أول تحقيق عسكري نُشر في الولاياتالمتحدة عن خطة غزو العراق، كان من نصيب صحيفة "نيويورك تايمز". ويؤكد رئيس التحرير ان الصحيفة لم تكن تبحث عن سبق صحافي في ذلك الوقت، وانما حصلت على المعلومات كنتيجة لخلاف العسكريين مع إدارة جورج بوش حول أفضل الخطط لإسقاط النظام العراقي. وبسبب هذا الخلاف تسربت المعلومات الى محرر مختص في شؤون البنتاغون عبر ضابط كبير التقاه في مقهى "نوردستروم". وحصل المحرر على خطة متكاملة مع تفاصيل دقيقة تتعلق بمناطق الانطلاق وخرائط الجبهة وعدد الجنود. ونشرت الصحيفة أهم التفاصيل في عدد صدر صباح الجمعة 5 تموز/ يوليو، الأمر الذي أغاظ الرئيس جورج بوش وشجعه على فتح تحقيق لمعرفة مصادر المعلومات. وتبين لاحقاً ان قائد القيادة المركزية الأميركية تومي فرانكس بالتعاون مع عدد كبير من الجنرالات، اتفقوا على احراج نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد بسبب تدخلهما المباشر في رسم الخطة العسكرية. والثابت ان القيادة المركزية أرادت من وراء هذا العمل خلق تيار سياسي بين الشعب والكونغرس يضغط باتجاه تعديل الخطة أو تبديلها. وفسرت صحف أخرى دوافع نشر الخطة بمنطق مكتب التضليل الاعلامي الذي يشرف عليه رامسفيلد، لافتة الى ان نشرها يربك العراق على اعتبار ان الخطة الحقيقية ليست قيد التداول. لكن هذا الاجتهاد لم يجد القبول بدليل ان البيت الأبيض طلب عقد اجتماع طارئ في العاشر من تموز لمراجعة هذا الموضوع باشراف "مجلس سياسة الدفاع"، وهو مجلس مؤثر في القرارات العسكرية يرأسه ريتشارد بيرل بمعاونة هنري كيسنجر ونيوت غينغريتش. السفارات العربية في واشنطن تعتبر ريتشارد بيرل في موازاة نائب وزير الدفاع بول ولفويتز لجهة العداء للدول العربية، خصوصاً العراق ومصر والسعودية، وهو الذي جمع تواقيع ثلاثين شخصية اميركية - سياسية واقتصادية - وأقنعها بضرورة ارسال كتاب مفتوح الى الرئيس بوش تحرضه فيه على ضرب العراق. ونشرت الصحف نص الكتاب في 20 أيلول سبتمبر 2001 أي بعد مرور تسعة أيام فقط على حادث مركز التجارة العالمي. وجاء في الكتاب ما خلاصته: "كل سياسة تأخذ في الاعتبار أهمية محاربة الارهاب، يجب أن تبدأ بإزالة حكم صدام حسين في العراق. وكل جهد لا يلتزم هذا الشرط سيمهد للاستسلام أمام الارهاب العالمي. لهذه الأسباب وسواها نطالب الولاياتالمتحدة بتوفير الدعم العسكري والمادي للمعارضة العراقية، اضافة الى تأمين منطقة انطلاق داخل العراق يمكن استخدامها في الحرب المقبلة". ومع ان اسم ريتشارد بيرل لا يظهر في الصحف كمحرض رئيسي مثل بول وولفويتز أو كوندوليزا رايس، إلا أنه بالتأكيد أخطر "صقور" أميركا وأكثرهم براعة في جمع عناصر الحزبين الجمهوري والديموقراطي على هدف إضعاف الدول العربية وتمزيق شعوبها. ولازمته صفة "الصقر" منذ أصدر كتابه الأول بعنوان "الخط المتشدد". ويروي في الكتاب قصة موظف كبير في البنتاغون صرف معظم أوقاته في محاربة موظفي وزارة الخارجية الذين فاوضوا السوفيات أثناء الحرب الباردة، من أجل عقد معاهدة لخفض عدد الرؤوس النووية. وكان واضحاً من تصوير شخصية بطل الكتاب أنه هو الذي قاد حملة التشدد ضد الاتحاد السوفياتي في مواجهة حمائم الخارجية. وبعد انهيار الامبراطورية السوفياتية قرر بيرل اتخاذ الخط المتصلب ذاته ضد العراق والسعودية. وساعدته الادارات الاميركية المتعاقبة