إذا كانت واشنطن قد ألِفتْ الصراعات العنيفة بين كبار المسؤولين في الحكومة، إلا انها قلما شهدت معركة شرسة كالتي تدور رحاها الآن على أعلى مستويات ادارة بوش. وستكون نتيجة هذه المعركة بمنتهى الأهمية بالنسبة الى العالم اجمع. يقف في الطرف الأول وحيداً وزير الخارجية كولن باول الذي يتمتع برصيد شعبي كبير في البلاد، يقابله في الطرف الآخر وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائب الرئيس ديك تشيني بدعم قوي من جانب مجموعة من المحافظين الجدد ومن صقور الصهاينة. وقد برز أربعة من هؤلاء على الساحة الدولية خلال الشهور الأخيرة، وهم: نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز، ومساعد الوزير للسياسة الدفاعية دوغلاس فيث، ورئيس مجلس السياسة الدفاعية ريتشارد بيرل، وجون حنّا رئيس مكتب تشيني. هؤلاء هم الذين يتولون المطالبة الصاخبة بالحرب ضد العراق. غير ان مخططهم فشل موقتاً بفضل الجهود الديبلوماسية الدؤوبة والماهرة التي قام بها كولن باول في الأممالمتحدة وفي البيت الأبيض. ويبدو ان باول أقنع الرئيس بوش بأن على الولاياتالمتحدة ان تسعى الى الحصول على توافق دولي على مبادراتها وبالتالي على الشرعية الدولية والمشروعية، مسبباً بذلك احباطاً عميقاً لدى الصقور، فلقد حظي بنفوذ كبير على الرئيس في الوقت الذي كان بوش يستمد الدعم الكبير من نتائج الانتخابات النصفية. ولعل الكراهية وحدها لا تكفي لوصف مشاعر الصقور تجاه وزير الخارجية باول، ولا بد أنهم سيحاولون تحطيمه اذا ما تمكنوا من ذلك. حشد عسكري خطر هنالك خطتان متوازيتان قيد التنفيذ... الأولى حربية والثانية ديبلوماسية. فمن ناحية حشد عسكري ضخم ضد العراق يتم اعداده بتصميم ويشتمل على فرق وبوارج وحاملات طائرات واسلحة ثقيلة تتدفق على الخليج والبحر الاحمر. وسيبلغ عدد الجنود مئة ألف اميركي على مسرح العمليات في الفترة الممتدة حتى آخر السنة، مع أعداد اضافية من القوات تنضم اليها لاحقاً. وتفيد التسريبات الواردة من واشنطن احتمال دعوة 250 ألفاً من جنود الاحتياط ليكونوا جاهزين مطلع السنة المقبلة. هذا وقد انتقل الجنرال تومي فرانكس، القائد المركزي للقوات الاميركية في المنطقة، من تامبا، مقره في فلوريدا، الى قاعدة العديد في قطر حيث تم توسيع القاعدة الجوية بحيث تستطيع استقبال الطائرات الاميركية العملاقة. كذلك تم بناء حظائر خاصة مجهزة للحماية من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية لإيواء 120 طائرة. وخلال هذا الشهر ينضم سربان من طائرات "الأباتشي" الى الحملة العسكرية المؤلفة من 11 ألفاً من جنود المارينز في الكويت. وسيكون هناك قبل نهاية السنة ما لا يقل عن أربع حاملات طائرات قريبة من العراق محملة بألفي صاروخ "كروز"، في حين تم نقل طائرات "ب - 2" الخفاش من اميركا الى قواعد جوية في بريطانيا ودييغو غارسيا في المحيط الهندي. وفي مقابل ذلك كله نجد كولن باول قد أعد مشروع قرار لمجلس الأمن يحظى بموافقة فرنسا وروسيا، وهو لا يعتبره "قراراً لشن الحرب"، وانما فقط لتجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل. وخلال مقابلة مع كبريات الصحف العالمية صرح باول بلهجة الواثق من نفسه قائلاً: "ان اميركا لم تقرر التوجه الى الحرب... فنحن نأمل بأن تحل هذه الأزمة سلمياً". وأضاف ان اميركا تسعى الى بناء تحالف للسلام، لكنه تحالف قائم على أساس ان السلام لا يمكن ترسيخه إلا إذا جرى تجريد العراق من أسلحته. وفي ملاحظة موجهة للرد على منتقدي اميركا، قال باول: "إننا نحترم كل الاحترام آراء الآخرين، حتى لو كان هناك اختلاف". وأضاف انه اذا ما عرقل العراق عمل المفتشين فسيحال الأمر مجدداً الى مجلس الأمن الذي يمكنه، بعد نقاش للموضوع تشترك فيه اميركا، ان يصوت على قرار ثان، بمعنى آخر لن يكون هناك لجوء آلي لاستخدام القوة! بذلك يمنح العراق فرصة أخيرة للامتثال. وهذا بالضبط ما كانت فرنسا بشكل خاص تسعى الى تجنبه خلال اسابيع عدة. لكن باول، في محاولة لإرضاء الصقور، أضاف ان الولاياتالمتحدة لن تكون مكبلة اليدين من جانب الأممالمتحدة اذا ما قررت ان العمل العسكري أصبح ضرورياً. ليس واضحاً حتى الآن أي من الخطتين الديبلوماسية أم الحربية هي التي سيتم تبنيها. اذا لا يمكن الاستهانة بتصميم الصقور على قلب نظام صدام حسين بالقوة وان كان يبدو ان باول أخذ في الوقت الحاضر زمام المبادرة وحصل على إذن الرئيس بوش وعلى دعم حلفاء اميركا في الوقت نفسه. أسئلة اساسية في السياسة الخارجية الاميركية ومع ان الموضوع المطروح آنياً هو الحرب ضد العراق، فإن هناك موضوعات اخرى مهمة تتعلق بمكانة اميركا في العالم. هل تراعي اميركا حلفاءها، كما يفضل كولن باول، أو تتخلى عنهم وتعتبرهم غير ذي موضوع كما يفضل ذلك الصقور؟ هل تنحو نحو المسايرة أم الصلف؟ هل تسعى الى اقامة نظام دولي قائم على المؤسسات المتعددة الجوانب أم تمارس السياسة الأحادية معتمدة على قوتها الساحقة؟ بمعنى آخر هل تحمي مصالحها بالاقناع أم بالقوة العسكرية؟ وكرئيس سابق لهيئة الاركان والمهندس الرئيسي لحرب الخليج عام 1991 اكتسب باول خبرة كبيرة في التعامل مع التنافس بين الاجهزة الداخلية وفي بناء التحالفات. ان هدفه الأول هو التعامل مع الخطر العراقي ضمن نطاق توافق دولي. وهو يعرف محاذير التخلي عن الحلفاء الأوروبيين والعرب والتوجه المنفرد الى الحرب. ويبدو ان باول نجح في اقناع الرئيس بوش بأن التوافق الدولي ضروري وأساسي بالنسبة الى اميركا، لا للتعامل مع الموضوع العراقي فحسب، بل للتعامل مع مسألتين مهمتين تشغلان السياسة الخارجية الاميركية، وهما "الحرب على الارهاب" و"النزاع العربي - الاسرائيلي". وقد عمل باول جاهداً لنزع مصداقية الصقور في الوقت الذي كان هؤلاء يحاولون تحطيمه. من منظور أوسع يعتبر باول وريثاً للتقاليد "الأطلسية" الكبرى التي مكنت اميركا من قيادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية. بينما يبدو خصومه، كما قال عنهم الرئيس السابق كارتر في مقال نشر اخيراً، عبارة عن "مجموعة من المحافظين" يعملون على ادخال تغييرات جوهرية في السياسات التاريخية للولايات المتحدة بالنسبة الى دور اميركا في المجتمع الدولي وفي مسيرة السلام في الشرق الأوسط. وسيكون نفوذ باول في الاعتدال بالغ الحيوية في الاسابيع المقبلة نظراً الى انحراف اسرائيل نحو مزيد من اليمين المتطرف بإدارة الثلاثي المتعصب شارون ونتانياهو وموفاز، وزير الدفاع الجديد، والتوقعات المروعة بأن يحظى هذا التحالف بالنصر في الانتخابات التي ستجري في اسرائيل يوم 28 كانون الثاني يناير 2003. هذا وجاء النقد اللاذع للصقور والدعم لكولن باول من قبل الجنرال انطوني زيني الذي كان القائد العام للقوات المركزية في الشرق الأوسط، اذ قال في خطاب ألقاه في معهد الشرق الأوسط في واشنطن بأنه غير مقتنع بضرورة التوجه الى الحرب لأن "صدام حسين يمكن احتواؤه وردعه في الوقت الحاضر". فهناك كما قال زيني أولويات اخرى أكثر إلحاحاً، كإعادة مسيرة السلام في الشرق الأوسط الى مجراها، ومحاولة مساعدة الاصلاحيين في ايران، واستثمار المزيد من الموارد في افغانستان لكي يتحقق هناك تغيير حقيقي في الأوضاع "واستدراك خطر تردي العلاقات مع حلفاء لنا منذ اكثر من خمسين عاماً بدءاً من عهد الرئيس روزفلت" وهو يعني بذلك المملكة العربية السعودية. ووجه كلامه الى الأحاديين قائلاً: "لا يمكن ان نتصرف وحدنا... لا بد لنا من مقاربة الموضوع مع شركاء اساسيين عالمياً ووفقاً للشرعية الدولية، وإلا فإن كل ما يمكن ان نقوم به على الأرض سيكون مشوباً بالعيوب منذ بدايته". وفي وجه أولئك الذين ينادون بتغيير النظام في العراق واحتلال البلاد مدة طويلة لإقامة الديموقراطية يصيح الجنرال زيني "نحن لسنا قوة استعمارية ولسنا هناك لنحتل البلاد... واذا كنا نعتقد بأن هنالك حلاً سريعاً يتم بموجبه تغيير الحكم في العراق، إذن فنحن لا نفهم التاريخ، ولا طبيعة البلاد والانقسامات والمشاعر المكبوتة التي يمكن ان تنفجر... والله يكون بعوننا اذا اعتقدنا بأن هذا التغيير سيتم بسهولة". ان ديبلوماسية باول تصيب صقور واشنطن بإحباط عميق... فهم يخشون ضياع غنيمتهم وضياع رؤياهم لشرق أوسط تسيطر عليه الولاياتالمتحدة واسرائيل. لقد وضعوا آمالهم كلها في هذه الحرب... والآن وقد تضاءل احتمال وقوعها فهم في منتهى الخطورة. والمعركة لا تزال غير محسومة. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.