التنوير، عندي، هو أولوية استخدام العقل في فهم الأشياء والحكم عليها، والاهتداء بما هو في قدرة العقل الإنساني على ما يجاوز حدود هذا العقل، فيتخيل إمكانات الحاضر والمستقبل، مدركاً عبرة ما حدث في الماضي ليكون أصلاً في الحكم على الحاضر، وتبشيراً بما يمكن أن يحدث في المستقبل الواعد وإرهاصاً به وعملاً على تحقيقه في آن ولهذه الأسباب وغيرها، انتهى الإمام محمد عبده إلى أن للإسلام أصولاً خمسة: الأول النظر العقلي لتحصيل الإيمان، والثاني تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والثالث البعد عن التكفير، والرابع الاعتبار بسنن الله في الخلق والخامس قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، فلقد هدم الإسلام بناء هذه السلطة، ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، فالإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، وأن الرسول عليه السلام كان مبلغاً ومذكراً لا مهيمناً ولا مسيطراً، ولم يجعل لأحد من أهله سلطة أن يحل ولا أن يربط في الأرض ولا في السماء. كان هذا الفهم العقلاني للإسلام، ولا يزال، أساس إيماني به وأساس إيماني بالتنوير في الوقت نفسه وكان هذان الفهمان المتطابقان هما الأصل في إيماني بالدولة المدنية الحديثة التي تقوم على الحرية والعدل وإذا كانت الحرية تعني الديموقراطية والحياة الحزبية القائمة على احترام كل القوى الوطنية وعدم التمييز بينها، على أساس مدني أو ديني أو عرقي، فإنها تعني تحريم الاستبداد، والتسوية بين جريمة استبداد فرد، أو استبداد مجموعة، أو استبداد حكم، فالاستبداد وباء إذا أصاب أمة أفسدها، وجعل أعزَّة أهلها أذلة، وقضي على حق الاختلاف، واستأصل قدرات التفكير الحر، والابتكار الخلاق، وإمكان أي تقدم علمي أو فكري أو حضاري والعدل هو الوجه الآخر في القيمة من حيث علاقته بالدولة المدنية الراعية وغير المقصرة في حق المواطنين في التعليم المتقدم، والحياة الصحية السليمة، والمصدر المتاح للرزق بما يحفظ على الإنسان كرامته، ويدفعه إلى الاعتزاز بوطنه، والإيمان المطلق بمبدأ المواطنة الذي يعني عدم التمييز بين المواطنين على أساس من جنس أو دين أو ثراء، فالوطن للكل، وخيره يسع الجميع، وشعار مواطنيه الدين لله والوطن للجميع. وقد امتزجت معاني الوطنية، عندي، بقيم قومية وإنسانية، القومية اكتسبتها بحكم تربيتي وجيلي في زمن المدّ القومي العظيم الذي ارتفعت فيه أعلام «الوحدة العربية» مقرونة بأحلام الحرية التي تعني الديموقراطية وحق التفكير والإبداع المقرون بحق الاختلاف على كل المستويات، وفي كل المجالات أما الإنسانية فقد اكتسبتها بواسطة القراءة في الآداب، والتعمق في معرفة الفنون والإبداعات العالمية وقد أدركت، بعد معاناة التجارب، أن هويتي ثلاثية الأبعاد، فهي هوية وطنية من حيث انتمائي إلى قضايا وطني وحلمي بمستقبل متقدم له، يضعه في مصاف أقطار العالم المتقدمة، وقومية من حيث إيماني الراسخ بقضايا العروبة والمصير المشترك، فضلاً عن التاريخ المشترك الذي يجمع بين الأقطار العربية، وما يمكن أن تصل إليه لو حققت صيغاً متطورة من التعاون