الإدارة الأميركية والحكومة العراقية في سباق واستباق، والعالم منقسم إلى رأيين. رأي استنتج أن الولاياتالمتحدة ستجتاح العراق، لأن قرار الحرب اتخذ بغض النظر عن درجة تعاون الحكومة العراقية أو تحديها. ستجتاحه بمفردها أو بائتلاف، بصلاحية دولية أو رغماً عنها، عبر ذريعة أسلحة الدمار الشامل وتحدي القرارات الدولية أو باختلاق أزمة تنطلق من منطقتي حظر الطيران خصوصاً في شمال العراق. الرأي الآخر يراهن على الرأي العام العالمي، الأميركي والأوروبي قبل العربي، وعلى حسابات جغرافية - سياسية لدول كبرى مثل روسيا والصين، وعلى تلبية الحكومة العراقية كل المطالب ليس فقط بإذعان وإنما باستباق، كما فعلت في الخطوتين الأخيرتين لها. كلا الرأيين قابل للاستيلاء على الساحة، وأحدهما لا يلغي الآخر. فالمعركة من أجل الحرب أو خلافها معركة فائقة الدقة ومثيرة جداً في اللعبة السياسية. إلا أنها لعبة لا سابق لها. مما قد يغيّر مسار التطورات هو الرأي العام وجدية حكومات معنية في الجرأة على وقف تيارين متناقضين من واشنطنوبغداد. في الماضي، تلاقت المواقف الأميركية والعراقية على عرقلة عودة المفتشين إلى بغداد، كل لغاياته المتضاربة مع غايات الآخر. اليوم، افترقت المواقف جذرياً. الإدارة الأميركية تبدو في عمقها غير راغبة في عودة المفتشين على رغم كل المواقف العلنية التي تصب في خانة دعم تلك العودة. فالشروط والاجراءات والقواعد والمهمات الجديدة للمفتشين، حسب التصور الأميركي، تفيد بتعجيز متعمد للحكومة العراقية وباستهانة وتحقير وتهميش لأعمال المفتشين وللجنة الرصد والتحقق والتفتيش انموفيك التي يرأسها هانز بليكس. الحكومة العراقية، في المقابل، ترى اليوم أن خشبة خلاصها تكمن أساساً في "انموفيك" و"الوكالة الدولية للطاقة الذرية" وفي الأممالمتحدة، بالأمانة العامة ومجلس الأمن عبر الدول الأربع الدائمة العضوية فيه، روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا. فبريطانيا الشريكة لأميركا في مشروع القرار كما في التعهد بعمل عسكري، هي الأهم في معادلة خشبة الخلاص للعراق. وليس السبب فقط في تباين للمواقف مع الولاياتالمتحدة رافق مشروع القرار عند صوغه، أو ازاء أهداف العمليات العسكرية، علماً بأن السياسة المعلنة لبريطانيا هي تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل وليس إطاحة النظام. السبب هو أن الديبلوماسية البريطانية خارقة البراعة في التأثير في الديبلوماسية الأميركية، وهي في موقع يمكنها من الإصرار على بعض العقلانية والاتزان مع الإدارة الأميركية التي تسيطر عليها قوى التطرف والاندفاع. لكن الديبلوماسية البريطانية ليست في وارد اعطاء الديبلوماسية العراقية فسحة للمماطلة والمراوغة ولعبة "القط والفأر". إنها جازمة في تحقيق هدف واضح هو تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل كلياً. وهذا هو موقف "انموفيك" ورئيسها هانز بليكس والأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان والوكالة الدولية للطاقة الذرية ورئيسها محمد البرادعي. الخطوتان الأخيرتان للحكومة العراقية تفيدان بأن بغداد فهمت المعادلة، لذلك استبقت القرار المنتظر الذي تدفع به الولاياتالمتحدة أولاً، بالموافقة على عودة المفتشين بلا شروط مسبقة قبل أسبوعين، وثانياً، بتقديم أربعة أقراص سي دي من "الاعلانات" عن برامج الأسلحة المحظورة اثناء محادثات فيينا مع بليكس وبرادعي قبل أيام. وللتأكيد، لم يأت هذا الموقف العراقي بمبادرة من الحكومة العراقية قبل وضوح العزم الأميركي على ضربة عسكرية للعراق. ولم يأت بلا ضغوط عربية ومناشداتها. ولم يأت بلا ايضاح من الأمانة