مع اقتراب الذكرى الاولى لأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر تظهر الأجندة الدولية تجاه منطقتنا العربية واضحة، وهي أجندة يجري تطبيقها في اكثر من مكان، تتماثل في جوهرها وتختلف في بعض التفاصيل. يحاول البعض ان يفترض ان الذي يحدث في فلسطينوالعراق والسودان ملفات مختلفة لا علاقة لبعضها بالبعض الآخر وان ما يحدث هنا لا علاقة له بما يحدث في المنطقة الأخرى، وهو افتراض غير صحيح، فما يحدث في فلسطين هو نفس الاجندة التي تحدث في العراق او في السودان، وان اختلف بعض التفاصيل الجانبية في هذه الاجندة. فالعالم اليوم يعيد تنظيم نفسه من جديد وفق برنامج واضح المعالم، ومن الممكن لمن لا يريد ان يرى هذا البرنامج ويعترف بتفاصيله ان يدفن رأسه في التراب، ويدعي انه لا يرى شيئاً، أما من يريد ان يحكم العقل، فالشواهد قائمة، والموضوع برمته مكتوب على الجدران. ففي فلسطين هناك لجان اوروبية عديدة تشاركها عناصر اميركية عاكفة اليوم على العمل بهذه الاجندة، بالاتفاق مع الجانب الرسمي الاميركي، وبقبول واضح من الجانب الفلسطيني. وتعمل هذه اللجان من مقر لها في مدينة القدس، لاجل رسم صورة الدولة الفلسطينية القادمة، وهي دولة لا تتزعمها القيادات الفلسطينية الحالية، فثمة مطلب رئيسي بتغييرها او التقليل ما امكن من سلطتها على الاقل. والمطلب الآخر هو ان تعمل الحكومة الفلسطينية القادمة، التي يرأسها رئيس وزراء منتخب، بشفافية كاملة في ممارسة سلطتها، بجانب تأكيد حكم القانون الحديث والمتحضر، كما ان سلطة القضاء لا بد ان تكون مستقلة تماماً عن اية تأثيرات، تصاحب ذلك ميكانيكية واضحة وسلطة واسعة لمؤسسات رقابية للمحاسبة العامة في شأن ما يدخل الى الخزينة او يصرف منها من اموال. باختصار، ان كل ما تتطلبه الدولة الحديثة من آليات لجعلها دولة تتماثل مع الدولة الحديثة الاخرى، يجري الاعداد له بسرعة، وبشكل منظم. وحتى هيكل السلطة القادمة له رسم واضح وعلاقاته محددة سلفا بشكل يتجاوز ما كان يتم في الخفاء وبين الدهاليز، ويناقض الممارسات السابقة، ليصبح عمل الدولة في العلن. وبالمثل، المطلوب من العراق تغيير القيادة وتأسيس حكم القانون الحديث وفصل السلطات واستقلالها عن بعضها وعلى رأسها القضاء، وتشكيل هيكل الدولة العراقية المبتغاة وهي دولة لامركزية او دولة كونفيديرالية، تتعايش فيها تحت سقف واحد القوى الاجتماعية والعرقية والمذهبية التي يتشكل منها الشعب العراقي، وذلك في اطار دستور حديث يؤكد فيه حكم القانون، وتحترم حقوق الانسان. ولو تابعنا الشروط التي تظهر من ثنايا المفاوضات، الدائرة برعاية اميركية، بين الاطراف السودانية لوقف الحرب الاهلية في جنوب السودان، التي استنزفت هذا البلد لاكثر من ثلاثة عقود، لوجدنا ان بعض عناصر الاجندة التي ذكرت سابقا تطل علينا من التسريبات حول الحوار الجنوبي - الشمالي والاتفاق المزمع عقده، فالمطلوب هو حكم القانون وسن دستور حديث والنظر في المستقبل نحو تحول السودان الى الكونفيديرالية، والقضاء على الفساد وقبول التعددية العرقية والاثنية والدينية واحترام حقوق