حلت أول من أمس الذكرى الثانية عشرة لثاني أكبر كارثة تعرضت لها الأمة العربية والإسلامية في نصف القرن الأخير، وهي الغزو العراقي للكويت الذي لا تضاهيه في آثاره السلبية إلا هزيمة 1967. ومثلما بقيت تداعيات هذه الهزيمة حاكمة لتفاعلات الصراع العربي - الإسرائيلي حتى يومنا هذا، كذلك ما تزال نتائج الغزو العراقي للكويت حائلة دون تطوير أداء النظام العربي الرسمي الذي ما برح مفتقراً الى الرؤية في شأن معالجة هذه النتائج، خصوصاً الدمار الذي أصاب العراق وأعاده الى العصور الوسطى بعد أن كانت آفاق التقدم تلوح أمامه. فالمشكلة الأولى للنظام العربي الرسمي الآن هي في غياب الرؤية، أكثر مما في ضعف القدرة. وتوجد هذه المشكلة على كل صعيد: من السياسة الى الاقتصاد الى الأمن، وفي شأن مختلف القضايا من فلسطين الى العراق وما بينهما. فإذا سأل سائل عن استراتيجية النظام العربي الرسمي تجاه القضية العراقية، لا يجد إجابة ولكنه يعثر على شذرات متناثرة من المواقف المتغيرة في معظمها من وقت إلى آخر والعشوائية في أسلوبها. فالنظام العربي الرسمي لا يمتلك رؤية متكاملة لمعالجة القضية العراقية باعتبارها قضية شعب عربي يرزح تحت نير حكم استبدادي لا مثيل له في هذا العصر، ونظام مغامر لعب أكبر دور في تقويض مقومات الأمة العربية والإسلامية، عبر حربين شنهما ضد إيران وفي غزو الكويت خلال نحو عشر سنوات. وفيما يغيب الاهتمام بالقضية العراقية على هذا النحو، ينحصر التعامل العربي مع تداعيات حرب الخليج الثانية في معارضة الهجوم العسكري ضد النظام العراقي. وفي الوقت الذي يظل الشعب العراقي بعيدا عن جدول أعمال النظام العربي الرسمي، يحضر التضامن الضمني مع نظام صدام حسين، على الأقل في العلن لأسباب يمكن أن نذكر منها سببين رئيسيين: أولهما: أن الخوف على النظام العراقيينبع من خوف معظم نظم الحكم العربية على نفسها. وثانيهما: تكالب بعض الدول العربية للحصول على حصة في عائدات العراق من برنامج النفط مقابل الغذاء، ونجاح النظام العراقي في ربط بعض هذه الدول بمصالح تجارية آنية على حساب المستقبل. ويؤدي هذا كله الى نتيجتين كل منهما أسوأ من الأخرى: أولاهما إضعاف وتهميش وربما إلغاء الدور العربي في حل القضية العراقية، لمصلحة الانفراد الأميركي بهذه القضية. والثانية، الاحباط الذي يشعر به الشعب العراقي من جراء غيابه أو تغييبه عن جدول أعمال النظام العربي الرسمي، الأمر الذي يثير مخاوف عميقة على انتمائه العربي. ولا بد أن نتذكر هنا التغير الذي حدث في توجهات الشعب التركي تجاه أمته عندما تحالف بعض حركات التحرر العربية مع الإنكليز والفرنسيين ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. فقد كان سهلاً على مصطفى أتاتورك تغيير اتجاه تركيا وانتماءها لأن شعبها نفسه كان مستعدا لذلك من جراء احباطه إزاء موقف العرب تجاهه. وقد هربنا طويلا من مواجهة هذه الحقيقة وحاولنا تحميل أتاتورك المسؤولية عن تغريب تركيا على حساب انتمائها الإسلامي - الشرقي. لكن العرب الذين وقفوا ضد الدولة العثمانية لم يكن أمامهم خيار آخر في نضالهم من أجل الاستقلال الوطني. فكان لزاما عليهم أن يديروا ظهرهم للشعب التركي، بخلاف الحال الآن مع الشعب العراقي: لأن تخلينا عنه ليس اضطراريا بل نتاج اختيار سياسي قد تكون له عواقب وخيمة اذ الشعوب هي التي تبقى لا النظم. والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا هو: هل يصل إحباط الشعب العراقي من العرب الى حد الكفر بعروبته والميل الى الانعزال عن أمته، وكيف يمكن وضع حد لهذا الشعور المتزايد بالاحباط الذي تغذيه "رحلات الصيف والشتاء" التي يقوم بها رجال أعمال وفنانون وسياسيون عرب الى بغداد تحت لافتة "التضامن مع الشعب العراقي"، فيما الشعب