بدأت الولاياتالمتحدة مناقشة ما إذا كان في مصلحتها دخول حرب على العراق، وسط تجدد الكلام على وجود نية لرسم خريطة جديدة للمنطقة. بدأت تظهر بوادر مؤشرات إلى تقاسم مصالح ونفوذ لبعض الدول في المنطقة ومقايضات ومخاوف لدى دول أخرى. وعاد التداخل بين ملفي فلسطينوالعراق، ببعديهما النفطي والاسرائيلي، للبروز في الحسابات والخطط والمناقشات. الادارة الاميركية منقسمة، كما الكونغرس، والرأي العام، والنقاش يحتد، ربما الى درجة التأثير في القرارات النهائية. مثل هذا النقاش غائب عن الساحة العربية، سوى في الاعلام، حيث يفتقد مرجعية العمل السياسي المنظم، كما المحاسبة المؤسساتية في هياكل الدولة العربية. ولأن المنطقة مقبلة على منعطف مصيري، ايجابي من وجهة نظر بعضهم وكارثي من وجهة نظر آخرين، يجب التدقيق في الخيارات بغير الطرق التقليدية المعهودة. ربما تشعر الأكثرية العربية بأن ما وصلت اليه أحوالها، من بؤس وتمزق وقهر وإحباط، جعلها مستعدة لتقبل أي تغيير يطرأ على مستقبلها ومصيرها، لأن الحاضر هو الأسوأ. هناك من يؤمن بأن السياسات الاميركية في المنطقة هي اساس المصيبة في عصرنا، فيما كانت بريطانيا، وقبلها الحكم العثماني، اساس البلاء. هناك مَن لا يبالي بسقوط أنظمة عربية ورسم خريطة جديدة للمنطقة بأي شكل، وجزء آخر يتمسك برموز في بعض الأنظمة، باعتبارها تتحدى اميركا وهيمنتها، وهو يضع الرئيس العراقي صدام حسين في رأس القائمة. وهناك جزء يدقق في اخطاء المنطقة، بحكامها وشعوبها، من دون ان يتناسى خطط اميركا وغيرها لها، ويرى ان الفوضى والدمار ليسا الجواب، وانما الاصلاح والمشاركة السياسية والمحاسبة والشفافية. بصرف النظر عمّن ينتمي إلى أي مدرسة، هناك احساس عام بأن ما بين "قدرية" شطر من الشعوب العربية وبين "غليان" شطر آخر بين الحين والآخر، لا خوف منها في نهاية المطاف. فهي ليست منظمة في أحزاب، ولا صوت لها في صنع القرارات. الخوف من بقع التطرف فيها أقل من الخوف منها لو كانت في بيئة تمكنّها من النهضة، في رأي بعضهم. وهذا البعض هو المخيف لأنه يمتلك مفاتيح القرارات في كثير من العواصم، بينها العاصمة الاميركية. يرى هؤلاء ان هذا زمن توظيف أحداث 11 ايلول سبتمبر لاستثمار عظمة أميركا بما يخدم مصالحها الاستراتيجية والمادية، تحت عنوان مكافحة الارهاب. والمصالح، في رأيهم، تقتضي التخلي عن علاقات قديمة وصوغ بدائل لها على أساس خرىطة جديدة في المنطقة. وبمقدار ما بدا السيناريو ظرفياً قبل شهور، يبدو الآن في صدد التنفيذ، أقله في ذهن أولئك الذين يريدون للولايات المتحدة ان تسمح لرئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون بتحقيق حلم "الأردن الوطن البديل" للفلسطينيين، بما يؤدي الى ترحيل الفلسطينيين في اسرائيل والأراضي المحتلة اليه. وهذا يقتضي كجزء من تلك الاستراتيجية، حرباً على العراق، وتحجيماً لمنظمة "أوبك". أما التبرير، فإنه نحو الشعوب العربية، يحمل عنوان "مصلحتها" في قيام أنظمة ديموقراطية بدلاً من نمط الاستبداد والاضطهاد الذي ميّز بعض أنظمتها. ولأن هؤلاء أقنعوا أنفسهم ان في الإمكان