سيسجل التاريخ لمصر مبارك دورا محوريا في حماية النظام الإقليمي العربي إبان الأزمتين الأكثر خطرا في تاريخه، وهما الغزو العراقي للكويت الذي هدد بتفكيكه، والمشروع شرق الأوسطي الذي انتعش عقب اتفاق أوسلو وهدد بتذويبه في إطار إقليمي أوسع، وكأن التاريخ كان يدخر لها هذا الدور فور أن اكتملت عودتها إلى النظام العربي، بعد تجميد عضويتها في مؤسساته وعلى رأسها الجامعة عقب معاهدة السلام التي وقعتها مع إسرائيل في العام 1979. لم تكن مصر وحدها التى حمت النظام العربي. كان معها المملكة العربية السعودية بالدرجة الأولى ثم سورية في ما يمكن اعتباره قلبا جديدا لهذا النظام أمده بنبض الحياة في أشد لحظات الخطر. كما كانت هناك مشاركة متفاوتة في المدى والدرجة من دول عربية عدة نذكر منها الأردنوالكويت والإمارات والمغرب. ولكن يظل لمصر والسعودية أن تفخرا بأنهما لم تتخلفا يوما، خصوصا منذ أواخر الثمانينات، عن أداء دور كان أقل تقصير منها فيه ينطوي على مخاطر جسيمة بالنسبة إلى المستقبل العربي. ولذلك لا أجد ما يبرر الحرج الشديد الذي يبدو في سلوك الديبلوماسية المصرية الآن تجاه بعض جوانب أزمة العراق الراهنة، خصوصا الحساسية البالغة في موقفها إزاء قوى المعارضة العراقية. فمصر أغلقت بابها أمام معظم هذه القوى، ولم تتركه مواربا إلا لقلة منها، عقب تحرير الكويت في حرب الخليج الثانية 1991. وربما كان هذا مفهوما في وقت بدا أن تغييرا جذريا ليس واردا في بغداد وأن الزمن كفيل بترميم الصدع الشديد الذي ترتب على الغزو العراقي للكويت. فعلى مدى سنوات العقد الأخير في القرن المنصرم، حدث تحسن طفيف من عام إلى آخر باتجاه تجاوز الأزمة التي انتجها هذا الغزو. وأدى ذلك إلى شيوع اعتقاد، في مصر ودول عربية أخرى، في إمكان إعادة تأهيل النظام العراقي الحالي عبر إحراز تقدم تدريجي فيما صار يعرف باسم "الحالة بين العراقوالكويت". غير أن الأمر اختلف منذ تنصيب الإدارة الأميركية الحالية، في كانون الثاني يناير 2001، بخاصة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر من العام نفسه. فقد تبنت واشنطن، للمرة الأولى، التغيير في العراق باعتباره هدفاً قريباً تتجه نحوه عبر مدخل أسلحة الدمار الشامل. وأحسنت الديبلوماسية المصرية التصرف عندما تحركت سعيا إلى، أو بالأحرى أملا في، التأثير في هذه السياسة الأميركية الجديدة وتجنب نشوب حرب في المنطقة. ولكنها، في المقابل، لم توفق في اختيارها مواصلة الانصراف عن قوى المعارضة العراقية، بل غلق - بدرجة أو بأخرى - الباب الذي كان مواربا مع بعضها. فإعطاء الأولوية لتجنب هجوم عسكري على العراق لا يمنعها من منح بعض الاهتمام لما سيترتب على وقوع هذا الهجوم، بما يؤدي إليه ذلك غالبا من تغيير النظام السياسي في العراق. فالعمل الديبلوماسي لا يمكن أن ينحصر في خيار واحد أو يراهن على سيناريو وحيد، بل يأخذ الاحتمالات كلها في الحسبان. غير أن الديبلوماسية المصرية تتصرف على نحو يثير التساؤل عن