Giovanni Boccaccio. Life of Dante. حياة دانتي. Hesperus, London. 2002. 94 pages. بترجمة جاي ج نيكولز وتقديم آي أن ويلسون، أعيد مؤخراً إصدار هذا الكتاب بالانكليزية، هو الذي يرقى ظهوره الأول الى القرن الرابع عشر، ويكتسب أهمية مزدوجة ومتضاربة في آن. فمن جهة، هو أول سيرة أدبية حديثة، والسيرة تُعدّ النوع الكتابي الفردي الأول لدورانها حول فرد بعينه. فالكاتب سرد فيها قصة شخص معين متناولاً الهيئة التي ظهر عليها، وماذا لبس، وكيف بدت تفاصيل ملامحه. كذلك تراه يعطينا مزيداً من التفاصيل عن أول لقاءات بطله بحبيبته، مقلّباً بعض أسباب يمكن وصفها ببسيكولوجية مبكرة منحت هذا اللقاء أهمية فائقة. لا بل نراه يخبرنا كيف استطاعت زوجة بطله، حين تعرّض البطل للنفي، أن تتدبّر أمرها مالياً... والكتاب، من جهة أخرى، عمل وضعه عظيم هو بوكاتشيو عن عظيم آخر هو دانتي. والعظيمان هذان اثنان من ثلاثة ما كان للنهضة الإيطالية، ومن ثم الأوروبية، أن تقلع من دونهم والثالث بترارك، زميل بوكاتشيو وأستاذه. أما التضارب فمرده أن كتابة العظيم عن العظيم تُضعف كتابة الفرد عن الفرد، والعكس بالعكس. فكيف وأن هذه السيرة الحديثة الأولى لم تكن واقعية كلياً، فركّزت خصوصاً على الشق الفني من حياة دانتي كما جاءت، على العموم، متخمة بالإنطباعي والتأملي. ذاك أن بوكاتشيو، في آخر المطاف، لم يكتب قصة واقعية، بل حاول استبطان رؤية بطله لذاته ورؤيته للعالم. هكذا لم ينجح، ولا كان ممكناً في القرن الرابع عشر أن ينجح، في تجنب الوقوع في ما هو أسخن من السيرة أحياناً، وما هو أبرد منها أحياناً أخرى: ففي الخانة الأولى تداهمنا احتجاجات خطابية وأخلاقية كقوله، مثلاً، بعد نفي دانتي من فلورنسا: "آه، أيتها البلاد الناكرة للجميل، أي جنون وأي إهمال تملّكاكِ حين أَجبرتِ على الرحيل، وبقسوة غير معهودة، مواطنك الأعز ومُحسنك البارز وشاعرك الأوحد؟...". وفي الخانة الثانية نواجَه بتحليلات صرفة، كقوله: "هذا المؤلِف اللامع ]دانتي[ كتب أيضاً، مع مجيء الامبراطور هنري الثاني عشر الى ايطاليا، كتاباً بالنثر اللاتيني عنونه "المَلَكية" حيث قسّمها ثلاثة أقسام تبعاً لثلاث نقاطٍ تعامل معها. في الجزء الأول يبرهن... وفي الثاني... يُظهر...". وربما جاز القول، تبعاً لهذه التحفظات، إن الحديث عن تأسيس بوكاتشيو للسيرة الأدبية هو من جنس الحديث عن تأسيس محمد حسين هيكل، في "زينب"، للرواية العربية. غير أن ما يجعل الموضوع أكثر تعقيداً أن الكاتب وموضوعه أسسا في هذا العمل، وفي سواه، لمشروع نهضوي واحد ومتكامل. وبعودة سريعة الى تجربة الاثنين، وإبداعهما، نجد ما لا يُعدّ من عناصر صارخة وحيّة في دلالتها على نهضة رينيسانس كان من سماتها أن الفردي والعام متداخلان الى أبعد الحدود. لا بل أن الفردي هو مدخلها الى العام ومقياسه في آن. فدانتي أليغهيري 1265-1321 أهم شعراء ايطاليا الذي غدت كوميدياه الالهية من أبرز كلاسيكيات الأدب العالمي. وهناك قائمة لا تنتهي من أسماء الذين قلّدوه بمن فيهم بترارك، وتشوسر الانكليزي وغيرهما. لكن لننظر قليلاً في مقدمات الفردية كما وفّرها زمن دانتي، وفي تعابير الفردية كما قدّمها إبداعه. ذاك أننا اذا قارنّا النهضة الايطالية بالعربية مثلاً وجدنا، فضلاً عن فوارق الزمن والانجاز، وهي فوارق ضخمة بالطبع، أن النهضة العربية اقتصرت على استجابة نصّية للواقع، وهو ما قدّمها أقرب الى الإضجار الوعظي والتعليمي. أما تلك الأوروبية الأم فجمعت الى النصوص استجابات سلوكية وبنائية، تجلّت في بشر أخلاق، سلوك، سِيَر وفي أشكال مادية نحت، عمارة... على السواء. وصاحب "الكوميديا الإلهية" هو، أولاً وأخيراً، ذاك العمل الذي استوحى فكرته من "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري. و"الكوميديا"، كما هو معروف، قصيدة غنائية مكتوبة في صيغة المتكلم