مثلاً، تسويق الحرب على العراق واجتياحه في عمليات عسكرية ضخمة على انه من أجل شعب العراق، طاب لهم ان يتناسوا كلفة مثل هذه الحرب على آلاف العراقيين الذين سيسقطون ضحية لها، هذا إذا لم تؤدِ إلى استخدام اسلحة دمار شامل، قد تكون في حوزة بغداد... إما في امكان استخدام بغداد لها، أو عبر ضرب مواقع أو مصانع تحتوي على مثل هذه الأسلحة المزعومة، ولربما من خلال استخدام اميركا لهذه الاسلحة اذا افترضت او قررت ان صدام سيستخدمها. كيف يمكن التفكير بحكمة وعقلانية امام مثل هذا التفكير الخرافي؟ المستحيل هو ان يقرر الرئيس العراقي التنحي لانقاذ العراق من الحرب الأميركية عليه ولسحب البساط من تحت الخطط الشارونية. فصدام لن يضع العراق قبل النظام، وهو يعتبر نفسه الداهية التي ستقلب المقاييس على اسرائيل وعلى حكومات عربية. وما زال يراهن على الشارع العربي ليثور ويجعل منه القائد المظفر. استمرار الوضع الراهن، أي بقاء النظام العراقي في الحكم مع بقاء العراق تحت العزل والحصار والعقوبات، قد يكون مقبولاً للرئيس العراقي، لا سيما اذا كان تغييره يتطلب عودة المفتشين. والوضع الراهن مقبول لدى شطر في الساحة الاميركية على أساس ان احتواء العراق ونظامه نجح في تقويض خطره وشل قدراته العسكرية وتأثيره النفطي في الاسواق. وهذا الشطر يشير الى ان العراق قد يمتلك القدرات لتصنيع أسلحة دمار شامل، إنما لا يمتلك وسائل اطلاقها وتفعيلها حالياً لاستخدامها. بالتالي لا حاجة لاسقاط النظام الآن، لا سيما ان الأولوية في المصلحة الاميركية تتطلب استكمال الحرب في افغانستان وتحقيق الانتصار في الحرب على الارهاب. وهذا خيار. الخيار الآخر يكمن ما بين استمرار الوضع الراهن وبين المعالجة المتطرفة من خلال عمليات عسكرية على العراق. وهو يتطلب حكمة قد لا تكون متوافرة، لا لدى الرئيس العراقي، ولا الرئيس الاميركي، ولا بعض من قادة المنطقة. ولو كانت في العراق هياكل حكومية كما في الولاياتالمتحدة، لربما فتح نقاش شاركت فيه القاعدة الشعبية والكونغرس والاعلام وأثر في درس الخيارات وصنع القرارات. وبما ان هذه الهياكل غائبة في بقية الدول العربية، كما في العراق، لا مجال للرأي العام العراقي والعربي للتأثير في الخيارات سوى خروجه في تظاهرات والمغامرة بالجرأة على التعبير عن رأيه، ولو لقي البطش. فإذا كان الخيار العسكري مرفوضاً وخيار استمرار الوضع الراهن غير مقبول، يمكن الرئيس العراقي ألا يفكر في إجراء "متطرف" كالاستقالة، وان يقرر بدلاً من ذلك الاعلان عن موافقته على عودة المفتشين الى العراق بلا شروط مسبقة أو مطالبة بالمكافأة. يمكنه أن يستفيد من زخم المبادرة الى هذا الموقف، بدلاً من الاضطرار اليه آخر لحظة كما كان النمط المعهود في سياسة "التقطير" قبل خروج المفتشين. انما هذا لن يكون كافياً. وعلى بغداد الآن ان تثبت لشعب العراق ولجيرته ان القيادة فيها اتخذت قرارات انقلابية على ذهنها وفكرها القديم، ان لم يكن لأنها توصلت الى تلك القناعة، وهو أمر مستبعد، فلأن القيادة في العراق في أشد الحاجة الآن إلى شعب العراق كشريك في معارضة