التناقض الحاد بين الهجوم الشرس للكثير من نقاد السينما على فيلم "اللمبي"، والاقبال الكاسح للجمهور على الفيلم، يثير بقوة إشكالية العلاقة بين الأطراف الثلاثة: الفيلم والجمهور والنقاد. واذا كان الجمهور لا يخدع نفسه فهو الذي يدفع الثمن، فأسباب الخداع لدى النقاد كثيرة، وبعيداً من الأسباب الشخصية، نجد من أسباب الخداع جمود الارتباط بقواعد وأحكام جاهزة مسبقاً، ما يؤدي الى ضيق الرؤية وسوء الفهم. ولا يمكن ان نركن - بسهولة - الى اتهام النقاد بتدني ذوق الجمهور، فكم من الأفلام التي أدرك الجمهور بفطرته التلقائية قيمتها قبل أن يدركها النقاد، فأقبل على مشاهدتها بغض النظر عن اعتراض النقاد عليها أو إهمالهم لها. أضرب مثلاً على ذلك - على المستوى العالمي - أفلام هتشكوك التي أدرك الجمهور قيمتها قبل أن يدركها النقاد. وكم قوبلت أفلامنا الغنائية والكوميدية القديمة بهجوم النقاد في مراحل سابقة، والآن يتحسرون عليها. وفيلم "خللي بالك من زوزو" الذي حظي بإقبال الجمهور، ما زالت اصداء الهجوم عليه، وعلى أفلام حسن الإمام عامة، حاضرة في الذهن، واليوم يحاول النقاد تقديم ما يشبه الاعتذار عن آرائهم السابقة فيها، متوحدين مع ذوق الجمهور الذي سبق ودانوه. والسؤال الآن: هل هناك ما يحول بيننا وافتراض ان فيلم "اللمبي" يكرر الظاهرة نفسها - في شكل ما - ويضع النقاد في الحرج نفسه؟ شهادة لا بد من الاعتراف بها وإن اتهمني النقاد بما يتهمون به الجمهور، لقد أضحكني فيلم "اللمبي" كما أضحك الجمهور، ومن حق الجمهور أن يضحك حتى وإن خلا الفيلم من المعنى، لكنني وجدت الفيلم لا يخلو من المعنى كما ادعى النقاد وإن جاء المعنى جارحاً احياناً، وغاضباً في عمومه على الماضي والحاضر معاً. ومن حق الشباب أن ينظر الى الماضي في غضب على رغم قدسيته لدى البعض وأن ينظر الى الحاضر ايضاً في غضب على رغم خوف البعض من اهتزاز الصورة أو اهتزاز الكراسي. يبدأ الفيلم بشاب له مظهر شعبي حاول أن يتماسك في مشيته في الطريق العام ليلاً، يردد بصعوبة وبلكنة شعبية غليظة كلمتين من مطلع أنشودة وطنية مشهورة. الطريقة التي يمشي بها أو ينطق بها الكلمات توحي بأنه مسطول، لكنه ليس بمسطول، وإنما هذه هي حاله، كما يتبين لنا في ما بعد، فالحياة التي يعيشها كفيلة بأن تفعل به ما تفعله المخدرات. الكلمتان اللتان تغنى بهما من دون مقدرة على استكمال العبارة، تاركاً للمشاهد استكمالها، هما "وقف الخلق..." بداية مطلع قصيدة حافظ ابراهيم التي تحمل عنوان "مصر تتحدث عن نفسها" وتغنيها أم كلثوم، وفي مطلعها تتفاخر مصر بمجدها على الأمم: "وقف الخلق جميعاً ينظرون الي كيف ابني قواعد المجد وحدي" ولا تخفى الدلالة الجارحة بقسوة التي يفجرها التناقض الحاد بين تدني المظهر الخارجي لهذا الشاب وقصور قدرته العقلية من ناحية، وما يتغنى به عن الأمجاد الوطنية من ناحية أخرى وإن كان الاقتصار على كلمتين او كلمة، لا يفضح بوضوح فج عن هذه الدلالة. وعندما يعترض ضابط الشرطة بكامل "أناقته" هذا الشاب النقيض يسأله بعنف عن بطاقته الشخصية، نعلم منه أنه لا يملك بطاقة ودلالة افتقاده لبطاقة الهوية لا تعبر فقط عن ضياعه الواقعي في المجتمع وانما يمكن ان تمتد الى المستوى الرمزي، مشيراً الى افتقاد الذات بافتقاد الهوية، وعندما يسأله الضابط عن سبب عدم امتلاكه بطاقة هوية يرد عليه بإجابة بعيدة من منطق العلاقة العليّة بين السبب والنتجية فيرجع السبب الى عدم وجود جيب خلفي في سرواله، وهي اجابة تكشف عن عبثية رؤيته التي تؤكدها عبثية العالم الذي يسير من حوله. ولذلك هو لا يعترض على الضابط عندما يأمره بالابتعاد وعدم المرور في هذا الطريق، لكنه يتساءل ببراءة إن كان الشارع قد أُلغي، فكل شيء جائز من دون سبب حقيقي في الحياة العشوائية. بهذا المشهد المشحون بالدلالات يبدأ الفيلم