المتبادل، بعيداً من الصيغ الانفعالية الرومانسية التي ورثناها من الأربعينات والخمسينات، وأقرب إلى صيغ تتوافق وزمن تحوّل فيه الكوكب الأرضي إلى قرية قومية متجاوبة الأطراف، في ظل مفاهيم جديدة للزمان والمكان والمساحة وهي إنسانية من حيث شعوري أنني خلية حية في جسد عظيم هو الكوكب الأرضي بكل أجناسه وقومياته وثقافاته ولذلك كنت، ولا أزال، داعية إلى التنوع البشري، والتنوع الثقافي الخلاّق في الوقت نفسه ولا أزال أرى أن في آفاق هذا التنوع الذي ينطوي على أبعاد عديدة، خير علاج لمخاطر العولمة التي ازدادت توحشاً، بسبب المطامع الاقتصادية والصناعية التي لا يهمها سوى تراكم الأرباح على حساب شعوب الكوكب الأرضي الفقيرة التي أصبحت تتحكم في مصيرها شركات عابرة للقارات، متعددة ومتعدية الجنسيات. ولا أزال أنطوي على هذه الأفكار والمبادئ التي تتشكل منها رؤيتي الخاصة للعالم بوصفي مثقفاً مصرياً، يرى أنه ليس وحده في الإيمان بهذه الأفكار، فهو جزء من مجموعة يصفها بالاستنارة، ويرى في أفراد هذه المجموعة، كما يرى في نفسه، دعاة للاستنارة التي هي سبيل حيوي لتقدم أحوال وطنه وأمته وإنسانيته ولا أفرض هذا المصطلح التنوير ومشتقاته على أحد، فلا مشاحة في الاصطلاح، الأهم هي المبادئ والأصول التي يشير إليها، والتي تجعلني أتفق أو أختلف مع غيري، محترماً حق اختلافه عني، مطالباً إياه بأن يحترم اختلافي عنه، في شكل متحضر من أشكال الحوار التي غابت عن الساحة الثقافية العربية بوجه عام، والمصرية بوجه خاص، ولا تزال هويتي الوطنية متصالحة مع هويتي القومية والإنسانية، في مدى الاعتداد بكرامة الإنسان وقدراته الخلاقة، فهو الذي لا يزال يصنع التقدم على عينه، وهو الكائن الذي لا تكتمل إنسانيته إلا بالاعتراف بالآخر، والتفاعل الإيجابي معه، وليس نفيه أو استبعاده لأي سبب من الأسباب، فالآخر هو الوجود المكمل لحضور الأنا، والأنا هي الكيان الذي لا يعي حضوره إلا بآخر، هو غيره أو هو نفسه والحوار بين الاثنين أساس المعرفة المتطورة، ومبدأ أصيل من مبادئ الإنسانية نفسها، خصوصاً في مداها الذي تنفتح فيه آفاق التنوع الخلاق في كل مجال وعلى كل مستوى ولكن لا يتم حوار إلا بعد تقبل الأنا للآخر، واعتراف الذات بوجود غيرها المختلف عنها، والذي يرجع اختلافه إلى طبائع الأشياء والكائنات نفسها، ولولا ذلك لما خلقنا الله مختلفين، ولا كان في اختلاف الفقهاء رحمة، وفي اختلاف العلماء أصل من أصول التقدم ولذلك دعانا نبي الإسلام إلى طلب العلم ولو في الصين، وجعلنا الإسلام شعوباً وقبائل لنتعارف ونتعاون، وعلمنا فلاسفة الإسلام العقلانيين الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن رشد فائدة الانفتاح على الآخرين أياً كانت أقطارهم وأديانهم ولغاتهم، فطالب المعرفة هو طالب للحق، ولا يهم طالب الحق من أين أتى هذا الحق، حتى إن أتى من الأمم القاصية عنا وعلماء الديانات المباينة لنا هكذا، أجدني أردد ما قاله غاندي «إني أفتح نوافذ بيتي على كل الاتجاهات، كي تدخله الريح من كل مكان، شريطة أن لا تنتزع هذه الريح أصول البيت وقواعده». ويقيني الذي لا أزال منطوياً عليه هو