يا أُمّ!.. رُدِّي على قلبي طُفولتَهُ وَأَرءجِعي لي شباباً ناعِماً أَفَلا ... هاتِ الصَّبِيَّ.. وَدُنءيَاهُ.. وَلُعءبَتَهُ وَهَاكِ عُمءري.. وَبُقءيَا الرُّوحِ.. وَالءمُقَلا غازي القصيبيّ، ديوان "للشُّهداء"، ص 11 لِمَ أخرج غازي القصيبيّ شِعءر النّشءأة الأولى من مخبئه؟ وما الذي دفعه إلى أن يرجع بنفسه وبقارئه إلى ما يزيد على خمسين سنةً؟ ولِمَ اتّخذ "البراعم" عنواناً لديوانه الذي انطوى على شِعءره الذي حكّ في صدره، بعد أن غادر صباه، وحَبَا إلى الشّباب؟ إنّ من عادة الشّعراء أن يسكتوا عن شِعءر الصِّبا والصّدر الأوّل من الشّباب، ويعدّون ذلك الضّرب من الشِّعءر سبيلهم إلى معاناة الأدب ومكابدته، ومِرءقاةً يرتقون بها إلى حيث يكون الشِّعءر شِعءراً، أو هكذا يظنّون، وإذا ما أسمحوا، بعد ذلك، بشيءء من شِعءر الصِّبا، فلكي يدلّوا به على تضلُّعهم من الأدب واللّغة، وظهورهم على أقرانهم، وكأنّهم، وقد بلغوا من العُمءر مبلغاً، إنّما يشيرون بإصبعهم إلى ذلك الشّاعر "الفتى" الذي لم يركن إلى ملاعب الطّفولة وعبثها، ولكنّه عجم كنانة اللّغة، فاختار منها ما سلس قيادها له، وعرف من الشِّعءر صعبه فانتهجه غاية له ومَظءهراً. ومن عجب أنّ غازي القصيبيّ، وهو يُحءسن التّأريخ لشِعءره، أذاع في النّاس ديوانه الأوّل "أشعار من جزائر اللّؤلؤ" (1380ه/1960م)، بعد أن ودّع صِباه والصّدر الأوّل من شبابه، وأنبأتء تواريخ طائفة من قصائده عن طَرَف من ذلك الشِّعر الذي تَعءتزي إليه قصائد ديوانه "البراعم"! فَلِمَ أرجأ نشر هذه القصائد خمسين سنةً أو يزيد؟ ليس هناك من إجابة شافية لما أقءدَم عليه القصيبيّ. وليس عليه من ملامة إذء فعل ما فعل، فعليه أن يقول وعلى القرّاء والنّقّاد أن يُعءربوا! ولا بأس عليّ إنء أنا أَعءربءتُ عمّا ظهر لي، أو أدمءتُ النّظر في ما انطوى عليه ديوان "البراعم" من شِعءر. يلوح لي أنّ غازي القصيبيّ كلّما ارتفعتء سِنّه، وأوغل في التّجربة، ازداد بَرَمه، وبات ضجِراً من الزّمن، يائساً، بائساً، وإنّ من وقف على طرَف من كتبه المتأخِّرة، ولا سيّما "المواسم" (1427ه/2006م)، و"حديقة الغروب" (1428ه/2007م) يعرف فيه شيخاً هدّه الدّهر، ونهكتءه السّنون، بعد أن اجتمع عليه الكِبَر، والضّعف، والسّأم، وبعد أن أخذ منه الزّمان أجمل أيّامه، وأعزّ أقاربه، ومعارفه، وذويه، وعرف فيه قارئه قصيبيّاً آخر: حزيناً، وقد ظنّه فَرِحاً، وضعيفاً، وقد توهّمه قويّاً، وخجولاً، وقد خاله جريئاً، أمّا خشيته الموتَ، وأمّا ترقّبه إيّاه، فذلك شأن القصيبيّ وديدنه في معظم ما أنشأ من شِعءر، وعسى أن يكون ولعه برثاء أقربائه وأصدقائه إنّما يخفي وراءه نفساً جزوعاً