مساره، ويواصل التقدم على منواله، بعد أن قدم لنا الشخصية الرئيسة وحدد ملامحها الظاهرة وطريقة تفكيرها والعلاقة بينها وبين السلطة الضابط والعلاقة بينها وبين الثقافة المتوارثة الاغنية. وكل ذلك يعرض بصورة ساخرة تثير الضحك، وتتحقق بمهارة وإحكام في الأداء وطريقة الاخراج حيث تبدو اثارة الضحك وكأنها مقصودة لذاتها، فهي تغلف الدلالات بغطاء كثيف حتى لا تعوق الضحك، من دون ان تفقد الدلالات وجودها لمن يريد أن يستخلصها. أغنية للسخرية واذا كان الفيلم بدأ باستخدام أغنية لأم كلثوم فهو ينتهي بأغنية أخرى لها في مشهد الفرح، حيث يغني العريس لنفسه ويشاركه المدعوون أغنية "حب إيه" واللمبي يغني هذه الاغنية بقصد السخرية من غريمه الذي كان ينافسه في طلب الزواج من نوسة معتمداً على رشوة أبيها النهم الى المال، وتأتي الاغنية تتويجاً لانتصار أصحاب الحب الحقيقي على أصحاب المتاجرة بالحب، وتزداد القيمة التعبيرية الساخرة للأغنية "الموجودة في الاصل" بتقديمها بطريقة مختلفة في اللحن والاداء لتتفق مع البيئة الاجتماعية - الدرامية المعروضة، وتمثل الثقافة الغنائية السائدة اليوم. وفي كلتا الحالين، في أول الفيلم وآخره، يلقي العرض - الاداء الساخر للاغنيتين بظلاله على كلتا الثقافتين السابقة والحالية معاً، ما يثير الضحك من ناحية كما يثير البحث عن مخرج لثقافة جديدة مغايرة من ناحية أخرى. وبين اغنيتي البداية والنهاية تناثرت بعض مقاطع من أغان قديمة وأخرى أعدت للفيلم، حافظت جميعاً على روح السخرية التي قصدها الفيلم، ويصل استخدام الاغنية الى ذروته الفنية في الاغنية الفكاهية التي يؤديها اللمبي محمد سعد وأمه عبلة كامل مع المجموعة بالدراجات في شرم الشيخ، تعبيراً عن الفرحة بإقبال السياح على تأجير الدرجات منهما، وتكشف هذه الاغنية عن حرفية عالية للمخرج وائل إحسان في تقطيع اللقطات واختيار الزوايا وأماكن التصوير وتوجيه الممثل، يعاونه في ذلك بالطبع المونتير المخضرم عادل منير والمصور محسن نصر. كما تكشف مشاهد هذه الاغنية عن مهارة محمد سعد في التعبير الكوميدي مستعيناً بمرونة جسدية ملحوظة، ما دعم تأثير مشاهد هذه الاغنية، واذا كانت كل الاغاني الكوميدية في السينما المصرية - تقريباً - تعتمد في تأثيرها في الكلمات وأداء الممثل أساساً، فالقيم السينمائية الحيوية المتعددة في هذه الاغنية الصورة، الايقاع، الحركة... الخ ربما تجعل منها أول اغنية كوميدية سينمائية بحق في السينما المصرية. ولا يعيب الفيلم أن أحداثه لا تأخذ خطاً درامياً صاعداً كما اراد له النقاد. فالفيلم يأخذ شكلاً آخر من أشكال البناء الفني، أقرب الى اللوحة، تتراكم فيه الأحداث كما تتجاور الألوان والخطوط حتى تكتمل الصورة أو تكاد. والصورة في الفيلم هي بمثابة "بورتريه" لشاب مصري معاصر نتبين ملامحه وملامح عصره من خلال تراكم أحداث الحياة اليومية. ومن خلال هذه الأحداث يتبين ما يعانيه الشاب من إحباطات نتيجة فشله المتكرر الذي يرجع الى قصور ذاتي الغفلة والجهل وافتقاد المهارة... الخ بمقدار ما يرجع لعوامل خارجية هو غير قادر على استيعابها مطاردات الشرطة، وحال الشاب على هذا النحو تمثل - بنسب مختلفة - حال قطاع كبير من شباب اليوم. واذا ربطنا بين اغنية البداية التي اشرنا اليها "مصر تتحدث عن نفسها" وعبارة الأم وهي تحيي ابنها في الفرح في النهاية بقولها "اللمبي هو مصر القديمة والشرابية... الخ" يصبح من الممكن توسيع المعنى الرمزي للفيلم ليكون معبراً عن حال مصر اليوم، وهي قراءة محتملة للفيلم وإن كانت لا تخلو من المبالغة التي تفرضها الكوميديا كما تفرضها الصورة الكاريكاتيرية اللاذعة. مصر واللمبي وما يؤكد هذا التقارب المحتمل بين مصر واللمبي، تورط اللمبي في الحصول على قرض ضخم "عشرين ألف جنيه" لتنكيس بيته، المهدد بالانهيار بينما لا تسمح