الذين يتابعون الديبلوماسية المصرية عن كثب يعرفون أن تركيزها الأكبر هو على القضية الفلسطينية بكل تفريعاتها الإسرائيلية والعربية والأميركية، فهي القضية المركزية من دون منازع لفترة العقود الثلاثة الماضية، وهي كذلك في الأفق المنظور. وكشف عدد من الدراسات التطبيقية أن الاتصالات المصرية الخاصة بالقضية الفلسطينية تستحوذ على اكثر من 50 في المئة من حجم الاتصالات الخارجية، على رغم كثافة القضايا وتشعب العلاقات التي تحيط بمصر. وهناك تفسيرات وأسباب كثيرة لهذا الاستحواذ الكبير، بخاصة في ضوء مركزية هدف تثبيت السلام العربي - الإسرائيلي، ومن ثم الاستقرار الإقليمي، والأخير هو ذاته مدخل التنمية بحسب الفلسفة العامة التي توجه السياسة الخارجية المصرية منذ عقدين ونصف عقد تقريباً. كل هذا مفهوم، أو على الأقل يمكن فهمه، لكنه لا يخلو من ثمن، أو لنقل أثمان كبيرة بات على مصر أن تفكر فيها أحياناً، أو تدفعها عن طيب خاطر أو عن غير رغبة أحياناً أخرى. بين تلك الأثمان الظاهرة الآن ما يتعلق بالسودان الجديد الذي يمكن أن يولد عن عملية المفاوضات بين حكومة الخرطوم و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" بزعامة جون قرنق تحت رعاية "ايغاد" وأصدقائها من أوروبا والولايات المتحدة، ومن دون مشاركة أي طرف عربي. وما رشح حتى الآن وتأكد من خلال الاتفاق على ثلاث نقاط رئيسية فصل الدين عن الدولة، حق تقرير المصير للجنوب، وطبيعة المرحلة الانتقالية ومبادئها كما حدث في إعلان مكاكوس في 20 تموز يوليو الماضي، أن ثمة احتمالاً قوياً لأن يتحول السودان الواحد الى كيانين، وربما أكثر. ومثل هذا الاحتمال، الذي يتضمنه اتفاق مكاكوس، والذي تضمنه جهات دولية وأفريقية وتراقب تطبيقه آلية دولية، يمثل نكسة كبرى لمبدأ حاكم في السياسة المصرية، وهو الحفاظ على السودان بلداً موحداً، بكل ما يعنيه ذلك من استمرار المعادلات الجغرافية السياسية والمائية على ما هي عليه. كما يشكل نكسة أخرى للمبادرة المصرية - الليبية، التي لم تستطع أن تفرض ذاتها على طاولة الحوار السياسي السوداني طوال السنوات الأربع الماضية إلا بطريقة هامشية ومحدودة. وهذا يتجلى في الاستجابات التي نالتها هذه المبادرة من الحكومة وفصائل المعارضة السودانية، وهي لم تخرج عن نطاق التأييد اللفظي والمناورة الفعلية لوأدها وتركها تلفظ أنفاسها بهدوء وسكينة، ومن دون أن يكون هناك محل لعتاب سياسي من صاحبي المبادرة أو أحدهما لأي من الأطراف السودانية. المفارقة الكبرى هنا أن كلاً من مصر وليبيا تتمتع بعلاقات طيبة مع كل الأطراف السودانية بما فيها الحكومة والمعارضة و"الحركة الشعبية". وكما فوجئ أطراف المعارضة الشمالية فوجئت مصر وليبيا. فالطريقة التي خرج بها اتفاق مكاكوس، واستبعاد مصر وليبيا من هذه العملية، وعدم اهتمام حكومة الخرطوم تحديداً بإبلاغ القاهرة او طرابلس مجريات المفاوضات مع الحركة / الخصم بزعامة قرنق، من شأنها أن تفتح الباب لما هو اكثر من عتاب سياسي أو تعبير عن الضيق وعدم الترحيب. وهو ما بدا في عدم استقبال الرئيس حسني مبارك نائب الرئيس السوداني علي عثمان طه الذي رأس وفد بلاده الى اجتماع اللجنة العليا المصرية - السودانية، على رغم استمرار زيارته ثلاثة أيام. لكن مصر، والرئيس مبارك، استقبلا لاحقاً وزير الاعلام السوداني الذي قدم تفسيرات وتطمينات لا يبدو أنها نالت كلها الرضا الرسمي المصري، وهو ما ظهر في تباين بين التصريحات التي أعلنها الوزير وتلك التي أطلقها وزير الخارجية المصري أحمد ماهر. فالوزير السوداني شدد على أهمية دور بلاده في تثبيت الوحدة السودانية، بينما