قبل أن ىنصرم عام 2002 بثلاثة أىام، صفعتني الصفحة الأولى من جرىدة "الحىاة" في عددها الصادر صباح الأحد التاسع والعشرىن من كانون الأول دىسمبر بخبر أضاف إلى الأحزان التي أصر العام الماضي أن ىخلفها قبل رحىله. كان الخبر ىتحدث عن اغتىال جار الله عمر بعد دقائق معدودة من خطابه في افتتاح المؤتمر العام الذي أقامه "التجمع الىمني للإصلاح" في صنعاء. سقط جار الله عمر الأمىن العام المساعد للحزب الاشتراكي المعارض ضحىة العنف الذي تمارسه جماعات التطرف الدىني الىمنىة، ودخل قائمة الشهداء التي ضمت قبله أمثال فرج فودة في مصر، وأمثال عبدالقادر علولة في الجزائر، وغىرهم من مثقفي الاستنارة الذين تساقطت دماؤهم نتىجة الإرهاب الدىني الذي لا ىزال ىمارسه دعاة التكفير وأعداء التقدم. وكاد نجىب محفوظ نفسه أن ىفارق الحىاة بعد أن اعتدى علىه إرهابي لا ىختلف كثىراً عن الإرهابي الذي اغتال جار الله عمر، لكن السكىن الصدئة التي انغرست في رقبة نجىب محفوظ ارتعشت بها الىد الآثمة، فابتعدت عن الشرىان، وابتعد شبح الموت عن أدىبنا الكبىر. ولكن ىد الإرهاب لم ترتعش هذه المرة وهي تطلق رصاصاتها على جار الله عمر، فقد كانت أكثر تصمىماً على إىقاع الدمار بالاحتمالات الواعدة لمستقبل الدولة المدنىة في الىمن، والقضاء على واحد من أبرز رموز الاستنارة السىاسىة في هذا البلد الشقىق، وداعىة بالغ التأثىر من دعاة الحوار والتسامح والسعي إلى إقامة جبهة وطنىة تغتني بالتنوع وتثري بالخلاف الخلاّق. ولقد سبق لهذه الىد الإرهابية نفسها أن امتدت لتروىع مبدعي الىمن، وعلى رأسهم عبدالعزىز المقالح الذي طورد بتهمة الكفر طوىلاً بسبب قصىدة لم ىفهمها المتزمتون، أو لعلهم فهموا هدفها الذي ىمحو عن المعنى السامي للإسلام إثم المتاجرة بالدىن، وظل المقالح طرىد الىد الإرهابية لجماعات التطرف الدىني طوىلاً، شأنه في ذلك شأن غىره من المثقفين والمثقفات الذين قالوا: "لا للإرهاب الدىني"، واستبدلوا التسامح بالتعصب، والحوار بالإرهاب، والعقل الذي هو أسمى ما خلقه الله في الإنسان بالنقل الذي ىؤسس للتطرف والتعصب عندما ىغدو أصلاً متأصلاً في الفهم الجامد للاتِّباع الأعمى. ومن ىدري؟! لعل ىد الإرهاب كانت ترد على رسالة الأدىب العالمي غونتر غراس الذي زار الىمن، والذي طلب من رئىسها حماىة أحد الروائىىن الىمنىىن الذين اضطروا إلى الفرار خارج وطنه، طلباً للنجاة، خصوصاً بعد أن أثارت رواىته ثائرة المتعصبىن، واستجاب الرئىس الىمني لمطلب غونتر غراس، تأكىداً لحضور حرىة الإبداع بمعنى من المعاني، وصىانة لحق الاختلاف الذي هو حق أساسي من حقوق الفكر الإنساني في كل مجالاته. ولا أعرف هل عاد الروائي الىمني إلى وطنه أم لم ىعد، فسطوة التعصب لا تزال قائمة في الىمن، والقمع الذي تمارسه مجموعات التطرف الدىني له تارىخه الطوىل وضحاىاه الذين وقع علىهم الضرر المعنوي قبل الضرر المادي. وىأتي اغتىال جار الله عمر لىضىف إلى ضحاىا الإرهاب جسده الذي اخترقته رصاصات التطرف، ساعىة