمن الدولي الذي سيستمع إلى تقارير بليكس والبرادعي في 27 الجاري. فإذا مكنتها بغداد بتنفيذ صارم لاستراتيجية الامتثال والاذعان والمبادرة، وإذا شددت العواصم العربية على أهمية "الأدلة" كما فعل وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، وإذا أحسنت باريس قراءة الرئيس الأميركي وتوجهاته في عمقه والتي تفيد بأنه حتى الآن قاوم ضغوط الاسراع إلى الحرب، وأصر على تغليب الديبلوماسية عبر الأممالمتحدة، فإن في وسع فرنسا دفع الأمور خارج نطاق الحرب وتذليل افتراضات حتميتها. بليكس والبرادعي أيضاً لهما أدوار حاسمة، وهما يبحران بين العزم على تجريد العراق من برامج أسلحة الدمار الشامل وبين تجنيب العراق الحرب. مقياسهما الأول هو عمليات التفتيش والاستجواب، إنما المقياس الثاني المهم هو معركة "الأدلة"، فكلاهما يطالب بغداد بالأدلة على خلو العراق من الأسلحة المحظورة، ويطالب أيضاً واشنطن بتقديم الأدلة التي تزعم امتلاكها عن تورط العراق في اخفاء برامج وأسلحة الدمار الشامل. وحسناً فعل وزير الخارجية السعودي عندما ادخل عنصر "الأدلة" في معادلات القرار نحو الحرب في العراق. فهو، بذلك، دعم المفتشين وأيقظ بغدادوواشنطن إلى بعدٍ مهم في موازين الحرب والسلم في المنطقة. إنما حذار أن تفسر بغداد هذا الموقف بأنه اعفاء لها من مسؤوليات الاثبات وضرورة المبادرات. أما إذا أحسنت التفكير، فيمكن لها الاستفادة من الفرصة المتاحة باجراءات سبّاقة في ميدان نزع السلاح ونحو البيئة الاقليمية وعلى الصعيد الداخلي. غرابة الأمر اليوم أن جورج بوش قد يكون خشبة الخلاص لصدام حسين إذا ما أدرك الرئيس العراقي أن خلاصه من المحاكمة والمحاسبة والانهيار متاح له عبر مشاركته الفعلية في تغيير النظام في العراق وإقدامه على مبادرات مدهشة. غرابة الأمر أن صدام حسين قد يكون المساهم الأهم في تمكين جورج بوش من الانتصار على دعاة الاجتياح والحسم العسكري الانفرادي والاطاحة العسكرية بالنظام العراقي. فالحرب ليست حتمية، رهن المفاجآت.