العامة للأمم المتحدة، بأن جدية الوضع تتطلب من العراق المبادرة والصراحة والصدق والموافقة على ما رفضه سابقاً. فما سبق وأصرت عليه بغداد هو البحث في عودة المفتشين فقط في إطار بحث الملف العراقي بشموليته، من كيفية رفع العقوبات إلى كيفية إلغاء منطقتي حظر الطيران إلى ضمانات بتوقف أميركا عن التهديد بضربة عسكرية والتوعد إطاحة النظام. هذه المواقف باتت اليوم فعلاً ماضياً، وها قد وافق العراق على ما سبق ورفضته حكومته قطعاً كأن توضح لها أن لا خيار أمامها سوى الاذعان أو الاجتياح. في الماضي، رفضت بغداد تفتيش المواقع الحساسة ما لم توافق مسبقاً على عمليات التفتيش وترافق المفتشين وتأخذ وقتها قبل دخولهم المواقع. في فيينا وافقت الحكومة العراقية على إلغاء حق الموافقة على هذه العمليات. هذه الموافقة جاءت أيضاً لتستبق ما ورد في مشروع القرار الأميركي من انذار بأن على العراق الخضوع لعمليات تفتيش مفاجئة أينما كان بلا عرقلة. كذلك جاء الاستباق في تقدم الوفد العراقي في فيينا بمعلومات، وفي المشروع الأميركي انذار للعراق بضرورة التقدم بهذه المعلومات في غضون 30 يوماً من تبني القرار الجديد. هذا الاستباق ذكي ومفيد وضروري لانقاد العراق من خطط اجتياحه، لكنه ناقص طالما أن القصور الرئاسية تخضع لمذكرة التفاهم بين الأمانة العامة والحكومة العراقية التي تضع ترتيبات خاصة بها. وهذا ما لم تتطرق إليه محادثات فيينا عمداً، نظراً الى مركزيته في معادلة السباق والاستباق الأميركية - العراقية. الإدارة الأميركية ترى ضرورة تطبيق مبدأ التفتيش العام على القصور الرئاسية. والحكومة العراقية ترى في ذلك انتقاصاً جذرياً للسيادة. لكن السيادة، عندما يتعلق الأمر بالعراق، مستباحة منذ زمن بعيد، وأميركا لا تقر اطلاقاً بسيادة الحكومة العراقية، إذ تعتبرها خارجة عن القانون أصلاً. يضاف إلى ذلك أن الرئيس العراقي صدام حسين ليس له مقر رئاسة أو اثنين، بل له قصور رئاسية تمتد على مساحات شاسعة. ومنطقياً لا يمكن استثناء هذه المواقع من البحث عن برامج وأسلحة دمار شامل خفية. وعليه، وفيما تم الاتفاق في فيينا على عدم التطرق الى مذكرة التفاهم التي وضعت قواعد واجراءات تحترم السيادة عند دخول القصور الرئاسية، ستبقى المبادرات الاستباقية العراقية ناقصة جذرياً وغير نافعة، ما لم تأت بمعالجة مختلفة اساساً لمسألة القصور. قد يقال، لماذا؟ والجواب لأن غير ذلك غير وارد اطلاقاً اذا كان الهدف ابعاد شبح الحرب عن العراق، واذا كان الهدف ايضاً تمكين روسيا والصين من العمل على التأثير النوعي في مشروع القرار الاميركي. هناك وسائل عدة لمعالجة مختلفة لناحية القصور الرئاسية، ابسطها تقليص عدد هذه القصور الى موقع او موقعين رئاسيين يحظيان بترتيبات خاصة عند تفتيشهما. فليس منطقياً ان توافق الولاياتالمتحدة او مجلس الامن ككل على استثناء مواقع من التفتيش حتى وان كانت قصور الرئاسة او قصور السيادة. ثم ان الموافقة على اقتحام المفتشين للوزارات يعني اساساً الاقرار بانحسار السيادة. فالهدف الاميركي، كما وضعته بعض اقطاب الادارة الاميركية، هو منع عودة المفتشين الى العراق واستفزاز بغداد لترتكب اخطاء تبرر الاجتياح. ولا يخطئ من يقول ان القرار الاميركي هو الحرب مهما تعاونت القيادة العراقية. فالاولوية ليست لتجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل وانما هي لاطاحة النظام والاستيلاء على العراق وموارده النفطية وجعله نقطة انطلاق لرسم خريطة جديدة للمنطقة يكون لاسرائيل فيها موقع التفوق والهيمنة. لكن رسم السياسات لا يعني تنفيذها بلا محاسبة خصوصاً في دول ديموقراطية وفي سيناريوات حرب