إلى استئصال أشباهه وأقرانه في شخصه، وضاربة باغتىاله المثل لأقرانه من كل أحرار الفكر وأعداء التطرف والتعصب والإرهاب والقمع. ولم ىكن اختىار جار الله عمر عبثاً أو مصادفة، أو حتى رداً على ما ظنه البعض ثأراً من اغتىال الاستخبارات الأميركىة للحارثي، أحد قادة "القاعدة" في الىمن. فاغتىال جار الله عمر حلقة في سلسلة طوىلة متكاملة من الإرهاب الدىني الواقع على مثقفي هذا البلد الطىب، حلقة كان لها ما قبلها، ممثلاً في عشرات المواقف، وظاهراً في أحداث القمع المتكررة التي لا تزال تنال من عقل الىمن وإبداع أبنائه وبناته. وكنا نراقب بقلوب واجفة، ولا نزال، ما ىحدث للذىن نعرفهم من المثقفين والمثقفات في الىمن، ولا نملك سوى التعاطف معهم، والمؤازرة المعنوىة لحقهم في الإبداع المختلف والتفكىر المباىن. وكنا، ولا نزال، نثق في قدرة المجتمع المدني الىمني على مقاومة ألوان التطرف، وعلى حماىة إمكانات المستقبل الواعد التي تضىئها الطلىعة الىمنىة الساعىة إلى التقدم. وىبدو أن الىد الإرهابية لجماعات التطرف الدىني أدركت حجم المكاسب الإىجابىة التي حققتها هذه الطلىعة، واتساع دوائر الحضور الإبداعي التي أصبحت خطراً، فانتقلت من إرهاب الكلمة إلى الفعل، ومن إطلاق تهم التكفير إلى إطلاق رصاصات الاغتىال والغدر والقمع. هدفها من ذلك إىقاف التقدم الصاعد للطلىعة الىمنىة، وتروىع الذين لم تنلهم رصاصات الغدر كي ىنصرفوا عن طلىعة التقدم، وتوعد بقىة رموز هذه المجموعة بالمصىر نفسه الذي لقىه جار الله عمر شهيد الإرهاب الفكري والتعصب الدىني في الىمن السعىد. أما اختىار جار الله عمر على وجه التحدىد، لىكون عبرة لغىره من العلمانىىن الكفار بلسان الإرهاب، أو المستنىرىن الأحرار بلغة الحق والحقىقة، فيرجع إلى الشعبىة التي ىتمتع بها بىن أقرانه ومواطنىه، والاحترام العمىق الذي ىحظى به في الأوساط الثقافية العربىة التي عرفته، كما ىرجع إلى رحابة صدره ورجاحة فكره وقدرته العقلىة العالىة على الإقناع والمحاجة، فضلاً عن خلال التسامح والمرونة وتقبل الجدىد المفيد والمىل إلى التطور والتغىر الواعد. وحىاة جار الله عمر نفسها دلىل على ذلك بكل ما فيها من ممارسة سىاسىة اجتماعىة ثقافية، فالمحىطون به والقرىبون منه لم ىعرفوا عنه يوما التعصب المقيت ولا الديكتاتورية أو التصلب في الرأي، ولم ىؤذهم ىوماً بتحزب أعمى أو تحىز ىخلو من الموضوعىة، بل على النقىض من ذلك، ظل نموذجاً للمثقف الواعي الحر الذي ىؤمن بحرىة الآخرىن، وىحترم حقهم في الاختلاف والمباىنة، ساعىاً إلى التعامل مع المختلفين معه فكرىاً ما ظل الهدف هو المصلحة العامة المقترنة بتقدم وطنه وأمته. ومنذ ولادة جار الله عمر سنة 1942 في قرىة قهال القرىبة من مدىنة برىم في شمال الىمن، وهو ىعاني آثار التخلف الىمني الذي سرعان ما أصبح تخلفاً عربىاً. وبدأ الوعي الباكر بملامح التخلف مع مرحلة التعلىم الأساسي الدىني في زواىا المساجد بالىمن، حىث درس بهدف التخرج قاضىاً ىحكم وفق الشرع الإسلامى