هل كنا آخر من رأى العراق؟ اسأل جيلي - الجيل الذي ولد في الخمسينات ولم تمنحه الفرص مكاناً للعيش فيه - فقبل ذلك كان العراق شبه أسطورة، شيئاً غامضاً، مكاناً أقرب الى قرية أو محلة، بقية من تاريخ وكثيراً من القصص. مثل لغز قديم الأثر كان يبدو لنا الوطن، مشهداً منبثقاً من الطين والآجر والقصب والقبب المطلية بالذهب، مختلطاً بصدى طواعين وسنين جدب وجوع وأسماء ولاة قساة وشيوخ قبائل أسطورية. مشهد قاسي الملامح يزيده قسوة قيظ لا يرحم في الصيف. لكن في الحكايا التي سمعناها كان يبدو لنا عذب المذاق، محملاً بعطر قديم كالمسك الذي كنا نشمه أو الثمار التي كنا نسميها "عراكية"، لأن بذورها لم تكن محسنة، باهتة الطعم. العراق الذي عرفناه كنا نراه نامياً، متعجلاً، متقدماً نحو القرن، نحو العالم الحديث ومعجزاته. في كل يوم من أيامه كانت تظهر مفردة جديدة وقبلها نرى ابتكاراً في الشارع: متحف جديد، برج من حديد، اضاءات للمرور، مكتبات في الأحياء، جامعات جديدة، صالات للعرض وتماثيل في الساحات كنا نحفظ أسماء نحاتيها. هذا العراق عاشه وعرفه ذلك الجيل الذي عرفت الستينات طفولته" عراق يبحث بالقوة عن مدخل للقرن. كان الباب مفتوحاً حينذاك، وكنا نحلم. بغداد، للذي عرفها حينذاك، كانت العراق. مدينة تنمو من جميع الجهات، اختلط فيها الحديد بالاسمنت والالمنيوم وآجر البيوت القديمة وخشب شناشيلها. مدينة تحلم بإضافة جسر سابع الى جسورها الستة كي تتجاوز أسطورتها. فالجسر السابع كان لغز المدينة واشارة الى ملاحم وفتن. كنا نحلم به جسراً يربط المدينة بالعالم من دون ضياع للوقت. كنا بدأنا للتو نؤمن بالتاريخ ونضحك للأسطورة التي تقول ان جسر المدينة السابع سيكون فصل الدم الذي سيعلو الركاب! نحن، في البعيد الذي أمامنا كنا نرى شظايا المستقبل كهالة من نور كبيرة على صورة مدينة. البصرة كانت كذلك تحلم بالوصول الى بغداد لتعبر منها الى العالم. الموصل والناصرية وأربيل وكربلاء وتلعفر البعيدة كذلك، مدن وأشباه مدن كانت تحلم بالوصول الى الجسر السابع الذي سيقذفها في وسط العالم. كانت الأحلام والخيالات التي في أولها تكبر بصورة عراق يعج بالغابات. أحزمة خضراً حول المدن توقف زحف الصحراء، هدنة مع الماضي وأطلاله، حفل لاستضافة المستقبل، سلام في الجبال التي كانت معاقل للثوار الكرد وسلام آخر في الأهوار الفقيرة التي ستصير بمرور الوقت فينسيا الشرق، أحلام بمساجد مفتوحة للجميع كما لو كانت متاحف وأسواقاً للحريات الصغيرة التي ستختلط مع الطاقيات الصفر والأساور... كل هذه الأحلام لم تدم يوماً واحداً! والسلام لم يكن غير هدنات قصيرة، خاطفة. لكن الجميع كانوا يحلمون ويتحدثون عن صمت مطلق للمدافع وأنواع لا تحصى من الديموقراطيات: ديموقراطية الخبز والحرية، ديموقراطية الأدب والفن، ديموقراطية العاطلين من العمل والتفكير، ديموقراطية الفلسفة المباشرة في المقاهي، وثمة من كانوا يتجادلون بحدِّة وصفاقة سندفع ثمنها باهظاً عن ديموقراطية مركزية أو مركزية ديموقراطية... باختصار عن حكم مطلق باسم الشعب. في الفاصلة كان المستقبل يرسم. ففي حمى الجدال، وفي خلسة من الزمان كان الجسر السابع يشيد على طرف بغداد. جسر كان أول ضحاياه عامل سقط في كونكريت احدى دعائمه الغاطسة عميقاً في النهر، وظل هناك. ثم تدافع التاريخ الى الوراء وشقت الأسطورة طريقها بعنف السقطة وارتطام الجسد بالكونكريت الرخو. بصفعة واحدة استدار وجه التاريخ وبدأ البلاء الأسطوري. طاعون انطلق من المركز ليوقف في احتفال دموي كل أحلامنا. كأن نواعير الزمن توقفت هي الأخرى تحت ثقل العاصفة الهوجاء التي صارت تقتلع كل شيء، حتى الجذور. انتهت الهدنات. انتهى التاريخ المحتمل. لن تولد الأحلام إلا بعد دورة كاملة لناعور الزمن. الأسطورة شقت طريقها أخيراً. لكن العراق قبل ذلك لم يكن غير شبه أسطورة وكثير من القصص. ذلك قبل أن تأتي الأحزاب الشيوعية والبعثية والقومية والدينية. هل صدفة ان يحفظ العرب قصيدة "الريل وحمد" ويغني من نلتقيه: مرينة بيكم حمد وحنة بقطار الليل... وحدر السنابل قطا...