على بناء شبكة من الخبراء وأصحاب الاختصاص، ظهرت تأثيراتهم واضحة في وسائل الاعلام ودور النشر ولجان الكونغرس والصحف البريطانية دايلي تلغراف والاسرائيلية جيروزاليم بوست. وبرز بينهم صديق بيرل وشريكه السياسي ديفيد ورمسر، مؤلف كتاب "حليف الطغاة... أو فشل اميركا في اسقاط صدام حسين". وبما ان بيرل يؤمن بالتوجهات ذاتها، تولى هو تدبيج مقدمة الكتاب. وتضم الشبكة الخطيرة أيضاً زوجة ورمسر "ميراف"، مساعدة الكولونيل الاسرائيلي ييغال كارمون رئيس الاستخبارات العسكرية سابقاً وشريكته في تأسيس مركز الدراسات الاعلامية الخاصة بالشرق الأوسط. وهو مركز يعنى بترجمة ونشر كل المقالات والأخبار المسيئة الى سمعة الدول العربية وشعوبها. وبسبب التبرعات والمساعدات السخية التي جمعها بيرل في السنوات الثلاث الأخيرة، استطاع المركز ان يجنّد عشرات الخبراء وطلاب الجامعات في سبيل محاربة العرب داخل الولاياتالمتحدة وخارجها. وبين النشاطات المؤثرة التي تقوم بها هذه الشبكة تزويد المصارف الكبرى والجامعات أسماء الذين تعتقد أنهم يشكلون خطراً أو عبئاً على أميركا. وكان من نتيجة ذلك حرمان آلاف الطلاب العرب من مواصلة دراساتهم، وإنهاء خدمات 1700 موظف عربي غالبيتهم لبنانيون وفلسطينيون كانوا يعملون في مصارف اميركية وأوروبية ويابانية والمانية. والمؤسف أن نصف رساميل هذه المصارف ومؤسسات الاستثمار يملكه مساهمون من الشرق الأوسط. تدعي مؤسسة "منتدى الشرق الأوسط" في كتاب نشره مارتن كرامر، ان بيانات الجامعات في العواصم العربية حول مؤهلات الطلاب المتقدمين لدخول الجامعات في الولاياتالمتحدة ليست صحيحة أو صادقة. وبناء على هذا التحذير وضعت ادارات الجامعات موانع علمية وصعوبات شتى لعرقلة التحاق الطلاب العرب. وجدير بالذكر ان مؤلف هذا الكتاب، كرامر، هو عضو في "معهد واشنطن" و"منتدى الشرق الأوسط" ومدير سابق لمركز موشي دايان في جامعة تل ابيب. وذكر أخيراً ان الآنسة لوري ميلروا انضمت الى هذه الشبكة تقديراً لأفكارها الرائدة التي نشرتها في كتابها "حرب صدام حسين غير المنتهية ضد أميركا". وتدعي ميلروا ان العراق كان يقف وراء العملية الأولى لتفجير مركز التجارة العالمي عام 1993. واستناداً الى هذا المنطق يكون العراق أيضاً المحرض على عملية 11 أيلول. واللافت أن واحدة من المؤسسات التي يشرف عليها ريتشارد بيرل أعلنت عن حساباتها المجموعة من التبرعات والهبات والمعفية من الضرائب 36 مليون دولار. صحيفة "نيويورك تايمز" حملت على أفكار "مجلس سياسة الدفاع" لاعتبارات أهمها ان الولاياتالمتحدة لا تملك الأدلة الدامغة لمعاقبة العراق، وأن خطاب توني بلير لم يحمل القرائن المقنعة. لكن ريتشارد بيرل ومساعديه الكثر في عشر مؤسسات واظبوا على دعم تشيني ورامسفيلد ضد قيادة الأركان الداعية الى التأني والتروي قبل الغرق في مستنقع حرب العراق، في حين يطالب فريق "الصقور" بتسديد ضربة قوية الى نظام صدام حسين تمنعه من الاستعداد العسكري، وتأليب رأي عام دولي يعمل لمصلحة بقائه في الحكم. ويزيد تشيني على هذه المبررات سبباً اضافياً هو أن الانتظار الطويل سيفقد أميركا قوة الاندفاع التي ربحتها من حرب افغانستان، ويضعف قوة التعاطف الشعبي التي وفرتها لها مساندة الشعوب. وهو يرى ان تأجيل عملية الهجوم سيؤخر تشكيل كتلة دولية متراصة، خصوصاً أن روسيا وفرنسا والصين