رفض كل أشكال التعصب والاستبداد، سواء باسم الدين أو باسم السياسة أو باسم أي مذهب أياً كان، ولا يزال هذا اليقين قائماً في ما يؤكده الواقع المصري وغير المصري من التلازم بين طبائع الاستبداد السياسي والتعصب الديني، فما أعرفه أنه لم تحدث دعوات مغالية إلى دولة دينية إلا في فترات الاستبداد أو الاضطراب السياسي على السواء ومثال ذلك أن دعوة الإخوان المسلمين نفسها إلى إحياء الخلافة التي تعني أقصى إمكان لدولة دينية ظهرت تحت مظلة الحكم الاستبدادي لدولة الملك فؤاد الأول، وبدعم من قوات الاحتلال البريطاني، وازدهرت في ظل انتهازية التحالف مع ابنه فاروق ودعمه في صراعه مع حزب الوفد ممثل القوى الشعبية والليبرالية الوطنية وعندما كان دستور 1923 وأفكار ثورة 1919 عن الدين لله والوطن للجميع يبسطان ظلهما على الواقع السياسي والاجتماعي، كانت أفكار المواطنة في الدولة المدنية السمحة تحل محل أفكار التعصب الديني والدولة الدينية على السواء وما حدث قبل ثورة تموز (يوليو) 1952 حدث بعد ما قام به السادات من انقلاب على الناصرية، وأقام دولته التسلطية، تحت أقنعة ديموقراطية براقة، فصعد نجم جماعات الإسلام السياسي التي أنهت تحالفها معه باغتياله. ولذلك لم أكن أرى فارقاً كبيراً بين النظام الاستبدادي لأية دولة تسلطية معادية للديموقراطية وأية مجموعة دينية منغلقة، قائمة على التمييز والتعصب في آن. وكانت قناعتي بذلك في أوضح صورها بعد مقتل السادات، ومتابعة أحوال ما وصلت إليه مصر بسبب الدولة التسلطية الساداتية، ومابدا واضحاً في دولة مبارك التسلطية التي تبعتها، والتي لم تنقطع أشكال التفاهم بينها وجماعة الإخوان المسلمين، خصوصاً في الانتخابات الرئاسية، فقد كانت ثمة مصالح مشتركة بين الطرفين، رغم وطأة النظام الأمني في زمن مبارك الذي لم يدرك، قط، أن الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة هي الحل، وليس الاستبداد أو احتكار السلطة ونهب الثروة. وقد كان هذا التحول السياسي الحاسم في تاريخ مصر، وتصاعد مخاطر إمكانات دعاة الدولة الدينية، مع ارتفاع لا يزال يتزايد في عمليات التديين القمعي والقسري للمجتمع المصري الحديث، أقول كان لهذا التحول تأثيره في كتاباتي، وانصرافي عن التخصص الضيق في النقد الأدبي إلى الكتابة العامة في هموم الوطن، وغلب المثقف التنويري على الناقد الأدبي الخالص وكانت سنة 1989 هي سنة التحول، فقد وافقت مرور مئة عام على ميلاد طه حسين والعقاد، وكلاهما ممثل لجيل ليبراليي الفكر والكتابة، على عداء مع التسلط السياسي والتعصب الديني على السواء وكلاهما آمن بالدولة المدنية الحديثة بكل لوازمها السياسية والفكرية وكانت النتيجة مقالاتي التي نشرتها في مجلة «إبداع» القاهرية التي رأس تحريرها أحمد حجازي الذي كان، ولا يزال، يؤمن بالأفكار والأصول نفسها التي أوضحتها قبلاً وقد حمل كتابي «هوامش على دفتر التنوير» (1994) مقالات هذه المرحلة وقبلت العمل أميناً للمجلس الأعلى للثقافة من المنطلق نفسه سنة 1993 وانتقلت كتاباتي إلى جريدة «الأهرام» مزاملاً أحمد حجازي، وأخذنا نكتب في الاتجاه التنويري نفسه ولم