الفرد، تروي رحلة الشاعر في عالم الموتى. وينمّ كل من أقسامها الثلاثة الجحيم، المطهر، الفردوس عن حيّز ما بعد الحياة حتى اعتُبرت دراسةً في عالم دانتي من وجهة نظره الأخلاقية، دراسةً يمتحن فيها ويحاكم الحركات السياسية والثقافية والاجتماعية لزمنه. ففيها رسم صوراً تفصيلية عن القادة السياسيين والزمنيين وعن شعراء حقبته وفلاسفتها، وقدّم شهادة في ما خص نزعته الانسانية المبكرة. وهذا ما يردّ الى جذور الوعي الفردي والسيَري، خصوصاً أن فكرة الكوميديا نفسها تجرّأت على الوعي والتأويل الدينيين للموت، وللحياة تالياً. فصاحبها دانتي بقي، من غير انقطاع، حاضراً على مسرحها يضفي على وضعه وعلى شخصه أبعاداً درامية وميلو درامية. وبالتفاعل الذي أقيم بين قصته الذاتية وقصة سقوط البشر والتطهير والخلاص، لعبت "الكوميديا" على أنسنة العام والماورائي، فغدت محاولات رجل بعينه في السياسة الفلورنسية انتهاءً بنفيه عن فلورانسا، وتيهه وحنينه إليها اللذين صارا كنايات عن النفي من الجنة. وبالمعنى نفسه، لم ينفصل عن "الكوميديا" حبه لبياتريس بورتيناري، التي كتب لها بعض أجمل قصائده، وهي ابنة المصرفي التي ماتت في الرابعة والعشرين فصار جزء من رحلته الروحية في "الكوميديا" محاولةً لاستعادة حب مفقود. وهذا الحِراك الفردي سايره وحضنه حِراك إجتماعي أعرض. ذاك أن عصر دانتي إنما تميز ببدايات التنافر بين السلطة الكنسية والسلطات القومية البازغة، كما ببحبوحة الدول-المدن التي رافقها احتراب وفوضى سياسيان، فضلاً عن ازدهار ثقافي بالغ: ففي الدين ظهرت، قبل دانتي، إرهاصات الاصلاح مع القديسين دومينيك وفرانسيس الأسيزي. وفي الفلسفة كان القديس توما الأكويني قد استخدم المنهج الأرسطي وابن رشد. أما كاتب "الكوميديا"، الذي ولد لعائلة فلورنسية على صلة بالنبالة، فاهتم بالسياسة حيث تبعه واضع السيرة بوكاتشيو في تقصّي تعقيداتها وتعقيدات الأحزاب الفلورنسية. لكن دخول هذا المعترك كان يفترض بصاحبه أن يتسجل في نقابة قروسطية guild، هي في حالة دانتي نقابة تركيب الأدوية. ذاك ان الكوميون الديموقراطي درج على استثناء النبلاء من تولي المناصب بصفتهم هذه. اما حزبه فكان حزب مؤيدي البابا، الا انه انضم، حرصاً على استقلالية مدينته، الى المنشقين "البيض" الذين تذمروا من مدى السلطة البابوية. فلما نشبت الحرب وانتصر "السود" نفي دانتي وكان ذلك في 1302. والشيء نفسه يقال في جيوفاني بوكاتشيو 1313 - 1375: الكاتب والانساني الذي عُدّ عمله من أبرز الأدب الموضوع في بدايات عصر النهضة. لكن ما هو أهم من كونه صاحب سيرة دانتي الأول والشارح الأول لعمله، أن رائعته Decameron عشرة أيام - وهي مجموعة من مئة قصة يُرجّح استيحاؤها من "ألف ليلة وليلة" - شكلت المرة الأولى التي قُدّم فيها عالم القرون الوسطى بائساً وعرضة للسخرية، من غير أي تسحير او تجميل او رؤى خلاصية. لكن الأبعد من "ديكاميرون" نفسها، هي التي تركت تأثيراً ملحوظاً على كل ما كُتب بعدها من أدب، دور بوكاتشيو وبترارك في بعث التعليم والثقافة الكلاسيكيين لليونان وروما، واللذين من دونهما ما كان للنهضة البادئة في مدينته فلورنسا أن تبدأ أصلاً. بيد أن الفقر أجبر بوكاتشيو على ان ينسحب، في سنواته الاخيرة، الى مسقط رأسه في قرية كيرتالدو، الى ان استدعته حكومة فلورنسا، في 1374، طالبةً اليه القاء محاضرات عامة عن "الكوميديا الالهية" وصاحبها دانتي. وما أن ابتدأ المحاضرات حتى اعتلّت صحته، ما منعه من إكمالها فعاد الى قريته حيث مات. ولئن صدر الكتاب أصلاً وهو يحمل بالايطالية عنوان "مقالة قصيرة في مديح دانتي"، الا أن اعجاب بوكاتشيو أعقد كثيراً من أن يُردّ الى "مديح". فما جمع الاثنين مشروع يمكن الانتباه اليه في كل طور من أطوار حياتهما، دعامته الفرد الذي يستحق أن تُروى قصته بذاتها من دون أن تُلحق ذيلياً بقصة كينونة أعلى.