قد لا يختلف مفهوم "المثنى" في ديوان الشاعر شوقي بزيع "سراب المثنّى" دار الآداب، 2003 عن مفهوم "المؤنّث" ما دام السراب هو الذي يجمع بينهما. وقد يكون استخدامه عبارة "سراب الأنوثة" في الديوان دليلاً ساطعاً على تشابه هذين القطبين اللذين يتنازعان الشاعر وشعره معاً. فالمثنى هنا، هو المعنى الآخر للمؤنث، مثلما المؤنث هو المعنى الآخر للمثنى. وفي الحالين يكون الشاعر منقسماً الى "أنا" و"آخر"، يتحدان حيناً وينفصلان حيناً آخر. عندما يتحدان يرجع الكائن الى وحدته الأولى بحسب الرؤية الاغريقية، وعندما ينفصلان يقع الكائن في الحنين الى تلك الوحدة التي انبثق منها الأنا والآخر. ولا عجب أن يكون الحبّ إروس والموت ثاناتوس هما السبيلان الوحيدان ربما الى هذه الوحدة التي تلغي حال الاختلاف أو الانفصال، فيمسي الاثنان المثنّى واحداً يكون المؤنث فيه صدى للمذكر وكذلك العكس. غير أنّ الشاعر يجعل للشعر، في كونه لغة الوجود، سبيلاً آخر الى هذه الوحدة. فالشعر كما يعبّر يمثل "العبور الغامض" الذي تجتازه الحبيبة من "سراب الأنوثة" الى "غربة اللغة". لا يتفق الشاعر في رؤيته هذه، مع المقولة المانوية التي قسمت العالم أو الوجود الى قطبين، ولا مع النظرية القديمة التي عرفتها الفنون الأولى التي أولت المثنى اهتماماً، بل هو ينحو منحى "القطبية المزدوجة" التي يلتئم فيها مجازياً الأنا والآخر، الروح و"الروح الشقيقة" وفق ما قال أفلاطون الروح تحتاج الى روح شقيقة، فالوصول الى الأنا يتم عبر اجتياز المثنى الذي هو رديف للمؤنّث: "وأظلم حتى غدا صرخة بين شمسين/ أو موجة أحرقت نفسها/ في سراب المثنى". إلا أنّ حالي التأنيث والتثنية ستقودان الى حال الوحدة أو التوحّد، فهما بمثابة المرحلتين الأوليين أو المرحلة الأولى التي يندمج فيها المثنى بالمؤنّث والتي ستفضي بالشاعر الى اكتشاف نفسه "وحيداً/ كما ينبغي أن يكون الملك". حتى المنادى، كان يكفيه "نداء يتيم" كما يقول الشاعر، "ليصبح عين المنادي/ وأنثاه في التثنية". هنا ينبثق مقام صوفي فريد يجمع بين الوحدانية والتثنية والتأنيث. والرؤية الصوفية ليست غريبة أصلاً عن شعر شوقي بزيع وخصوصاً في هذا الديوان. لكنّه ليس شاعراً صوفياً صرفاً ولا يرغب في أن يكون شاعراً صوفياً صرفاً. فهو لا يتوانى عن كتابة قصائد حب تفوح بالرغبة ممزوجة بالحنين، وبالشبق مختلطاً بالهيام. أما الصوفية فتتجلى في بعض الشذرات أو المقاطع وتندُّ عن أشواق صوفية هي دوماً في صيغة الأشواق. وتتبدّى هذه الأشواق في موقف الوحدانية مثلما في موقف التثنية أو التأنيث. لكنّها تبلغ أوجها حين يكتشف الشاعر وحدته، وحين في وحدته يكتشف حقيقته المحفوفة بالغموض: "شاخصاً من سفح نفسي/ نحو ما ليس يُرى/ من كلماتي". وفي غمزة الانشغال الوجدي تصبح أعضاء الشاعر "عراكاً" كما يقول، ويمسي هو "الوادي الذي يقفر/ بين الشكل والمعنى". إنّها محنة الشاعر الذي "يرى" - كما يعبّر أيضاً - ولا يقدر على قول ما يرى. فالرأس "غريم"، كما يقول، و"الظنون جهنّم"، وما من لفظٍ إلاّ ويمحو نفسه. ويصل الشاعر الى ما يسمّيه "فتوحاً"، لكنّ "الفتوح" لجّة لا يبين منتهاها. إنّها أشبه ب"اشراقات" وسط ظلام الروح، حيث تلتمع "الحدوس" أيضاً ويسطع "البرق" لمحاً. وفي اللجّة يضحي الشاعر "صديق وهامه" و"ضلّيل جهاته"، وكلما "حالف أرضاً" أنكرته خطواته. وفي لحظة من الشك المرير يصرخ: "أين ألقاني إذاً؟"