مكلفة يذهب ضحيتها ايضاً اميركيون في السلك العسكري. فالرأي العام الاميركي، بدعم من الرأي العام الاوروبي والعربي، قد يوقف اندفاع دعاة الحرب على العراق شرط ان تتوافر لديه الذريعة المقنعة. هذه الذريعة ليست ابداً في بدعة تحويل صدام حسين اوتوماتيكياً من "الشيطنة" الى "الحضارة" في الذهن الاميركي، فالاجماع هو ان الرجل بلغ ذروة السوء وتجب ازالته من السلطة. هذا ما يتلقي عليه جميع الاميركيين ولربما الرأي العام العالمي. الذريعة تكمن في عمق القيادة العراقية فإذا اقرت حقاً بأن نمطها الماضي كان فاشلاً وافشل العراق وشعبه، فأمامها سلسلة امتحانات آنية لتبرهن انها اعترفت باخطائها وتابت. وهذه الاخطاء ليست حصراً في مجال اسلحة الدمار الشامل وانما هي بالقدر ذاته في مجال اضطهاد الشعب العراقي وفي الاساءة والمكابرة مع الجيرة وفي التحايل على القرارات الدولية. لا مجال لهذا بعد الآن، فهذا زمن المبادرة الصادقة. وحتى خرافة الاستباق فانها ناجعة مرحلياً ما لم تقترن باستراتيجية متكاملة تأخذ في حسابها ضرورة وضع تكتيك الاستباق في استراتيجية المبادرة الواعية الآخذة في الحساب الخطط التي تم اعدادها لخريطة جديدة في المنطقة. واولى هذه المحطات هي الاعتراف بأن لا مجال للعراق لان يكون مركزياً في مستقبل الشرق الاوسط والخليج كما كان في الماضي، اي بثقله العسكري في المعادلة الاستراتيجية. ان ثقله ووزنه وتأثيره اليوم او غداً تكمن في اقراره بأن الثقل والوزن والتأثير مدنية وليست عسكرية. فاذا تمكنت القيادة العراقية من تجاوز فكرها ونمطها التقليدي لربما هناك نافذة لتجنب حرب ستؤدي بالتأكيد الى زوال تلك القيادة على انقاض ذلك البلد. اما اذا ظنت ان الزخم الدولي نتيجة استباقاتها سيضمن لها العبور الى ماضي نمطها وفكرها، فإنها ضحية مبالغاتها وفي اعناقها مآس جديدة للشعب العراقي. الادارة الاميركية ايضاً تضع الولاياتالمتحدة والعالم رهينة مبالغاتها، لكن الفارق ان اميركا دولة عظمى والحرب ليست في عقر دارها. بعض مبالغات هذه الادارة يضعها على مفترق مواجهة مع الدول الاخرى الدائمة العضوية في مجلس الامن، كما مع "انموفيك". فهانز بليكس ليس مسروراً بطعن بعض اقطاب الادارة الاميركية به وبفريقه حتى قبل استئناف المهمة. وما يتضمنه مشروع القرار الاميركي من "ضوابط اجرائية" لاعمال التفتيش ومن حقوق للدول الخمس دائمة العضوية كجزء من فرق التفتيش وكآمر لها، يضع عملياً هيئة رقابة على "انموفيك". والاهم انه واضح في غايات استخدام لجنة "انموفيك" والمفتشين لغير مهمات التفتيش، وبذلك قد ينقل عمليات التجسس لغايات اسقاط النظام من خانة التستر عليها الى خانة اضفاء الشرعية عليها. هذا لا يعني ان بليكس يريد عمليات تفتيش تقليدية مقيدة بل على العكس انه يريد تطوير الاتفاقات والتفاهمات كي تكون عمليات التفتيش فاعلة لتحقيق هدف تجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل. فالكل متفق على هذا الهدف، انما الخلاف يقع على الوسيلة. وللتأكيد، لا احد في الساحة الدولية يعارض قطعاً اللجوء الى استخدام القوة العسكرية ضد العراق اذا لم يتعاون كلياً في تحقيق هدف تجريده من الاسلحة المحظورة. فالمسيرة طويلة وفي كل منعطف لها امتحان للقيادة العراقية. لم تعد هناك معادلة بين "جزرة" الترغيب عبر تقديم مكافآت و"عصا" الردع. فكل الكلام على الساحة الدولية اليوم يرجح كفة الضربة العسكرية تارة والرهان على اذعان العراق تارة اخرى. اما مصير العقوبات فإنه موضوع وُضع في الادراج وعلى الرفوف. انه زمن "العصا"، وهو زمن أتت به القيادة في بغداد كما رجحه دعاة اجتياح العراق في الادارة الاميركية.