لا يرى في هذه الرحلات إلا دعما للنظام الذي يعاني قمعه من ناحية، كما يعاني الحصار الدولي المفروض عليه من ناحية أخرى. صحيح أن بعض من يذهبون في هذه الرحلات حسنو النية حقا، وأن بعضا آخر يلتحق بها من جراء الحرج الذي يستشعره بفعل تكرار الدعوة والالحاح فيها. ومع ذلك تثير هذه الرحلات دور الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني في العالم العربي: فقد أخذ هذا الدور يتراجع بشكل مستمر ومنتظم في البلاد التي يتوفر فيها هامش من الحرية، وتعددية سياسية مقيدة. فتدهورَ أداء الأحزاب السياسية، وانحسرت منظمات المجتمع المدني، وتنامت المصالح الخاصة والشخصية في معظم هذه الأحزاب والمنظمات. وتجسدت المصالح في ممارسات داخلية وفي علاقات خارجية على حد سواء. لذلك لم يكن صعبا على النظام العراقي أن يجد مؤيدين ومدافعين عنه في أوساط بعض النخب السياسية المعارضة في بعض البلاد العربية، خصوصا بعدما نجح في اجتذاب العديد من رجال الأعمال العرب أصحاب المصالح في الحصول على نصيب من "الكعكة" التي يوزعها لدعم مركزه، بدل استخدامها للتقليل من معاناة شعبه. وفي هذا السياق، اختلط فساد عناصر من النخب السياسية المعارضة في بلاد عربية مع المواقف التي تتخذها بعض هذه النخب ضد السياسة الأميركية، فكان الناتج أشبه بمسرحية هزلية تتداخل فيها الأدوار وتختلط، على نحو يزيد احباط الشعب العراقي، بل قد يدفعه الى اليأس، ولا يترك له أملا في أن يجد من يقف الى جانبه في محنته. فلو كان احباطه مقصورا على الحكومات في البلاد العربية لبقي له أمل في قوى المعارضة في هذه البلاد، لكنه لا يرى من هذه المعارضة إلا القسم المؤيد لنظام صدام حسين، والصمت القاتل من الأقسام الأخرى. لذلك فالسؤال المطروح هنا هو: لماذا لا يسمع الشعب العراقي صوتاً عربياً يمنحه الأمل إلا بشكل فردي وعلى نطاق محدود للغاية؟ وإذا كانت الحكومات العربية في معظمها تفتقر الى الرؤية بالنسبة الى القضية العراقية ومستقبلها، فهل يمكن أن يكون الوضع أفضل نسبيا على صعيد المجتمع السياسي والمجتمع المدني في بعض البلاد العربية في الفترة المقبلة؟ إذا كان من أمل في إجابة إيجابية، فهي تتوقف على تجاوز النمط السائد في الثقافة العربية، والذي يقوم على نظرة أحادية تضعف قدرته على اتخاذ مواقف مركّبة. فإذا اشتد العداء للولايات المتحدة مثلا، وهو عداء له ما يبرره ويدفع إليه، يصعب اتخاذ موقف نقدي تجاه من تعاديه أميركا. وليس أدل على ذلك من أن بعض من لم يكفوا عن مهاجمة الرئيس ياسر عرفات مثلاً، انقلبوا مدافعين عنه عندما اتخذت واشنطن موقفاً عدائيا ضده وطالبت بإبعاده من قيادة السلطة الفلسطينية. ولكن إذا جاز قبول ذلك في حال عرفات، فكيف يمكن قبول أن يؤدي العداء لأميركا الى دفاع عن نظام حكم يتحمل المسؤولية الأولى عن تقويض قوة العراق، واضعاف قوة إيران، ودفع العالم العربي الى هاوية انقسام حاد في الوقت الذي كان النظام الرسمي العربي يشهد تطورات إيجابية في أواخر الثمانينات، عبر عدد من المصالحات التي أنهت الحرب الأهلية اللبنانية وأعادت مصر بشكل كامل الى الصف العربي. فالخطايا التي ارتكبها النظام العراقي لا تدع مجالا للدفاع عنه أيا كان حجم العداء الأميركي له. والموقف المستقيم، هنا، الذي يقوم على مبادئ الحق والعدل والعروبة ويحقق مصالح الأمة هو: إدانة السياسة الأميركية ورفض أي تعاطٍ مع النظام العراقي. عندئد يكون على من يحتفطون بقنوات اتصال معه، رسميين كانوا أو شعبيين، أن ينصحوه بالتخلي عن السلطة إذا كان له أن يكفّر عن بعض خطاياه ويحافظ على ما بقي من مقومات للدولة في العراق ويجنّب شعبه المزيد من الأخطار. هذا هو الختام الإيجابي الوحيد لثاني أكبر مأساة سياسية عربية معاصرة في ذكراها الثانية عشرة.