إمكاناته الظاهرة بتسديد هذا المبلغ ما يوقعه تحت ضغط التهديد المتكرر من صاحب المبلغ بتقديمه للمحاكمة. ومن خلال هذا المفهوم تكتسب مشاهد الفيلم دلالات تتجاوز الحدود الحرفية الضيقة للأحداث. نضرب مثلاً على ذلك مشاهد المشروع السياحي والحلم بالحصول على العملة الصعبة من الدولارات بتأجير الدراجات للسياح في شرم الشيخ ومشروع احياء عربة بيع الكبدة التي ورثها عن أبيه. ويلحق الفشل بالمشروعين بسبب الغفلة عن ادارك الواقع والتورط في اخطاء تودي بالمشروع وتقضي على ما يتعلق به من أحلام وتصبح الشخصية وأفعالها موضعاً للسخرية وإثارة للضحك. ومن المشاهد الساخرة من الانفصام الثقافي الذي تعاني منه حياتنا الثقافية، المشهد الذي يتقبل فيه اللمبي دعوة "باخ" حسن حسني للاستماع الى موسيقى كلاسيكية يعزفها له على الكمان في بيته. وما أن يبدأ "باخ" في العزف حتى يدرك اللمبي انه اخطأ في قبول الدعوة، فتبدو عليه علامات الامتعاض، لكن "باخ" ينهمك في العزف بنشوة، فتزداد تعاسة اللمبي الذي يجلس الى جانبه، ويحاول إيقافه، ويحتد الصراع بين اللمبي وقوس الكمان الذي ينغرس في اجزاء مختلفة من وجه اللمبي وصدره خلال حركته البندولية، وفي مرة ينغرس رأس القوس في فمه فيعض عليه بأسنانه أملاً في ايقافه دون جدوى، ويلعب المونتاج في هذا المشهد دوراً أساسياً الى جانب التمثيل في الحصول على التأثير الكوميدي المطلوب. ويقترب المشهد كثيراً من الروح "الشبلينية" فالعلاقة الصراع بين اللمبي والكمان في هذ المشهد، تذكرنا بالعلاقة المماثلة بين شابلن وآلة تناول الطعام عندما يصيبها الجنون في فيلمه العبقري "العصر الحديث". وفي مشهد العزاء بوالد "باخ"، نفاجأ بخلو الصوان الكبير من أي شخص للعزاء، وعندما يقبل أحد الرجال بطريق الخطأ، يتمسك "باخ"، ويعاونه في ذلك اللمبي الذي يرفع مطواة في وجه الرجل ليجبره على البقاء بالقوة. في المشهد سخرية واضحة على أكثر من مستوى نفسي واجتماعي ويعبر بسخرية ايضاً عن طريقة اللمبي الخاصة في التعبير عن تضامنه مع صاحبه، ويعتبر الادعاء الكاذب وسوء التعبير الذي اتسمت به تصرفات الشخصيات الى جانب المبالغة في ردود الفعل، من العوامل الأساسية في تفجير السخرية وإثارة الضحك في هذا المشهد كما في غيره من مشاهد. صحيح أن الفيلم مملوء بالقفشات اللفظية، ولكن هذه القفشات - التي تضاعف من جرعة الضحك - تأتي ضمن مواقف درامية نفذت على قدر كبير من الاتقان السينمائي في حدود ما تعارفنا عليه في السينما المصرية. نذكر من هذه المواقف إضافة الى ما سبق، المطاردة الكوميدية ل"اللمبي" وأمه في شرم الشيخ والمشاهد الغرامية بين اللمبي وحبيبته. وكلها مشاهد مبتكرة تفرضها طبيعة الشخصية والمواقف المختلفة عما سبق ومنها امتحان محو الأمية الذي يدخله اللمبي ومشهد اللقاء التلفزيوني مع اللمبي أمام مشروعه الجديد "عربة الكبدة". وعلى رغم أن فكرة السخرية من اللقاءات التلفزيونية ليست جديدة، إلا أن الأداء والتنفيذ عامة أضفىا على المشهد طابعه الخاص، كما جاء المشهد بنائياً في النسيج الفني الساخر للفيلم إذ يكشف عن تناقض موقف الدولة، فهي إذا كانت تشجع مشروع اللمبي في هذا المشهد تطارده وتقضي عليه في مشهد آخر، واللمبي في كلتا الحالين يُستغَل لأسباب لا يدركها، ولكن قد يدركها المشاهد. فالحكومة في الحال الاولى تدعي تشجيع الشباب وفي الحال الثانية تدعي الحفاظ على الأمن والنظام. قد تبدو الصورة التي يقدمها الفيلم عن المجتمع قاتمة. وربما كان ذلك وراء فزع النقاد والرقابة، ولكن لا يمكن النظر الى الفيلم باعتباره ترويجاً لقيم متدنية، كما يتهمه النقاد، لأن الأسلوب الساخر الذي يعرضها به يحدد موقفه منها بالرفض، كما أن فكرة التماهي بين شخصية بطل الفيلم والشباب التي يخشاها النقاد، لا محل لها على الاطلاق. * ناقد ومخرج سينمائي.