على هذا الشاطئ المهجور، فقد الربان سفينته. وحان وقت الرحيل يا حبيبتي، وانقطع المطر... بدأ الجفاف يدب في أعماقنا الخاوية. وقلت لرفيق الطفولة البعيدة: أنا غريب هنا. سألني باقتضاب: لم؟! أجبت في حيرة: أحس هذه الديار غريبة عليَّ... أشاهدها للمرة الأولى في حياتي. قال معاتباً: أتنكر مراتع الطفولة وأيام الصبا والشقوة والحب البريء؟! قلت لنفسي: هذا الشاطئ المهجور، في طفولتي البعيدة، أحببت هذه الديار. كنت أشعر في قربها بالأمان والحب والحنان. هذه الجدران الطينية الخشنة، كانت تؤنسني وتبدد وحشتي وتقيني من شدة الرياح والبرد والزمهرير... الآن، وقلت بصوت مسموع، هيا بنا نرحل عن هذه الديار الغريبة، فلسنا نحن الغرباء هنا، إنها الديار التي أضحت غريبة كئيبة، تنكرنا وتتبرأ منا ومن جوهرنا الغامض. قال رفيق أيام الصبا وباكورة الشباب: لم يتغير شيء. أنت الذي تغيرت وتبدلت. المادة أصبحت كل شيء... تلهث وراءها في بلاد الله الواسعة، حتى تغيرت نظرتك الى الحياة والبشر وموطن أجدادك أحسست بأنه تغير، أصبح باهتاً، بالياً، عفا عليه الزمن ومات الطفل البريء الذي في أعماقك. وارتفع صوته وهو يتساءل: لماذا هذا الجحود والنكران للتراب الذي لعبت عليه ونشأت وتمرغت فيه؟ هذه الأرض السمراء، أكلت وشربت من أعماقها، من خيراتها. كلكم تقولون ذلك. البلدة تغيرت، الزمن غير كل شيء!! لا... خرجتم من دياركم أبرياء، أنقياء، في صفاء المال الزلال، وعدتم. ويا ليتكم ما عدتم. عدتم مختلفين مثل "الحرباء" التي تغير جلدها ولونها من وقت لآخر! وما زالت الديار على حالها. أخذت أردد كلماته: وما زالت الديار على حالها. نحن الذين تغيرنا. وقلت في صوت مكتوم: أصبحنا الغرباء في زمن الغربة والترحال، ورحلة الشتات التي بدأت منذ سنوات. وهززت رأسي في حزن وأسى: الأرض هربت من تحت أقدامنا، والزمن هرب من بين أيدينا المرتجفة. هرب كل شيء منا، تراجعنا للوراء آلاف السنين، عدنا الى الأسوأ مرّ المذاق كطعم نبات الصبار. وقال الشيخ الهرم وأنا أميل لأطبع قبلة على ظهر يده اليابسة: ستعود! أعرف الاجابة، فلا داعي للتهرب من مواجهتي. أنا هنا في احتياج اليك. أنت عكازي وساعدي. لا تنطق. أعفيك من تقديم الحجج والعلل والأسباب. تغيرتم يا أبناء زمن الجحود والنكران. أعطيتم ظهوركم لنا، وهربتم من بين جدران الديار. قلت في كآبة لألقي بالمسؤولية على غيري: الزمن هو الذي غير كل الأشياء الجميلة. سأل بحدة واستنكار: وغيّر النفوس؟! أجبت بسرعة: نعم. عقب بحزن: حتى النفوس العامرة بالخير. لم أجب عليه، فاستطرد الشيخ مستكملاً: أضحت خراباً! لم أعقب على كلامه، فهز رأسه وصمت وهو يرمقني بنظرة عتاب. يا حبيبتي هيا نبحر في الذاكرة. قالت ضاحكة بعبارات تحتمل لأكثر من معنى: تبحر عكس التيار. عكس الزمن. محال أن تطوي الزمن وتعيده للوراء مرة أخرى! يا حبيبتي أنت أول من يعرف مقدرتي وقوتي في عالم الإبحار. عقبت ضاحكة مستهزئة: عظام قاربك مثل عظام صدرك والترقوتين. نخرة، خالية من النخاع، مهترئة. لن تتحمل غضبة البحر وهياجه. ومجدافاك متآكلان من ملوحة المياه التي أكلت جلد يديك وساقيك، يا بحاري العزيز. قلت: تقولين كل هذا، بعد هذا العمر الطويل! وأنا الذي عشت طوال عمري أعمل بالبحر. وقادر على مواجهة النوات. وقالت المرأة العجوز الطيبة وهي تقبلني: عد من حيث أتيت، لا أريد لك التعاسة يا طائري الحبيب. لا أود أن أشاهدك حزيناً أمام عينيّ. أما نحن وديارنا، فسنظل هكذا على حالنا... حتى يأتي أمر كان مكتوباً.