من الموت، جَفِلة منه، يَظهر ذلك فيما أخرج للنّاس من دواوين، ويمكن أن نحُدّ ذلك بديوانه الشّهير "الحُمّى" (1402ه/1982م)، ويستعلن هذا الخوف الذي يصحّ فيه أن يُعَدّ مرضاً لا يُرجى البُرءء منه، فيما أصدر من دواوين بعد ديوانه ذلك، واستبان لقارئه أنّ القصيبيّ يطوي صدره على نفءس ممزَّقة، وحتّى ليصءدُق عليه أنّه فاق أقرانه من الشّعراء، شكوى من وطأة العُمءر، وهَلَعاً من شبح الموت، وعسى أن يكون فاق شوقيّاً في توقّيه الموت واستيحاشه له، وإن كان شوقيّ لا يكاد يُفءصح عن سِنّه. أمّا غاية ما بلغه غازي القصيبيّ من نبأ الموت فنجده في ديوانه "حديقة الغروب"، ويكفيك هذا العنوان عنه خبراً، وفيه تترامى نُذُر الموت في كلماته وجُمله، وكأنّه قد استيقن ذلك النّبأ الموحِش، فاستغاث من صحّته، كما استغاث منه أبو العلاء المعرِّيّ من وراء القرون أنءبَأَنا اللّبُّ بِلُقءيا الرّدَى فالءغَوءثُ مِنء صِحّةِ ذاكَ النَّبَأ غير أنّنا نمسكه في "حديقة الغروب" روحاً مستسلماً إزاء الموت، ومن ذلك أنّه، وقد اهتمّ لحساب سِني عُمءره، وحَمَلَ فوق ظهره كلّ أعباء الحياة، وأسلم نفسه إلى غربة الرّوح في عالم خلا من الإخوة والأصدقاء- عبّر في حُرءقة أليمة -لم تَخءلُ من استسلام المؤمن المطمئنّ إلى قضاء ربّه- عن ذلك القلب الذي وجد في باب الله الأمن والرِّضا والطّمأنينة، وكانت قصيدته "لكَ الحَمءد!" كاشِفة عن شّاعر شيءخ حكيم، وأحسب أنّ في اختياره لبحر الطّويل نزولاً على شَرءط الحكمة والتّجربة والشّيخوخة: إليكَ عظيمَ العَفءوِ أشكو مواجِعي بدمعٍ على مرءأى الخلائقِ لا يجءري تَرَحَّلَ إخواني فأصبحءتُ بَعءدَهُمء غريباً.. يتيمَ الرُّوحِ.. والقلبِ.. والفِكءرِ لكَ الحمءدُ! والأحبابُ في كُلِّ سامرٍ لكَ الحمءدُ! والأحبابُ في وَحءشةِ القَبءرِ وأَشءكُرُ إذء تُعطي بما أنتَ أهلُهُ وتأخُذُ ما تُعءطي.. فأرتاحُ للشُّكءرِ! أو كأنّه، كما ينبئ عن ذلك كتابه الصّغير "المواسم" شاهد على "الموت" و"الحياة" معاً. الموت حين لا يستيقظ إلا على الفناء، والحياة حين تستميت من أجل البقاء، ولكنّك، في كلتا حاليءك، تعطف على ذلك الشّيخ الءيَفَن، وقد عرفتَ، بعد طول مصاحبة لِشِعءره، كيف استقبل القصيبيّ الأربعين في ديوانه "الحُمّى"، فزِعاً، مروَّعاً، وكيف ألحّ في بكائها، وكيف نغّص عليه كَرّ الأيّام وتعاقب السّنين هناءه وسعادته وابتهاجه، فبكى الخمسين، واستُطير فؤاده حين هَدَفَ إلى السِّتّين، وأظلمتء عليه دنياه حين بلغ الخامسة والسِّتّين، فماذا تُراه يفعل وقد احتضنتءه السّبعون؟ لقد اصطلحتء عليه الكائنات والفواجع، وأحسبه أخذ يترقّب الموت في كلّ لحظة، وهاله، وهو الشّاعر الغزِل، أنء قرأ في عيون محبوباته تلهّيهنّ عنه، بعد أن علاه الشّيب وكَبَرَ في السِّنّ، ففزع إلى "المرآة" يستخبرها عن أمره، فأنبأتءه، وهي التي لا تعرف المواربة أو المصانعة، أنّ محبوباته، أو من ظنّ أنّهنّ محبوباته، أضحيءن ينادينه بتلك الكلمة البغيضة إليه: "يا عمّ"! وقد كان "اليافعَ الغَزِلَ" -كما قال ذات مرّة-، وعسى أن يكنّ قدء أيءقَنّ أنّه لم يبقَ منه بقيّة سوى نَظَر العيءنيءن أو شهوة القَلءبِ! -كما قال ذلك شاعر قديم- وحَرِيّ به أن يُهوِّن عليه من مصابه، فلطالما أَلِمَ زهير بن أبي سُلءمَى، قبله بخمسة عشر قرناً ألمه، وأحسّ بما أحسّ به: صَحَا القَلءبُ عَنء سَلءمَى وَأَقءصَرَ باطِلُهء وَعُرِّيَ أَفءراسُ الصِّبا وَرَوَاحِلُهء وَأَقءصَرءتُ عَمّا تَعءلَمِيءنَ وَسُدِّدَتء عليَّ سِوَى قَصءدِ السّبيلِ معادِلُهء وقالَ العَذَارَى: إنّما أنتَ عمُّنا وكانَ الشَّبَابُ كالخليطِ نُزَايِلُهء فأصءبَحءتُ ما يَعءرِفءنَ إلا خليقتي وَإِلاّ سَوَادَ الرّأءسِ والشَّيءبُ شامِلُهء وأنا، إذء أقرأ "البراعم"، لم يُعءيِني سبب ظهور هذا الدّيوان، وفي هذا الحين من الزّمان، ولي أن أَظهر على شيءء من التّاريخ، لأستيقن الخبر، وأزداد بياناً به. وللقارئ أن يتأمّل سنة نشءر هذا الدّيوان (1429ه)، وله، إن كان مولَعاً بالتّاريخ ولَعي به، أن يعرف خوف غازي القصيبيّ من هذا التّاريخ، لأنّه يكشف له عن حقيقة مُرّة تُذءعره، وهو أنّه طوى من العُمءر سبعين سنة هجريّة تامّة، وأنّه، وهو المولود عام 1359ه، ليس له من حياة إلا تلك السّنوات السّبعون التي أفناها، وليس له إلا أن يفزع إلى صِباه، وإلى فَتائه وشبابه، فأخرج من ركام أوراقه هذه "البراعم"، فعسى أن تُلءهيه عن شبح السّبعين. ولطالما حاول القصيبيّ مواربة السّنين، طمعاً في كسءب عام أو بعض عام، ينسيه هذه السّنوات التّامّة، ويجد في التّاريخ الميلاديّ بعض البلاغ، فيهدأ ساعةً أو بعض ساعة، ولا بأس عليه فهو المولود عام 1940م، وبينه وبين بلوغه سِنّ السّبعين عام 2010م وَهءم القوّة، ووَهءم الفَتَاء، ووَهءم الشّباب! وَلءيُهَوِّنء على نفسه فها هي ذي قصائد "البراعم" تَرءجع به القهقرى عقوداً خمسةً، وتعيد إليه صِباه وشبابه، وزهءوه وكبرياءه، وتَرءجع به إلى حيث كان في السّادسةَ عشرةَ (1375ه/1956م)، وإلى حيث كان في التّاسعةَ عشرةَ (1378ه/1959م)، وَلءيَنءسَ، وما أظنّه ناسياً، شَبَح السّبعين، وَلءيَعِشء مع ذلك التّراث الذي سقط إليه من صِباه- أمنَه وسلامتَه، ففي ذلك الشِّعءر، على ما فيه من لِين، بعض السّلوى، وفي ذلك العُمءر، على ما فيه من نزق، بعض العَزاء. وأيّاً يكُنء حظّ ديوان "البراعم" من الفنّ، فإنّه قريب حبيب إلى الشّاعر، وإلا لَمَا أقدم على إذاعته في النّاس، وحسءبه منه أنّه يعيده إلى سنوات التّكوين و"البَرءعمة"، حيث الشِّعءر في مبءتدئه، وحيث العُمءر في صَبءوته، وساغ أن يلتمّ القصيبيّ على ما مضى من عُمءره -وهل العُمءر إلا ما مضى؟