، وإذ لا جواب واضحاً أو نهائياً يسأل أيضاً: "أتراني أحداً غيري؟" مذكراً بمقولة رامبو الشهيرة: "أنا هو آخر". مَن يقرأ ديوان شوقي بزيع يشعر أنّ قصائده يكمّل بعضها بعضاً، فالديوان يرين عليه مناخ واحد يتوزّع مناخات أو أجواء متدرّجة بين الصوفية والحبّ والوحدة والوجد والغناء، عطفاً على اللغة أيضاً، التي تتغاوى وتشتدّ، أو تلين وتقسو بحسب ما تعبرُ من مقامات وأحوال وتعبّر عنها. ولا بدّ من الإشارة أيضاً الى اللعبة التفعيلية التي شاءها الشاعر في هذا الديوان أشدّ انبساطاً وغوى، فهو لم يعمد الى التشطير المتسارع ولا الى الوحدات التفعيلية الجاهزة مقدار ما بدا وكأنّه يتنزّه، أحياناً كثيرة، في قلب الموسيقى التفعيلية. يشعر القارئ أيضاً أن القصيدة تبرّر القصيدة الأخرى، ويمكن استثناء قصيدتين كأنهما مكتوبتان على حدة، الأولى هي "ردّني مثلما كنت" وقد كتبها الشاعر على لسان فتاة ولكن من غير أن يتخلّى عن لغته ومجازاتها، والثانية هي "عبد الأمير عبدالله يعود الى بنت جبيل" وقد كتبها على لسان عبد الأمير عبدالله نفسه الذي رحل بعد معاناة أليمة. والقصيدة هذه أقرب الى المرثية التي يستعير فيها الشاعر صوت صديقه الميت محيياً إياه مجازياً أو شعرياً: "هذا أنا، عبد الأمير الحيّ/ حطاب الغوايات الأخير/ مؤلّب المبنى على معناه/ والأنهار ضدّ مصبّها". يهيمن مناخ الحبّ أو العشق على ديوان شوقي بزيع، لكنّه الحبّ أو العشق وليس الغزل، فالمرأة التي يكتب عنها الشاعر، هي امرأة واحدة وكلّ النساء في آن. إنها نظيرة الشاعر نفسه الذي غدا عاشقاً واحداً وكل الشعراء العشاق. إنّه قيس وكثيّر وجميل وعروة وعمر... انه الشاعر العاشق، العذري والإباحي، الصوفي والشبق، الواضح والغامض. انه الشاعر الذي "أنّث كلّ ما عداه" والشاعر الذي يشمّ "كامرأة على قبر" قميص لهاث الحبيبة "الملقى على جزع السرير". الشاعر الذي يتماهى في صورة نرسيس البطل الأسطوري: "لم يكن يروق لي/ سوى انعكاس صورتي كنرجس/ في الماء"، والشاعر الذي يدرك أنّه أعمى من دون حبيبته وأنّه "النصف الضرير". يخرج الشاعر إذاً من ثنائية المثنى/ المؤنّث الى وحدانية العاشق الذي يتوحّد فيه "الشيطان والملاك" على غرار ما قال بودلير في "شذراته": "في كلّ امرئ، في كلّ حين، نزعتان متزامنتان، واحدة نحو الله وأخرى نحو الشيطان". ولعلّ الشاعر الذي يغدو على تناقض ظاهريّ، هو على أتمّ التلاؤم داخلياً. فالصوت الذي سمعه في قرارته يقول له: "كن نزيل ما تريك/ جنة الحواس"، دفعه أيضاً الى أن يقول لحبيبته: "كم أنتِ أجمل في الحنين إليك". وفي كلتا الحالين يعرب الشاعر عن وحدانيته التي يصبو دوماً اليها، كشاعر هو أولاً وأخيراً "صولجان الفقدِ" و"المتنفس الأبدي للخسران" أو "عكازة العميان في الصحراء". إنّه الشاعر الذي "استطال أنينه المجروح/ في ترنيمة القصب/ الذي يخبو/ على مهل". وإذا استعار شوقي بزيع أقنعة الشعراء العشاق عروة بن حزام، عمر بن أبي ربيعة، قيس ليلى، جميل بثينة... فهو جعل من تلك الأقنعة قناعاً واحداً هو قناع الشاعر التائه في "ليل" العشق وفي "الظلام المخنّث"، أي الظلام الذي يشبه ظلام ما قبل الانفصال الأوّل في المفهوم الاغريقي، عندما كان الإنسان واحداً، ذكراً وأنثى معاً. وفي إحدى القصائد يستعير شوقي بزيع قصيدة "الرجال الجوف" للشاعر إليوت واصفاً هؤلاء "الرجال" ب"حطّابي دم الهذيان في المعنى/ سعاة بريده الملتاع/ في نفق القصيدة/ والأشقاء الشتائيين للجسد المؤنث". أما إليوت فيتحدّث في قصيدته الطويلة هذه، التي تدمج بين المأسوي والرؤيوي عن رجال بكم وعميٍ تائهين في "الوادي الذي بلا نجوم". قد يكون ديوان شوقي بزيع "سراب المثنى" من أجمل دواوينه لا لأنّه يرسّخ فيه ابتعاده عن الشعر السياسي الذي كان استهلّ به تجربته كشاعر جنوبيّ بل لأنّه ديوان قائم على الالتباس الشعري الجميل بين النزعة الصوفية والوله العشقي والنرجسية المهذّبة والمراس يرتقي بالصنعة اللغويّة والسبك المتين والبلاغة الى مصاف الشفافية والرقة والألفة. أما الجنوب فيحضر حضوراً طيفياً في الديوان، كأن يكون خلفية للحبّ والرثاء.