فلنعد إلى مقتلة الأطباء الأميركيين الثلاثة وجرح رابعهم في مستشفى مدينة جبلة اليمنية عشية رأس السنة الفائتة، أي القتلة التي ارتكبها شاب في الثلاثين من عمره اسمه عابد عبدالرزاق الكامل، مسبوقة بعملية اغتيال الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني السيد جارالله عمر، وذلك على يد اصولي يمني آخر. الصلة بين الجريمتين وبين منفذيهما اللذين توزعا العمل، تقوم على فكرة "تطهير المنطقة" من "دنس" العلمانيين الكفرة ومن المبشرين المسيحيين، بحسب ما جاء في اعترافات قاتل الأميركيين. والحال أن المقتلة المذكورة تنضاف إلى لائحة طويلة ومزدحمة من المقاتل والاعتداءات التي استهدفت هيئات مراكز "أهلية" غربية عموماً، وأميركية خصوصاً، إلى أماكن عدة في العالم الإسلامي والعربي. فقد وقعت في باكستان حوادث مشابهة واعتداءات طاولت مراكز اجتماع وعبادة انجيليين، وقتلت ممرضة أميركية في مدينة صيدا الللبنانية كانت تعمل في مستوصف تابع لهيئة انجيلية. اندراج هذه العمليات وغيرها في مناخ أصوليات متشددة، وإن كانت أقلوية على مستوى التنظيم والتأطير، يولّد الانطباع بأن المعنى الوحيد لهذه العمليات يكمن في سعيها إلى التعبير العملي عن نزعة تتشهى الخلاص والطهارة الذاتيين بعد وضعهما في منظار قيامي ذي طابع شمشوني صارخ عليّ وعلى أعدائي يا رب. إذا كانت مقتلة الأطباء الأميركيين تستحق الإدانة، أخلاقياً وسياسياً، فإن هذا، أي استفاظعها هي وشبيهاتها، لا يحول أو ينبغي ألا يحول دون محاولة الاحاطة بسائر دلالاتها، وإن كانت هذه المحاولة مزعجة تصدم أصحاب الذوق السليم الذين يأنفون أو يستقبحون أخذ الحكمة من أفواه المهووسين. فلنبدأ بالالتفات إلى ما تناقلته وكالات الأنباء وبضع صحف غداة مقتلة جبلة. فقد أوردت هذه المصادر الإعلامية تعليقات أدلى بها مسؤولون في الهيئة التي كان يعمل الضحايا الأميركيون في إطارها، فأعطى مجلس البعثة الدولية المعمدانية الجنوبية لمحة سريعة، مختصرة عن منشأ الضحايا الأربع الذين كانوا يمثلون مجلس البعثة العاملة في مستشفى جبلة المعمداني طوال 35 سنة. وذكرت المصادر ذاتها أن المجلس المذكور تابع للمؤتمر المعمداني الجنوبي الذي يصف نفسه بأنه أكبر هيئة تابعة للكنيسة البروتستانتية في الولاياتالمتحدة. وأفاد الناطق باسم مقر المجلس في ريتشموند في ولاية فيرجينيا، اريش بريدجز، ان المستشفى يعالج أكثر من 40 ألف مريض سنوياً، ويقدّم علاجاً مجانياً وأدوية للمحتاجين، كما ساعد في تلبية حاجات الاغاثة خلال الزلازل والمجاعات. أما رئيس المجلس المذكور جيري رنكين، فقال في مؤتمر صحافي: "لن نضع حداً لعملنا وخدماتنا بسبب مغامرة أو خطر يتعرض له جهازنا البشري، وإذا ما فعلنا ذلك، فسيعني الأمر نهاية عملنا في عدد كبير من دول العالم". وأوضح أن المرسلين من أعضاء منظمته حاضرون في 184 دولة في العالم وبينهم عدد كبير يعمل في دول إسلامية عدة، وان أفراد جمعيته مهددون في عدد من الأماكن في العالم منذ هجمات 11 أيلول سبتمبر، وان "التهديدات تؤخذ على محمل الجد، لكن جهازنا البشري متكيف جداً ثقافياً ومرتبط بالسكان المحليين بعمق وكذلك بمسؤولي الأمن والشرطة". قد لا نحتاج إلى التنويه بمواصفات الخدمات الإنسانية التي يقدمها مستشفى جبلة المعمداني، كي نستبشع المقتلة، غير أن تلميحات مسؤولي البعثة المعمدانية الجنوبية إلى خريطة انتشار خدماتهم الإنسانية، وإلى حجم التهديدات التي يتعرضون لها ويصرون على مواجهتها، تجيز الالتفات إلى وجوه أخرى لنشاط المعمدانيين ذي الطابع "العولمي"، إذا جاز التعبير. ويمكن ها هنا أن تكون رواية المسؤولين المعمدانيين ذات النبرة الحيادية والمقتصدة في تعبيراتها، رواية منقحة ومشذبة من الجائز مقارنتها برواية ثانية أو ثالثة... الخ. هاكم رواية أخرى شاءت مصادفات القراءة أن نقع عليها: "… في نظر طائفة دينية مثل الكنيسة المعمدانية الجنوبية وهي شديدة التأثير داخل اليمين الجمهوري في الولاياتالمتحدة، يمثل الإسلام ديانة مزيّفة. وقد قررت اطلاق حملة ناشطة من أجل جذب المسلمين إلى اعتناق المسيحية أي تنصيرهم: على هذا النحو جرى إعداد آلاف الدعاة للعمل في الخفاء تحت غطاء منظمات إنسانية مثل "شلتر ناو" في أفغانستان، أو تحت غطاء اعطاء دروس لتعليم الانكليزية أو المعلوماتية. لا ريب في أن مثل هذه الحملة التنصيرية سينظر إليها في أوروبا بوصفها دليلاً على التعصب وعلى الالتفاف على القضية الإنسانية". هذه العبارات التي ننقلها بحرفيتها لم نقتطفها من بيانات أو أدبيات أصولية إسلامية، ولا من افتتاحيات أو مقالات عربية شعبوية من طراز تلك التي تعج بها الصحافة المصرية على سبيل المثال لا الحصر، بل هي مأخوذة من كتاب صغير للباحث الفرنسي المعروف اوليفييه روا المتخصص في الإسلام السياسي وفي آسيا الوسطى. والكتاب صدر منذ بضعة أشهر بعنوان "أوهام 11 أيلول"، ويتناول فيه روا أبرز وجوه المناظرة الاستراتيجية حول مواجهة الإرهاب، راصداً عن قرب من الداخل تعقيدات واتجاهات النظرة الأميركية إلى الإسلام والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، خصوصاً أنه عمل، وما يزال يعمل ربما، استاذاً زائراً في معهد دراسات أميركي في برنستون. ويسعنا أن نضيف إلى العبارات السابقة ما يذكره روا في هامش الصفحة حيث يحيل القارئ إلى خطاب ألقاه الاسقف جيري فاينس في مؤتمر للمعمدانيين الجنوبيين، ويصف فيه نبي الإسلام بالانحلال الخلقي، ويدعو إلى تقديم دعم كلي لإسرائيل، لأن المسيح لا يمكنه أن يعود إلا بعد إعادة بناء الهيكل في القدس. على أنه يؤكد في الوقت ذاته على وجوب تنصير اليهود، مما يعني أن التحالف بين الاصولية المسيحية وبين الصهيونية في نسختها المتشددة جداً يمكنه أن يحمل مفاجآت في المستقبل، على ما يقول اوليفييه روا. تجدر الاشارة، بحسب روا دائماً، إلى أن الرئيس جورج بوش خاطب مجلس المؤتمرين عبر شريط مصور، قائلاً إن هذه الكنيسة مثال للديموقراطية، ومن جهة أخرى دان ممثلو الديانات الأخرى في مدينة سان لوي بما في ذلك مجلس العلاقات اليهودية، تصريحات الأسقف المذكور. ماذا يصنع هؤلاء الدعاة المعمدانيون المنتشرون في 184 دولة في العالم، وبينهم "عدد كبير يعمل في دول إسلامية عدة"؟ السؤال شرعي وجائز، خصوصاً عندما يكون السكوت عنه، دينياً وثقافياً وسياسياً، أخطر شأناً في بعض الأحيان من التصريحات القائمة على المجاملات. على أن درجة الخطورة لا تتعلق بالضرورة بالمواقف والنظرات الدينية في حدّ ذاتها، فهذه يمكنها أن تتباين وتتنوع قدر ما تشاء شريطة التزامها بقواعد مشتركة للحوار والمناقشة وفي ظل إطار جامع ومقبول. درجة الخطورة تعود بالأحرى إلى واقع الشروط التاريخية والثقافية للأنشطة والمناظرات. وفي هذا المعنى، يمكن القول بأن أحداث 11 أيلول أحدثت شرخاً هائلاً في العلاقات بين مجتمعات ومخيلات مختلفة، شرقاً وغرباً، وهي علاقات مضطربة من ذي قبل. ومعلوم ان الأصوليات المستفيقة من سباتها، تقوم تعريفاً على افتراض وجود أصل تتولد عنه سائر وجوه الحياة والتاريخ، وأن هذه لا تتحصل على معناها إلاّ عن طريق احالتها على الأصل المفترض. ومعلوم أيضاً أن الأصوليات تسعى حثيثاً إلى التبسيط إلى اختزال وتأحيد الحياة بعجرها وبجرها كي تذوب وتفنى في مصهر الأصل السحري المفترض. والحال أن المبشرين المعمدانيين أو القسم الأصولي منهم وعلى طريقته، يسعون إلى نوع من العولمة التي تخصهم والتي تتراسل مع العولمة الجارية المسكونة حتى اشعار آخر بأصولية السوق. ثمة بالتأكيد سوق للدعوة والاعتقاد الدينيين، وثمة اقتصاد سياسي للشعار والرموز والعلامات. وما فعله عابد عبدالرزاق الكامل وأمثاله هو اختيار الحل الأبسط، أي الأكثر استجابة لغريزة الانتقام والتطهير في ما يشبه الإعلان عن التشوق إلى حرب أهلية، معولمة بدورها. ما نشهده هو صراع بين اصوليات عولمية. قد لا يكون الشاب اليمني الذي قتل الأميركيين الثلاثة على صلة بتنظيم "القاعدة"، بيد أنه بالتأكيد على صلة بالمنطق الذي تريد "القاعدة" فرضه كطريقة معولمة لمحاربة الغرب الأميركي القائم على أصل فاسد. ومن شأن الاصوليات الأخرى، وفي مقدمها الاصولية البروتستانتية الناشطة في الولاياتالمتحدة وخارجها، أن تغذي اصوليات منطقتنا، وأن تمنحها شرعية الدفاع عن أرض يبدو أن السياسات الوطنية العربية لم تفلح في تثبيت قوامها وملامحها. في هذا السياق، نستطيع القول بأن الأميركيين الأهليين القتلى هم ضحايا اصوليات عدة، بما في ذلك اصوليتهم التي لا نستبعد أن يكونوا تخففوا منها بعض الشيء بحكم الوقت الطويل لإقامتهم اليمنية وتجربتهم. لكن هذا النوع من الاختبار واحتمال المراجعة شيء لا يحسب حسابه المهووسون بالخلاص والتطهير.