*. نعم هذا هو العراق، مكان يمر فيه القطار صارخاً بالصوت المتكسر للحنين. كل شيء فيه مندرس. وكل شيء فيه نقيض لآخر. مكان كل منعطف لدجلة أو الفرات فيه يحمل اسماً وكل ساقية تخفي قصة لم تكتب بعد. مكان تمر الأقوام على ضفاف أنهاره فتنسى هدف رحلاتها وتتوقف هناك. هكذا جاء السومريون وتوقفوا عند النهر الذي سموه بحراً. ثم جاء الأكاديون، أبناء القمر، واستقروا عند الضفاف. جاء الآموريون فبنوا بابل عند النهر وبلبلوا الألسن بالأناشيد والأفكار بالأساطير. جاء الاسكندر وظل حتى مات عند النهر حالماً بتوحيد المشرق والمغرب. جاء الساسانيون وبنوا طيسفون عند النهر، وجاء العرب وبنوا الكوفة عند النهر والبصرة عند التقاء النهرين. جاء العباسيون فبنوا بغداد عند استدارة النهر فصارت المدينة المدورة، بغداد، الزوراء، مدينة السلام، مدينة حلم لم يتحقق. نعم هذا هو العراق، مكان كل من دخل اليه استقر ومات فيه وكل من خرج منه لم يعد اليه. مات سنحاريب الآشوري خلف آرارات، شلمناصر الكلداني في فلسطين، هارون الرشيد في طوس، عبدالمحسن الكاظمي في مصر، السياب في الكويت، الجواهري في دمشق... ولم يعد أحد منهم الى تربةالعراق. نعم هذا هو العراق، نهران ونخيل وشعراء درست قبورهم ورقم طينية تخفي كنوزاً. مكان يظل دائماً أقرب الى الأسطورة على رغم ان التاريخ يمر فيه بعنف البشرية الذي لم يروض. مكان يصهر الخوف الأول للإنسان في صورة دين، التساؤل الأول في صورة قصيدة، الترجمة الأولى في صورة أبجدية، العشق الأول في صورة قتل، السفر الأول في صورة منفى أبدي وحمى التاريخ في صورة أسطورة. مكان لا راحة فيه بعد زوال جنة عدن المتخيلة عند جباله. الانقلابات... والحلم لكننا، نحن الذين ولدنا أواسط القرن الماضي، عرفنا العراق - البلاد. العراق الهدنة مع أسطورته، الحالم بالسلام والديموقراطية. العراق المؤرخة أيامه بالانقلابات العسكرية التي يقودها عسكر تافهون يزيفون الرتب العسكرية والعملة المسكوكة. وكنا نعرف زيف الرتب والعملة فنواصل الحلم بعراق حقيقي. العراق المؤرخة أيامه بذكريات مذابح صغيرة ينظمها مجرمون مصابون بنوستالجيا القتل، وكنا نعرف تفاهة هذه النوستالجيا فنواصل الحلم. كان حلمنا حقيقياً، مشروعاً، واسعاً سعة شعاب الأرض، سعة العراق - الفكرة، كان حلماً سهلاً وممتنعاً علينا، شاءت الأقدار ان نواصله في وقت متأخر وفي أمكنة بعيدة في بلدان ما وراء النهر، كلما دقت طبول الحرب. حلماً نقارع به أسطورة الأقدار المكتوبة في كتاب "الملاحم والفتن" الذي يربط أقدارنا بجسر سابع. كنا آخر من رأى العراق في هدنة الزمان. بعدها علمنا ورأينا ونحن في البعيد، انه مضى الى الأبعد، الى الهاوية، في الطريق الذي لا عودة منه، الى العتمة، الى زواله من الصورة التي ظلت في حلمنا، ولم نفعل شيئاً للإمساك بها، نحن القلة الباقية من الذين ولدوا في الخمسينات. نحن الذين تعلمنا "ان ما هو مكتوب كان مخطوطاً منذ القدم وسيبقى الى الأبد من دون أن يتكرر. ذلك ان السلالات التي حكم عليها بمئة عام من العزلة لن تمنح على الأرض فرصة ثانية" **. أغنية من قصيدة لمظفر النواب باللهجة العراقية. العبارة الأخيرة من "مئة عام من العزلة" لماركيز.