منطقياً، يحق للحكومة العراقية الاطلاع على مصير العقوبات المفروضة على العراق بعد عودة المفتشين واتمام مهماتهم للتأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل. فهذا في قرارات مجلس الأمن. واقعياً، لن تحصل بغداد على أي تعهد برفع العقوبات أو أي ربط بين التفتيش والعقوبات. فقد فات الزمن على استفادة الحكومة العراقية من ظرف المطالبة بإيضاح ما يترتب على عودة المفتشين بعدما رفضت التعامل مع القرار 1284 الذي طرح قبل سنوات فكرة تعليق ثم رفع العقوبات بارتباط مع عودة المفتشين وخلو العراق من الأسلحة المحظورة. والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن توصلت الى اجماع غير معلن اساسه ان عودة المفتشين ضرورية الآن بلا أخذ أو عطاء أو مقابل، باعتبارها السبيل الوحيد لانقاذ العراق من عمليات عسكرية. لم تعد المعادلة بين الغموض وايضاحه أو بين المفتشين والعقوبات. وتخطئ بغداد كثيراً اذا اعتقدت ان روسيا ستصر على خريطة الطريق الى تعليق العقوبات قبل عودة المفتشين للعمل بطلاقة تامة في العراق، فأقصى ما يمكن الاتفاق عليه كبديل عن اجتياح العراق هو انذاره ضمن اطار زمني بالامتثال بلا مساومة أو جدال. بالأمس، كان دعاة ضرب العراق قلة فاعلة داخل الإدارة الاميركية تغذيها زمرة متطرفة. بالأمس، شهقت الأكثرية العالمية واعترضت اكثرية الحكومات. اليوم، زالت الدهشة وصُقلت قاعدة اجماع ملفتة جداً في ما تتفق عليه وما يعتريها من اختلاف. اليوم، ان الاحتفاء النسبي بإعادة ملف العراق الى مجلس الأمن حالة عابرة اذ ان في طيات تلك العودة مطبات جدية اذا اساءت الحكومة العراقية الفهم أو اذا كابرت. قاعدة الاجماع الدولي تنطلق من المعادلة الآتية: ان على العراق الموافقة على عودة المفتشين فوراً للعمل بحرية كاملة بلا قيود أو شروط أو عراقيل للتأكد من إزالة برامج اسلحة الدمار الشامل كلياً ولتنظيف العراق من أي ذرة ومن كل قدرة علمية على اعادة احياء قدرات تصنيع هذه الأسلحة. استحالة تنفيذ هذا المطلب لا تكمن في عودة المفتشين ولا في فتح كل الأبواب بما في ذلك قصور الرئيس العراقي وغرف نومه. ان الاستحالة هي في طيات "عبء البرهان". فالحكومة العراقية تقول انها دمرت أسلحة ومواد وبرامج اسلحة الدمار الشامل. تلك الأسلحة والمواد والبرامج التي لم يتم تدميرها على أيدي لجنة الأممالمتحدة. المكلفة بإزالتها اونسكوم أو عبر عمليات القصف أثناء الحرب مع العراق. ولأنها دمرتها، فهي لا تمتلك الأدلة عليها، ولا يمكن لها اثبات تدميرها. "أونسكوم" وخليفتها "انموفيك" أصرت على ان عبء اثبات التدمير يقع على بغداد. أي ان العراق سيبقى مُداناً ما لم يثبت براءته. بكلام آخر، ان العراق متهم باقتناء برامج ومواد وأسلحة الدمار الشامل الى حين التقدم بأدلة واثباتات على تدميرها. ولذلك، فإن ما لن يعثر عليه المفتشون هو "الإثبات" بأن العراق ليس خالياً من برامج وأسلحة الدمار الشامل. من وجهة نظر البعض، هذا فخ ومصيدة غير عادلة. ومن وجهة نظر البعض الآخر، هذا هو استحقاق ما أدت اليه التجربة مع الحكومة العراقية بعدما اخذت الى نمط الاخفاء والتستر بدلاً من الكشف والصدق في التعامل مع اللجنة الدولية. فمزرعة الدجاج علمت درساً قيماً. وكذلك ما كشف عنه صهر الرئيس العراقي وما أدى الى اعترافات لاحقة تحت الإضطرار. هذا لا يعالج استحالة معادلة "عبء الإثبات" الذي تضعه "انموفيك" ورئيسها هانز بليكس على اكتاف العراق، والتي بدأ المسؤولون الأميركيون يتحدثون عنها في الفترة الأخيرة. لذلك، فإن الأمر يتطلب اكثر من مجرد عودة المفتشين للعمل بحرية مطلقة في العراق لتجنب الخيار العسكري. يتطلب سياسات خلاقة للحكومة العراقية لإثبات البراءة. وهذا تحدٍ لم تواجهه أي دولة في العالم في التاريخ الحديث، وهو يتطلب أولاً الاعتراف باخطاء الأمس، وثانياً تفهم خلفية واسباب التشكيك، وثالثاً البحث المعمق في كل ما من شأنه ان يعالج جذرياً هذه المعضلة. فالعالم ليس في مزاج تفهم حاجة الحكومة العراقية لضمانات وتطمينات بعدم قيام المفتشين بأعمال تجسس على النظام العراقي. ذلك ان العنصر الآخر في قاعدة الاجماع الدولي الجديد يقوم على السأم من النظام العراقي برئاسة صدام حسين واعتباره سلطوياً بطش وراوغ وتملص وماطل بعدما غزا وخفى وكابر. واذا كان من مناطق رمادية في الرغبة بنقل العراق الى عتبة جديدة بنظام بديل، فإنها تكمن في الخشية من اليوم التالي لصباح انتهاء العمليات العسكرية. قد يعتقد أركان الحكم في العراق ان هذين الخوف والقلق يعنيان التمسك بالنظام القائم ونموذجه كصمام الأمان لمنع تمزق العراق وتفتيت وحدته. ولربما هذا عنصر من عناصر مراهنته على مقاومة الخطط الاميركية المعلنة بإزالة النظام. لكن الواقع هو ان الأكثرية العالمية التي تعارض ضرب العراق هي نفسها التي توافق على تغيير النظام فيه بغير وسائل اجتياحه. وقد يعتقد اركان النظام العراقي ان اعادة الملف العراقي الى الاممالمتحدة سبيل لوقف الاستفراد الأميركي به ولتأثير "الأصدقاء" عليه. واقع الأمر ان كل القيادات الدولية التي طالبت باعادة الملف الى مجلس الأمن فادت الادارة الاميركية التي أرادت، اساساً، ان تتجنب الاستفراد وان تعمل في اطار مجلس الأمن وما توفر من اجماع دولي. أرادت ايضاً شراء الوقت وعنصر المفاجأة، الوقت، من اجل استكمال الاستعدادات العسكرية، والمفاجأة، من أجل تعزيز القدرة على الحسم العسكري. رئيس الوزراء البريطاني توني بلير التحق بجوقة الدعوة الى العمل في اطار الاممالمتحدة بعد لقائه بالرئيس الاميركي جورج بوش واتفاقهما على استقطاب اكبر عدد ممكن من الدول في ائتلاف أو تحالف دولي في المسيرة على العراق. والرئيس الفرنسي جاك شيراك طرح مرحلتين في قرارين لمجلس الأمن، احدهما لإعطاء فرصة للعراق للاستجابة ضمن اطار زمني والأخرى لإعطاء الصلاحية الواضحة لاستخدام القوة العسكرية. بهذا، بدأ شيراك العمل بدوره لتوسيع رقعة الدعم للعمل العسكري. قوام طرحه هو عودة المفتشين أو العمل العسكري. وخلا طرحه تماماً من اي مقايضات بين عودة التفتيش وتعليق العقوبات. لا تزال روسيا تقول انها تريد علاقة ترابط بين مصير التفتيش ومصير العقوبات. انما حتى الآن، هذا الموقف يدخل في خانة "بيع الكلام". فهناك طرح في مجلس الأمن عمره سنة يطالب بإزالة الغموض عن القرار 1284. وخلال هذه السنة وافقت روسيا على قرار "العقوبات الذكية" ولم تصر على ناحية إزالة الغموض التي كانت جزءاً من صفقة المقايضة في التفاهم مع الولاياتالمتحدة. وإذا ما دققت القيادة العراقية في سجل روسيا في السنوات الأخيرة عند طرح المساومات والمقايضات في مجلس الأمن، لوجدت ان الرهان على روسيا لن يأتي عليها بالنتائج التي تتمناها القيادة العراقية. أقصى ما يمكن للقيادة العراقية ان تتمناه على روسيا والصين والبيئة العربية هو ان تؤدي مواقفها الى التأثير في السياسة الأميركية لدرجة فصل الأمر الواقع بين السياسة "الأممية" التي تقع على عنوان تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل وبين السياسة "الوطنية" التي تتبنى عنوان تغيير النظام في العراق. فإذا ما لبّى العراق مطالب "انموفيك" ليتمكن من شراء الوقت ريثما يجد وسيلة لاقناع "انموفيك" بأدلة انه لم يعد يمتلك اسلحة الدمار الشامل وعالج معضلة اثبات البراءة في معادلة عبء الإثبات. عندئذ يمكن للمسار "الأممي" ان يحيّد المسار "الوطني" في السياسة الأميركية. وهذا بدوره ليس كافياً، اذ ان المطلوب هو علاقة جديدة للنظام العراقي بجيرته وبأبناء العراق اذا كان لهذا النظام ان يكسب رغبة الآخرين بالتعايش معه بدلاً من الاضطرار للشراكة في ازاحته. وللتأكيد، فإن فكرة التعايش مع النظام العراقي أو اعادة تأهيله اقليمياً أو دولياً ليس من رادار الأسرة الاقليمية أو الدولية في هذا المنعطف. فالانصباب هو على وسائل حماية العراق من الاجتياح وصيانة المنطقة من ضروب اللااستقرار التي قد تترتب على الاجتياح. فمهما كانت أجندة دعاة اجتياح العراق متناقضة مع المشاعر والقرارات الدولية، فإن الاحتجاج عليها بقي محصوراً في خانة الاستفراد بالقرار والاسراع الى الخيار العسكري قبل المحاولة الأخيرة والانذار. الآن، تصاغ قاعدة الاجماع تماماً على اساس العمل الجماعي بلا استفراد وعلى اساس اعطاء الفرصة الأخيرة بإنذار ضمن فترة زمنية محددة. ولا أحد سيصر على ضرورة ايضاح مصير تعليق أو رفع العقوبات. فهذا ليس زمن الحديث عن مقابل. انه زمن الحديث عن البديل. وليس عن الخيار. راغدة درغام - نيويورك