يعد كتاب «الجهل المقدس... زمن دين بلا ثقافة»، الذي يبدو عنوانه صادماً، أكثر كتب الفرنسي أوليفييه روا المثيرة للجدل؛ وقد صدر أخيراً مترجماً إلى العربية بواسطة صالح الأشمر عن دار الساقي، في نحو 300 صفحة، في توقيت يواكب أحداثاً مثيرة حول العالم ترتبط من زاوية ما بموضوعه، وهنا يكمن سر استقطابه لنقاش النخبة، حيث صحوة الإيمانيات تجابهها غطرسة العولمة وسيادة المادية الجشعة، وتجذر الفكر الديني في العمل السياسي، كما في نموذج تيارات الربيع العربي من جهة، أو نهضة اليمين الأوروبي والأميركي من جهة ثانية. الأمر الذي يعيدنا إلى تساؤل الأديب الفرنسي أندريه موروا في ستينات القرن المنصرم: هل سيضحى القرن الحادي والعشرون قرناً دينياً أم لا؟ ما الجهل المقدس الذي يحدثنا عنه روا في كتابه؟ يرى روا أنه الاعتقاد الديني المحض الذي يبنى خارج الثقافات، ويحرك الأصوليات الحديثة المتنافسة في سوق للأديان، يفاقم اختلافاتها ويوحد أنماط ممارستها. لا يختص الكتاب بالحديث عن الإسلام فقط، فهو كما قال كاتبه: «هذا الكتاب ليس بالضرورة كما يبدو: عمل اختصاصي في الإسلام، يخرج عن مجال اختصاصه لينتقل إلى مجال المقارنة، مع ما ينطوي عليه ذلك من هواية»، كما أنه أيضاً - وفق كاتبه - «ليس تصفية حساب مع الإنجيلية. فقد عانيتُ في الواقع حيرة أكثر مما حملتُ ضغينة، وإنما هو دراسة شاملة تطرقت إلى مختلف الديانات السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وبعض الديانات الوضعية؛ كالبوذية». حين يتحدث مفكر فرنسي بحجم أوليفييه روا عن عودة الديني، فذلك مؤشر كبير إلى أن العلمانية لم تستطع إقناع الروح الحرة داخل الإنسان الذي ينزع بفطرته للدين، ولكن الأهم من ذلك هو أن توضع العلمانية ذاتها أمام سؤال الحرية. يطرح أوليفييه روا جملة أسئلة تمهيدية عن الأسباب الكامنة وراء الهجرات النشطة من دين إلى آخر، أي كيف أمكن كنيسة بروتستانتية إنجيلية أن تتجذر في المغرب أو الجزائر؟ ولم تحقق الإنجيلية البروتستانتية اختراقاً مدهشاً في البرازيل (بلغ عدد أتباعها 25 مليوناً عام 2007). والأهم من ذلك: لماذا لا يقود الاحتدام العقائدي للدين في إيران إلى علمنة المجتمع المدني؟ يذهب أوليفييه روا في الإجابة على تساؤلاته إلى أن فرضيتين تواجهتا في الربع الأخير من القرن العشرين؛ إحداهما ترى في العلمنة سيرورة محتمة، هي شرط للحداثة ونتيجة لها في آن، والأخرى تسجل أو تحيي عودة الديني، مدركة إما على أنها احتجاج على ثقافة مستلِبَة أو وهمية. يرى الكاتب أن المزج بين الديني والسياسي يقضي عليهما معاً في آن. والسبب في ذلك هو أن منطلقهما مختلف، فالديني فردي والسياسي جماهيري، الأول يستدعي الحرية والثاني يستدعي التبعية أو التضامنية على الأصح، لذلك فهو يرى أن من حسنات العلمانية على الدين أنها أبعدته من السياسة، لأن تسييس الديني - من وجهة نظره - يؤول في كل مرة إلى علمنته، لأنه يتورط في السياسة اليومية، لذلك فالعلمانية تؤدي إلى الإنعاش الديني بل إنها تصنع الديني نفسه. هل الدين جزء من الثقافة؟ يؤكد الكاتب ضرورة تفكيك العلاقة بين الدين والثقافة قبل الحديث عن صدام الحضارات أو حوار الأديان، وهو ينتقد تأسيس صاحب كتاب «صدام الحضارات»، نظريته على الترابط الحتمي بين الدين والثقافة. ويرى أن هذا الطرح يفتقد الاستقراء العلمي والنظرة العميقة في الدين، والفصل بين الأديان وسلوك المتدينين. في الواقع، يعتبر كتاب «الجهل المقدس» أحد أهم الكتب الفكرية التي قدمت رؤية عميقة حول الدين كمكون رئيسي في الكون البشري والتدين كظاهرة معاصرة مدهشة رغم عقود من الترويض على عولمة العلمنة، وقد أصدر الكاتب كتابه هذا مع انطلاقة شرارة الربيع العربي الذي مثَّل في وجه من وجوهه نهضة الضمير الديني أو عودة الديني إلى الواجهة. أوليفييه روا؛ عالم سياسي فرنسي من مواليد 1949، يعمل حالياً أستاذاً في المعهد الجامعي في مدينة فلورانس (إيطاليا) وعمل مستشاراً لمكتب منسق الأممالمتحدةلأفغانستان عام 1988، وتناولت أبحاثه على التوالي، أفغانستانوإيران والشرق الأوسط، والإسلام السياسي والمسلمين في الغرب. ومن أهم مؤلفاته: «الإسلام المتعولم»، «فشل الإسلام السياسي»، «حول الدين والعلمانية»، «الجهل المقدس... زمن دين بلا ثقافة».