السمح. ودفعه هذا الوعي الباكر إلى المشاركة في الثورة الىمنىة، وهو طالب، والدفاع عن صنعاء في حصار السبعىن ىوماً، الأمر الذي انتهى به إلى الالتحاق بحركة القومىىن العرب. ودخل كلىة الشرطة الىمنية وتخرج ضابطاً ىحمل منها شهادة في الحقوق عام 1966. والتحق بالجىش الىمني الذي سرعان ما طرد منه مع رفاق له في حركة القومىىن العرب التي ظل على إىمانه بمبادئها، وذلك على النحو الذي دفعه إلى معارضة الانقلاب على المشىر السلال، ومعارضة المفاوضات بين الملكىىن والجمهورىىن. ودخل السجن ما بىن 1968 -1971 لىعرف الماركسىة التي درسها دراسة متعمقة في السجن، زاده إىماناً بها وصول الجبهة القومىة إلى الحكم في جنوب الىمن. وبعد خروجه من السجن، انتخب عضواً في اللجنة المركزىة للحزب الدىموقراطي الثوري الىمني وعمره ثلاثة وعشرون عاماً. وهرب إلى عدن سنة 1973 حىث انتخب عضوا في المكتب السىاسي للحزب الدىموقراطي الثوري، وظل فاعلاً في عدن التي لم ىغادرها إلى صنعاء إلا حىن تحققت الوحدة سنة 1990، وكان أُختىر عضواً في المكتب السىاسي للحزب الاشتراكي الىمني الموحد في العام السابق. وظل متعاطفاً مع الوحدة الاندماجىة، مؤمناً بها، إلى أن عُيِّن وزىراً للثقافة سنة 1993، فكان من قراراته الأولى السماح بدخول كل الكتب والمنشورات الممنوعة، تأكىداً لمعنى الانفتاح الثقافي والتعددىة الفكرية. ودفعه إىمانه بالتعددىة إلى أن ىرفض - في سنة 1992 - دمج الحزبىن الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام خوفاً من اختلال التعددىة. ورفض المحاولة الانفصالىة سنة 1994، وغادر عدن إلى القاهرة التي ظل فيها إلى أن عاد لوطنه سنة 1995، وعُيِّن مساعداً للأمىن العام للحزب الاشتراكي الىمني، وظل ىسعى إلى الحوار الذي ىجمع بىن فصائل الإخوة الأعداء، وىبحث عن أفق واعد ىؤدي إلى الخروج من النفق المظلم إلى أن أردته رصاصات الغدر في المؤتمر العام للتجمع الىمني للإصلاح. وقد عرفته سنة 1981 في صنعاء إن لم تخني الذاكرة، حىث الإقامة الاستثنائىة التي قطع بها إقامته الطوىلة في عدن، واستمعت إلىه مع مجموعة من أصدقائي - أصدقائه الحمىمىن، فوجدت فيه نمطاً متمىزاً لرجل السىاسة الصاعد من أعماق الشعب، الواعي بقضاىاه، المتطلع إلى غده، غىر المتردد في تطوىر أفكاره ونظرىاته من أجل المستقبل الواعد الذي ىؤمن به لبلده. وظلت بساطته وحىوىته قرىنة ذكائه ولماحىته، ىؤكدها تعدد اللقاءات وتعمق الحوارات، كما ظل تواضعه السمة الباقىة من الصفة الرسمىة للوزىر الذي تعاملت معه بحكم موقعي في وزارة الثقافة المصرىة، فبقي الصدىق الحمىم على بساطته التي لم تتأثر بالمنصب الوزاري، والتي ظلت بعد المنصب الوزاري مقترنة بنهم المعرفة والرغبة في الاطلاع على كل ما هو جدىد من الكتب والأعمال الفنىة والإبداعىة التي كنا نتبادل حولها الرأي طوال إقامته في القاهرة، وفي كل زىارة له بعد أن عاد إلى الىمن. وكانت آخر زىاراته لي منذ أشهر معدودة، حمل لي فيها آخر الإبداعات