الحرب الأميركية، وإلى جيرة العراق ايضاً في اطار الشراكة. ولهذا استحقاقات حقيقية وجوهرية، وليست تجميلية لمجرد القفز على التحديات. استحقاقات، مثل المبادرة الى تبني دستور يفعّل الحياة السياسية وحق الأحزاب في العمل بضمانات أمنية وسياسية. استحقاقات مثل التوقف عن البطش والاضطهاد، ومثل تحديد موعد انتخابات تحت رقابة دولية، والاعتراف بأن احياء العراق يتطلب احياء الطبقة الوسطى فيه التي شارك النظام في بغداد والادارات الأميركية في جريمة حرقها بمزيج من السلطوية والعقوبات. استحقاقات مثل المبادرة الى تطبيع العلاقات مع الجيران بلا مطالب ولا مقابل ولا مهاترات. ودول المنطقة بدورها مطالبة بالكف عن الاطمئنان الى استمرار الحكم في بغداد كصمام أمان، بالأمس لصد ثورة ايران، واليوم للحسابات النفطية. فهي أيضاً في صدد الاضطرار الى الحسم بين الاقدام على الاصلاح الجوهري بسرعة وبجدية وبمبادرة مدهشة وبين الانزلاق الى الفوضى والخضوع لخطط لا حيلة ولا يد لها فيها بعد الآن. فهذه حرب عليها أيضاً. هذا الخيار يمكن كذلك للقاعدة الأميركية المعارضة للضربة العسكرية وللتورط بحرب في العراق أن تطالب حكومتها به. فهو يعالج المخاوف من تورط بغداد بتصنيع أسلحة دمار شامل وما يحاك عن توفيرها للمنظمات الارهابية وما يزعم عن علاقات بين بغداد واسامة بن لادن وما حدث في 11 أيلول. وهو يوفر المناسبة لإعطاء فرصة للطبقة الوسطى في العراق كي تأخذ مصيرها بيدها وتعيد تأهيل العراق بهياكل اقتصادية وسياسية. فتدجينه قصم ظهر هذه الطبقة. وموارد العراق وزعت على غير الشعب العراقي، ووضع العراق تحت وصاية دولية، كما هي الحال، لم يؤد الى اعادة حياكة النسيج الاجتماعي. عدا هذا الخيار، لا مجال لانقاذ العراق والمنطقة. واذا استمرت المؤشرات في اتجاهها الحالي، سترفض الادارة الاميركية خيار استمرار الوضع الراهن، وهو سيء أصلاً للعراق. لكنها ستختار حتماً الحرب لأسباب متعددة، على رغم خطورتها وكلفتها البشرية والمادية. ففي داخل الإدارة فكر يقوم على التطرف الديني اليميني، لا يبالي ان أدت التطورات الى صراع بين الأديان. ما يهمه هو العظمة والانتصار. وحليفه التطرف اليهودي في الحكومة الاسرائيلية، وفي المؤسسات الفاعلة في الساحة الاميركية. هذه المؤسسات والأفراد يصنعون السياسة مع أقطاب الادارة الاميركية من السرب ذاته. هي التي تشن حملة على مصر والسعودية فضلاً عن حملتها على "القاعدة" واسامة بن لادن وياسر عرفات وصدام حسين. هي الاعتذارية عن ارييل شارون، والمسوقة للخطط والسيناريوات الخرافية لتجعل منها سياسة. فهذا زمن حكم التطرف في اميركا واسرائيل. وتيار التطرف هذا يستخدم التطرف العربي والاسلامي - الذي يلبيه عمداً أو غباء - ليبرر غاياته. قوى الاعتدال في تقهقر وتشرذم وتشتت في الساحات الاميركية والاسرائيلية والعربية والاسلامية. وما بين قوى التطرف وقوى الاعتدال توجد قوى التمسك بالبقاء، وهي كفيفة وضعت فوق عيونها نظارات مزيفة. توجد خيارات بديلة لن تُقدَّم على طبق من فضة. خيارات مدفونة عمداً لن تُعرض سخاءً. فمن الضروري اقتلاعها.