الانسان. الراعي لكل هذه الملفات والمتابع لها بشكل حثيث هو الولاياتالمتحدة، وبمساعدة كبيرة من الاعلام العالمي الذي حرص على كشف المستور بين ظهرانينا، ولفت النظر الى الممارسات الخاطئة من اجل الدفع باتجاه تكوين رأي عام في بلادها لمساندة خطوات تطبيق هذه الاجندة التي يراد لها ان تتم في منطقة الشرق الاوسط، ولو استخدمت لذلك طرق ووسائل غير تقليدية. ان عدم فهم هذه الاجندة يزيد من عناصر الاضطراب في منطقتنا العربية، ويؤهلها اكثر للدخول في المجهول، لذا فإن الدولة العربية الحديثة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ومرحلة تصفية الاستعمار، تعاد صياغة اسسها اليوم من جديد، ليس بقرار محلي ولا حتى بمشاركة محلية، ولكن بقرار دولي. فالمشاركة المحلية، ان وجدت، فهي من قبيل الاعتراف بالواقع و"مجبر اخاك لا بطل". قلة من الناس تعترف بأن القرار الدولي في منطقة الشرق الاوسط كان ولا يزال هو القرار الفاعل، فقط في مرحلة قصيرة جداً من تاريخنا المعاصر كان القرار الاقليمي قراراً عربياً صرفاً الى حد ما. أما في معظم الاحوال فإن تاريخنا الحديث يؤكد ان نصيب القرار الدولي في تشكيل احداث منطقتنا العربية هو السائد، بل انه تفرد - ربما - في بعض الاوقات باتخاذ اهم القرارات التي شكلت في ما بعد حجر الزاوية في تاريخنا الحديث. والشواهد على ذلك كثيرة ويجب ألا تعاد من جديد للقارئ الفطن. الا ان المشاركة الدولية اليوم او حتى الانفراد بالقرار في تشكيل الدولة العربية الجديدة واضح. فلقد تزايدت تأثيراته في مرحلة التسعينات من القرن الماضي، وتسارعت وتيرته منذ الحادي عشر من أيلول الماضي. الدولة العربية الجديدة المبتغاة، تتصف بعدد من الصفات، منها فصل السلطات، وتأكيد حقوق الانسان، والحد من المظاهر الديكتاتورية وقبول التعددية والسماح للمنظمات الاهلية بالعمل وتنظيم انتخابات حرة، واعتماد اقتصاد حر غير مقيد تقل فيه فرص الفساد، هذا الى جانب عدد من الشروط الفرعية التي تكتمل بها اركان الدولة الحديثة مثل فصل التراث عن السياسة، وتشكيل الاحزاب السياسية الحديثة والحرب التي لا هوادة فيها على كل من الفساد والارهاب. من يتبين هذه الاجندة من العرب ويعرف شروطها، يحاول ان يتقدم خطوات نحوها باعتماد اصلاحات في محيط بلاده قد تخرجه عن دائرة الاتهام المباشر، ومن يتجاهل هذه الشروط فسوف يقع في دائرة الاتهام المباشر من الغرب وآلته الاعلامية الضخمة. لذا فإن وصفة الاخطار معروفة، كما هي وصفه العلاج، والقول ان ما يجري حولنا هو عبارة عن ملفات مختلفة ومتباعدة عن بعضها بعضاً هو في سبيل طمأنة النفس والنظر الى الامور بمنظار احادي، وربما دفن الرأس في الرمال. قد يكون تنفيذ هذه الاجندة مرحلياً، وقد يأخذ وقتاً أطول في بلد عن بلد آخر، وقد تنفذ الاجندة في مكان قبل مكان آخر، الا ان مفردات الاجندة هذه مطلوب تحقيقها. البحث الآن يجري عن قوى اجتماعية واقتصادية عربية لها مصلحة في تنفيذ هذه الاجندة لتصبح شريكة في المستقبل، وهي ليست شرائح قليلة في بلادنا، بعد خمسين عاماً من التخبط بين الشعارات والضجر منها. * كاتب كويتي.