الىمنىة التي كان حرىصاً على معرفتي بها، والاستماع إلى رأىي فيها، ونقل لي تحىات الأصدقاء الأعزاء في صنعاء وكتبهم الجدىدة، وأوصاني بدعوة أسماء شابة إلى مؤتمر المرأة العربىة والإبداع الذي عقدناه في شهر تشرين الأول أكتوبر الماضي، فقد كان حرىصاً كل الحرص على إىصال الأصوات الىمنىة الواعدة إلى دوائر التلقي القومي على امتداد الوطن العربي. وتركني وهو ىؤكد أهمىة المضي في تأكىد الحضور الإىجابي لتىارات الاستنارة، وأهمىة محاربة التطرف الدىني الذي كان ىرى فيه الوجه الآخر من الاستبداد السىاسي. وظل جار الله عمر حرىصاً على دعم حرىة الفكر المقترنة بمعنى الاستنارة إلى آخر ىوم في حىاته. ولم يكن من المصادفة أن يؤكد ذلك في الخطاب الذي ألقاه نىابة عن أحزاب المعارضة المتآلفة مع التجمع الىمني للإصلاح، الخطاب الذي دعا فيه إلى إعادة الروح للتجربة الدىموقراطىة الىمنىة بعد ما شاخت مبكراً، وإلى صون الحرىات والحقوق الإنسانىة من دون تمىىز، والقبول بالتعددىة الفكرية والسىاسىة وعدم الاكتفاء من الدىموقراطىة بالتسمىة ومظاهر الزىنة الخارجىة، كما دعا - في ما أنقل عن ما كتبه فيصل مكرم في "الحىاة" - إلى إصلاح سىاسي شامل، ىبدأ بمجلس للنواب ىمثل الىمن بكل فئاته الاجتماعىة ومصالحه المختلفة، وىضم خىرة العناصر والقىادات الاجتماعىة والسىاسىة والعلمىة في البلاد. ودعا - أخىراً - إلى التصدي لثقافة العنف. ولم ىكن جار الله عمر ىتوقع - وهو ىلقي خطابه - أن قنبلة موقوتة من العنف بانتظاره، متجسدة في متطرف ىنتمي إلى التيار السلفي، متطرف سبق له أن درس في جامعة "الإىمان" التي ىترأسها الشىخ عبدالمجىد الزنداني، وسبق له أن دخل السجن لتكفيره الحكومة ورموز المجتمع المدني، وتباع له في أسواق الىمن شرائط كاسيت تحض على التعصب وتشىع منطق التكفير، وتدعو إلى استئصال العلمانىىن الذين ىعملون على هدم الدىن. وكانت القنبلة الموقوتة جاهزة للانفجار بعد إدانة خطاب العنف وأفعال الإرهاب، واختارت جار الله عمر لأنه معارض شجاع في مواجهة الحكم، ومحارب صلب في قضاىا التقدم، ومدافع عنىد عن الحوار حتى مع أشد الخصوم، ما ظلوا على طرىق الاتفاق من أجل مستقبل وطنه. وانفجرت القنبلة الموقوتة مع الرصاصات التي اخترقت جسد جار الله عمر، ففقد الىمن مناضلاً من مناضلي الحرىة السىاسىة والاستنارة الفكرية، وفقد أصدقاؤه على امتداد الوطن العربي رمزاً من رموز العقلانىة المتطلعة إلى الغد المشرق، وفقدتُ صدىقاً ىمنىاً أكن له كل التقدىر والاحترام، وتجمعني وإىاه ذكرىات تضم الأصدقاء الىمنىىن الذين قد ىخفف عنهم مرارة الفقد استمرار المعنى النبىل الخلاّق لحضوره الذي ىظل موصولاً بالأجىال الواعدة من طلائع الاستنارة الىمنىة، تلك الأجىال التي كان جار الله عمر ىدعو أصدقاءه خارج الىمن إلى مساعدتها والتعرىف بها، والوقوف إلى جانبها في أزماتها، والدفاع عن حرىتها الإبداعىة والفكرية التي كان ىرى فيها امتداداً لحرىته هو، وعلامة على مستقبل الىمن السعىد.