يكن يهمني أن يكون خلافي مع دعاة الدولة الدينية من المتعصبين دينياً يختلف عن هجومي على الدولة التسلطية في زمن مبارك، وما كنت أختلف في ذلك عن أحمد حجازي الذي ناله من اختراق دعاة الدولة الدينية القضاء مثل ما نالني وقد زدت على حجازي الكتابة في «الحياة» الجريدة التي ما أزال أشرف بالكتابة فيها وينطوي كتاباي «ضد التعصب» (2000) و«نقد ثقافة التخلف» (2008) على كثير من المقالات المنشورة فيها، وكان ذلك في زمن الرئيس مبارك، ولا تزال كتابتي في «الأهرام» تمضي في المسارات ذاتها، ولم أتردد في الدفاع عن قيم الاستنارة الفكرية والدولة المدنية الحديثة بكل لوازمها بعد ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) ومن المؤكد أن زميلي أحمد حجازي يفعل الأمر نفسه في مقالاته التي توازيها مقالاتي في «الأهرام» في هذا الزمن الجديد المضطرب الملامح والاتجاهات ولم يكتب كلانا، حجازي وأنا، دفاعاً عن مبارك ونظامه، بل هاجمنا فساد الدولة مثلما هاجمنا مخاطر التعصب الديني وكنا، ولا نزال، نكتب من أجل مصلحة أوطاننا، وليس من أجل فرد أو حزب أو دولة حتى الوزارة التي دخلتها - عندما طُلِبَ مني الإسهام في إنقاذ الوطن استقلت منها بعد أيام حين رأيت رأي العيان فساد نظام مبارك واستحالة تغييره إلا بخلعه من جذوره التي لا تزال تشيع فساداً في الوطن، ولن أكف ولا حجازي، وفق معرفتي به، في تعريتها. ولذلك حزنت عندما قرأت ما نقله الصديق محمد علي فرحات (في تقرير بعنوان «قيم العولمة حين تقود إلى الديموقراطية» - «الحياة» 1/6/2011) عن استغراب صديق له في القاهرة قائلاً «كيف يواصل جابر عصفور وأحمد عبد المعطي حجازي الكتابة ضد التيار الديني؟ أيفعلان ذلك باسم النظام، كأن النظام لا يزال قائماً، وهو قائم رغم تعديلات طفيفة في الهيئة». مصدر حزني هو الجهل قبل إصدار الحكم، فمن الواضح أن صديق محمد علي فرحات، سامحه الله، لم يقرأ ولا يقرأ ما كتبت وأكتب، وإلا لم يقل ما قال. ومن المؤكد أن محمد علي فرحات الصديق فارق الدقة عندما نقل تهمة «الكتابة ضد التيار الديني» فأنا لم ولا أكتب ضد تيار ديني، من حيث هو تيار ديني أياً كان، وكتبت ولا أزال أكتب «ضد التعصب» في سبيل «نقد ثقافة التخلف» ولذلك أعتز بصداقتي بأحمد كمال أبو المجد ومحمود زقزوق وأحمد الطيب وعبدالمعطي بيومي، ولا أكف عن إعلان احترامي لعقلاء الإخوان المسلمين، والمتحدثين العقلاء باسم الدين الإسلامي عموماً، فهؤلاء دعم للاستنارة والدولة المدنية الديموقراطية الحديثة على السواء، ولذلك احتفيت بكتاب المستشار سعيد العشماوي عن الحجاب، وعبدالمعطي بيومي عن «الإسلام والدولة المدنية» وكتبت عن حوار المثقفين مع حكماء الأزهر، ولا أتردد في الكتابة ضد أخطاء وسلبية النظام الجديد الذي لم تكتمل ملامحه بعد، كما لا أزال «ضد التعصب» ولن أتوقف عن «نقد ثقافة التخلف» في كل تجلياتها وعهودها، حتى لو افترى، البعض أو ظلم، أو جهل، أو حتى اتهم، فهناك مستقبل وطن أهم من الجميع لأنه فوق الجميع، وحلم دولة مدنية ديموقراطية حديثة هو أغلى على النفس والعقل من أن يضيع ويقيني أنني لست وحدي في هذا الحلم.