ركز ماهر على حرص مصر على سلام السودان واستقراره في ظل وحدته. بالطبع، ومن حيث المبدأ، السودانيون أحرار في أن يفعلوا ما يتصورونه أو يعتقدون انه يحقق مصلحتهم وأمنهم وسلامهم الداخلي. في المقابل لدى مصر الحق في أن تحافظ على ما يحقق أمنها جنوباً، بما في ذلك سريان مياه النيل من دون عقبات طارئة أو مصطنعة. لكن الأمثل للطرفين أن يكون هناك تحرك مشترك يحقق كل الأهداف المشتركة، وهو ما دفع مصر الى أن تجتهد مع ليبيا قبل أربع سنوات لوضع مبادرة سياسية تستند الى الوحدة والمشاركة الجامعة لكل الفصائل السودانية في تحقيق سودان تعددي يسع الجميع من دون استثناء، ويشاركون في صنعه عبر مؤتمر دستوري جامع. وبما أن هذه المبادرة صارت في ضوء اتفاق مكاكوس - على الأقل لدى بعضهم - تاريخاً، فإن السؤال عن البدائل المصرية تجاه التطورات المحتملة في السودان يبدو ملحاً. إن الحديث عن البدائل وإن لم يتضمن كل الاحتمالات الممكنة بعد السنوات الست والنصف سنة المقبلة، هي فترة المرحلتين التمهيدية والانتقالية اللتين اتفق عليهما في مكاكوس، سيظل حديثاً قاصراً وغير مفيد. ثانياً، إذا لم يتضمن الحديث عن البدائل نوعاً من المراجعة العامة لأسس السياسة المصرية تجاه السودان والقضايا الأفريقية برمتها سيظل حديثاً غير مكتمل الأركان. فما حدث في مكاكوس هو اكثر من جرس إنذار في شأن اللاتوازن الذي يسم الديبلوماسية المصرية. فإذا كانت القضية الفلسطينية تمس الأمن القومي المصري من ناحية الشرق، وتتقاطع مع صراع الأدوار في المنطقة مع الكيان العبري، فإن السودان قيمة استراتيجية كبرى لمصر، تتقاطع فيها اعتبارات الأمن والحياة العضوية والأدوار والمكانة. فالمطلوب بعض الجهد الجاد والفاعل الذي يبني على ما هو قائم. وربما لا يعلم كثيرون أن السودان هو البلد العربي الوحيد الذي وقع مع مصر اتفاقاً فريداً لم تعرفه علاقات مصر مع أي من الدول العربية الأخرى، وهو "اتفاق السماح بازدواج الجنسية بين مصر والسودان"، الموقع في 28 أيار مايو 1977، والذي يسمح لمواطني البلدين بالحصول على جنسية البلد الآخر مع الاحتفاظ بجنسية بلده الأصلي ما لم يرغب في غير ذلك. كما أن البلدين وقعا اتفاقاً أمنياً في 15 تموز يوليو 1976، لم يوقع مع أي من البلاد العربية، يشكل بموجبه مجلس للدفاع المشترك وهيئة أركان، ومدته خمس وعشرون سنة ويتجدد تلقائياً لخمس سنوات، ما لم تخطر إحدى الدولتين الاخرى برغبتها في الانسحاب قبل سنة من انتهاء المدة. ووفقاً للمتاح من المعلومات لم يحدث أن طلب اي من الطرفين الانسحاب، كما لم يشكل مجلس الدفاع المشترك. وإذا كان مثل هذه الاتفاقات يعكس قوة التفاعلات بين طرفين لا يجمعهما أي رابط كذلك الذي يربط بين مصر والسودان، فهي في حالنا تلك محاولة لتعميق ما هو قائم وترسيخه. لكن المردود الفعلي الذي نراه الآن يبدو معكوساً. كنا نرى في عقد السبعينات ومطلع الثمانينات منحاً دراسية مصرية لأبناء السودان في التخصصات العلمية كافة. وكانت جهات سيادية عليا تمول أكثر من 2000 منحة دراسية سنوية لأبناء المناطق الجنوبية السودانية في كل التخصصات، بما في ذلك الطب والهندسة والزراعة، كما كان الأزهر بجامعته موئلاً لطلاب يفوق عددهم الخمسة آلاف من السودان الشقيق. لكن إحصاءات السنوات الأخيرة تكشف اتجاهاً معاكساً، على رغم أن العقد الأخير شهد وجود جالية سودانية كبيرة في مصر، قيل إنها اقتربت من أربعة ملايين شخص. فأين ذهب أولادهم وطلابهم؟ أغلقت أبواب الجامعات وتقلصت المنح المصرية، أليس ذلك غريباً! وفي عالم اليوم بكل صراعاته ومبادئه الجديدة وتغيراته الكبرى، الحفاظ على المصالح الكبرى للدول لم يعد يجدي إلا بالعمل الدائم واستنباط الآليات الجديدة الممتلئة حيوية وإبداعاً، بحيث تدعم تلك المصالح وتوسعها، وتقلل تأثيرات الغير المنافس أو العدو. لذلك فإن الركون الى حقائق تاريخية أو اعتبارات عامة أو عوامل شخصية وحدها، لا يفيد كثيراً بل يلعب أحياناً دوراً سلبياً، إذ يحد السعي الدائم الى تطوير تلك المصالح وتوسيع قاعدة المستفيدين منها. فبينما يرى المصريون أن تاريخ علاقاتهم مع السودان وهذا التداخل الاجتماعي الطبيعي بين فئات واسعة من البلدين يمثلان أساساً صلباً لعلاقات قوية ومتينة غير قابلة للتراجع، يوجد في الجانب الآخر من يحاكم مصر على "تاريخها الاستعماري القديم" في السودان، ويحملها الكثير من مسؤولية متاعب السودان الحديث. وبعض هؤلاء ينسى أن السودان الحديث،الذي نتج عن الاستقلال مطلع 1956، لم يعد مسؤولية مصر أو الاحتلال البريطاني الذي كان، وإنما هو مسؤولية السودانيين أنفسهم. وهناك بعض آخر يعتقد أن الهمّ الأول لمصر في ذلك البلد هو المياه، ثم بعد ذلك فليذهب السودان بأهله وتنميته وحريته وتعدديته الى الجحيم. في هذه المشاعر التي يبديها بعض السودانيين، عن اقتناع تام أو سوء إدراك، جرس إنذار آخر للديبلوماسية المصرية لم تتنبه إليه منذ زمن طويل. فعلى عكس كل البلدان العربية تظل للسودان أهميته القصوى لمصر بحكم الجغرافيا، كما بحكم التاريخ والمصالح المتداخلة التي لا ينفع للحفاظ عليها مجرد حسن العلاقة بين الحكومتين أو القيادتين السياسيتين. فهناك بُعد غائب في إدارة تلك العلاقة الحيوية لمصر يتعلق بتنمية العلاقات التحتية، اي بين الناس أنفسهم على طول ضفاف النيل من دون وصاية أو تدخل. فإذا نظرنا مثلاً إلى الآليات الشعبية التي يفترض أنها تعكس أهمية السودان لدى مصر، الناس والمجتمع والحكومة والساسة وغيرهم، سنجد فراغاً كبيراً. فهناك جمعية غير حكومية واحدة فقط تهتم بتنمية العلاقات بين أبناء وادي النيل نشاطها محدود جداً لا يتناسب مع حجم التفاعلات القائمة بين عموم السودانيين والمصريين. أما العلاقات بين مراكز البحوث والدراسات في البلدين فمحدودة جداً يغلب عليها الطابع العابر. وكثيراً ما تواجه إقامة ندوة مشتركة في القاهرة أو الخرطوم عقبات أمنية اكثر من العقبات المالية المعتادة، والتي غالبا ما يمكن التغلب عليها عن طريق منح أوروبية لا عربية أو محلية. ومما يعكس محدودية الوعي بأهمية السودان لمصر، تلك التغطية المحدودة جداً التي تنالها أخبار السودان في الإعلام المصري المرئي أو المقروء. فكثير من الأحداث المهمة التي يشهدها يكاد ان يكون غائباً عن التغطية المكتوبة أو المرئية. أما الأحزاب المصرية فكلها ينظر الى السودان كمعطى أبدي، أو كحقيقة غير قابلة للتغير. وبينما كانت الجريدة اليومية لحزب "الوفد" تنشر قبل نحو أربع سنوات صفحة أسبوعية عن أحوال الأشقاء في السودان، غابت تلك الصفحة وغابت معها أخبار الأهل هناك. ويكاد عدد الذين يتابعون أخبار السودان وشؤونه في الصحافة المصرية الا يتجاوز عدد أصابع اليدين، وقس على ذلك كثيراً من الأمور والمعطيات. تبدو لي الأمور وكأن "شيئاً غلطاً" يلفها، أو وعياً غائباً يحكمها. واذا لم يتم الاعتراف بأن السياسة المصرية تجاه السودان ينقصها الكثير من الحيوية الرسمية والشعبية، وان ثمة حاجة الى اعادة اكتشاف هذا البلد، وضرورة إعادة بناء المعطيات التاريخية والاجتماعية والسياسية بين مصر والسودان على نحو أعمق، فقد يحدث انفصال الجنوب، لا قدر الله، من دون أن يدري المصريون ماذا يفعلون. * كاتب مصري، رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".