والمانيا مترددة في موضوع الحرب لأنها تفضل إبقاء سياسة الاحتواء. ويؤيد رامسفيلد صديقه تشيني في قرار استعجال الضربة الوقائية، معتبراً ان حرب افغانستان كانت النموذج المثالي الذي يجب تقليده في العراق. ويعارضه في هذا الطرح قائد القيادة المركزية تومي فرانكس لاعتبارات أهمها: أولاً- كان التوازن العسكري في افغانستان متساوياً تقريباً بين قوات "طالبان" وقوات المعارضة، الأمر الذي رجح كفة المعارضة بعد تدخل الطيران الاميركي. ثانياً- نجحت قوات "تحالف الشمال" في التصدي ل"طالبان" سبع سنوات، في حين فشلت الأحزاب الكردية في العراق خلال أحداث 1991 و1996. صحيح ان "طالبان" بسطت نفوذها على عدد كبير من مدن افغانستان، لكنها فشلت في السيطرة على مواقع "تحالف الشمال". ثالثاً- اذا كانت المعارضة العراقية اضعف من المعارضة الأفغانية في عهد "طالبان"، فإن النظام العراقي أقوى من نظام "طالبان"، إذ يملك جيشاً من 400 ألف جندي، ربعهم في الحرس الجمهوري. وزير الخارجية كولن باول يؤيد موقف العسكر لاقتناعه بأن تكرار عملية افغانستان في العراق لن يكون ناجحاً، لأن الأكراد سيفشلون في تقليد دور قوات "تحالف الشمال". والسبب ان الخلاف بين جلال طالباني الاتحاد الوطني الكردستاني ومسعود بارزاني الحزب الديموقراطي الكردستاني سيعطي الفرصة المواتية لاقتحام القوات العراقية المنطقة الكردية ولو أدى ذلك الى سقوط آلاف الضحايا. وفي تصوره ان صدام متهيئ لهذه المغامرة كي يمنع تلك المنطقة من تشكيل قاعدة انطلاق لضربه وتطويقه. ومن جملة الاعتراضات التي قدمها فرانكس على خطة رامسفيلد - تشيني تأمين قوة اجتياح تضم حوالى 250 ألف جندي، أي ما يساوي نصف العدد الذي استخدمه باول لإخراج العراق من الكويت. وبحسب تقديره يبقى نصف مليون جندي عدداً متواضعاً لإسقاط نظام صدام. لكن الإدارة المدنية لم تؤيده في حساباته، لأن التطورات التقنية التي شهدتها الترسانة الاميركية منذ العام 1991، تجاوزت العقيدة العسكرية القديمة، أي العقيدة التي تقول ان اعداد القوة الساحقة شرط لأي نصر عسكري. وهي ترفض فكرة التحالف الدولي الذي انشئ عام 1990، لأن الولاياتالمتحدة قادرة على تنفيذ الخطة بمفردها، وان نظام صدام بقي مستمراً بفضل مساندتها له كقوة مضادة لايران. يتفق المحللون الأوروبيون على القول ان حرب افغانستان لم تكن اكثر من مبرر للانطلاق نحو نشر هيمنة اميركية - اسرائيلية على الدول العربية "المارقة". وهم يتوقعون ان يكون العراق منصة انطلاق لمهاجمة دول اخرى لم تقبل شروط السلام الاسرائيلي المذل. ويؤيدهم في هذا التصور بعض المعلقين المتنورين في الولاياتالمتحدة، لأن المهمة الأميركية في افغانستان تبدو غير مكتملة، بدليل ان الرئيس حميد كارزاي لا يسيطر الا على جزء صغير من البلاد يقع في دائرة الحراسة الخاصة. كما ان "الارهابي الرقم 1" اسامة بن لادن و"الارهابي الرقم 2" الملا محمد عمر ما زالا يشرفان على تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" من داخل دولة مجاورة. وأدى فقدان السلطة في افغانستان الى ازدهار زراعة الحشيشة مما يضمن موسماً حسناً يقدر بثلاثة آلاف طن ستصدر عبر الطرقات السالكة الى روسيا وأوروبا والولاياتالمتحدة. وهذا يعني ان الهدف الاميركي لم يكن افغانستان بل العراق وما يوفره من مكاسب داخلية وخارجية! * كاتب وصحافي لبناني.