- وتلخّصتء حياته في "الذِّكرى" يقف بأبوابها، ويرعاها خوفاً عليها من الذّواء والفناء، ولَمّا أَيِسَ القصيبيّ من رجوعه إلى صِباه، وقف، قبل حين من الدّهءر- باكياً شاكياً بين يدَيء حبيبته بيروت: سَتَعُودِيءنَ أنتِ بِنءتاً.. وَلكنء عَوءدَتي للصِّبا سَرَابُ أصيلِ وأنا حين أقرأ هذا الدّيوان وما يحُفّ به أجدني مُشءفقاً على غازي القصيبيّ، حزيناً كحزءنه، راضياً كرِضاه. أتأمّل تلك القصائد، وأقف عند تواريخها ملِيّاً، وأُقلِّب طرءفي بين القصيبيّ "الفتى" والقصيبيّ "الشّيخ"، وأستعيد في ذاكرتي كلّ قصائده التي احتمى بها من سطءوة العُمءر ورهبة الموت، وما أكثرَها! فكان "البراعم" البلءسم حيث لا بلءسم، والطّمأنينة حيث لا طمأنينة، فها هو ذا يسترِدّ ذلك التّاريخ البعيد، بغُلَوَائه، وعنفوانه، وعبثه، إنّه يستردّ صورته التي كانت، وحياته التي كانت، وينزوي بصورته، وبشِعءره، بعيداً عن أعين النّاس، حفِيّاً بذلك العُمءر الذي استرجعتءه الكتابة، غير أنّه و"البراعم" كالقابض على الرّيح، أمّا الحقيقة الكبرى الواقفة في باب هذا الشّاعر البائس، أنّه غادر الصِّبا، وفارقتءه صبءوته، وأنّ هذا الأثر ليس إلا مُسَكِّناً، ثمّ ما هي حتّى يعود إلى الشّيخ رُشءده وهُداه، وهل نحن إلا كما يقول العقّاد: "نتمنّى الشّباب على عِلاّته، ونتمنّى جهءله كما نتمنّى هُداه، إنء كان له هُدًى أو هِداية مع هواه! بل نحن نتمنّى جهءله قبل هُداه". وأُحِبّ أن لا أزيد القصيبيّ حزناً على حزنه، ويأساً على يأسه، إذا قلتُ: إنّني أتحسّس في هذه "البراعم" صوت البجعة القادم من الأعماق، حين تغرِّد تغريدة المودِّع المفارق، فتُصءدر أحلى أنغامها وأرقّها وهي تُشءفِي على الموت، ويلذّ لنا أن نصيخ أسماعنا إلى ذلك التّغريد العذءب، دون أن نرثي لحال تلك البجعة المسكينة، وهي تُشَيِّع نفسها إلى مثواها الأخير. أمّا الشّعراء، وأمّا الفلاسفة، وأمّا المفكِّرون فيلتمسون في الماضي ما يقيهم قسءوة أيّامهم الحاضرة، يألمون، ويبكون، ويتوسّلون بالماضي، ويفزعون إليه، ويكسب القرّاء والتّاريخ، من ألمهم وبكائهم، أدباً رائقاً، نقرؤه، حيناً، شِعءراً، ونقرؤه، حيناً آخر، سيرة ذاتيّة، وفي كلتا الحاليءن، قد نغفل عن البكاء، ونطوي صفءحاً عن الحُزءن، ولعلّنا لا نَشُقّ على أنفسنا أن نسأل عن سِرّ ذلك التّغريد العذءب الحنون الذي تُصءدره البجعة ساعة موتها!