دواعي خروجها على هذه القاعدة الآن في التعاطي مع أزمة العراق، خصوصا أن المشكلة لم تعد مقصورة على الموقف تجاه المعارضة، بل امتدت الى رفض القيام بأي دور في تحديد مستقبل العراق. وهذا هو ما صدر على لسان مصدر مسؤول في السفارة المصرية في لندن لنفي أي مشاركة في مؤتمر المعارضة الذي عقد في العاصمة البريطانية قبل أيام فقد قال نصا: "إن مصر لا تشارك في أنشطة أو لقاءات هذه الجماعات ولا تقيم علاقات مع ممثليها وليست لديها نية للقيام بدور في رسم المستقبل السياسي للعراق". والغريب أن يصدر هذا التصريح بعد يومين على الرسالة المخيبة للآمال التي وجهها الرئيس العراقي الى الشعب الكويتي، والتي أظهرت عدم نجاح الرهان على إعادة تأهيل النظام العراقي الحالي عربيا. وهذا موقف سياسي جد خطير سواء من منظور مصالح مصر الإقليمية ودورها في المنطقة، أو من زاوية مستقبل النظام العربي الذي لعبت القاهرة دوراً مشهوداً في حمايته. فليس في مصلحة مصر ودورها ابتداء أن تنأى بنفسها عن أحد أطراف أزمة بهذا الحجم. وليس ثمة مبرر لمثل هذه المقاطعة. فإذا كان المبرر هو الحرص على العلاقات مع النظام العراقي، فلماذا لم تقاطع مصر قوى المعارضة السودانية بعد أن تحسنت علاقاتها مع نظام الرئيس عمر البشير في الأعوام الأخيرة. وإذا كان السبب هو علاقة المعارضة العراقيةبواشنطن، فهذا ينطبق على بعضها دون البعض الآخر. كما أن معظم من يقيمون علاقات مع أميركا ليسوا عملاء لها، إن هم إلا غرقى في بحر فاضت فيه الآلام الى حد لا يترك فرصة لاختيار المنقذ. وكان في امكان مصر، التي تستطيع من دون شك التمييز بين عملاء أميركا وغيرهم، أن تنفتح على القوى الوطنية الحقيقية التي تعرفها جيدا. وفضلاً عن ذلك، فإن بناء علاقة مع هذا الحزب أو ذلك التنظيم لا يعني تأييد موقفه أو الذهاب معه أينما يذهب. فالمطلوب هو حوار لتبادل وجهات النظر وتحديد نقاط الاتفاق والاختلاف، وليس إقامة تحالف أو حتى تعاون. كما أن الديبلوماسية المصرية تستطيع، بما يتوافر لها من احترام، أن تؤثر في اتجاهات بعض القوى العراقية التي قد يكون اليأس من المساندة العربية قد دفعها لأن ترمي بنفسها في أحضان واشنطن. إن مجرد فتح أبواب عربية، خصوصا باب القاهرة، أمام مثل هذه القوى من شأنه أن يغنيها عن أميركا. ثم أي مصلحة لمصر، والعرب عموما، في رفض المشاركة في تحديد مستقبل العراق، وبالتالي انفراد أميركا ومعها قوى إقليمية غير عربية بهذه العملية؟ أما إذا كان المبرر هو أن دور المعارضة العراقية الآن هامشي في الصراع بين واشنطنوبغداد، فهذه نظرة محدودة يصعب تصور أن تقع فيها الديبلوماسية المصرية. فإذا تحقق احتمال تغيير النظام في العراق، سيكون لهذه القوى الدور الرئيس. فأي مصلحة لمصر، إذا، في الانصراف عن بناء علاقة مع القوى التي ستصنع النظام الجديد في بغداد. والأكيد أن الديبلوماسية المصرية تعرف أن العراق ليس أفغانستان، وأن القوى السياسية العراقية ذات العمق التاريخي ما زالت قادرة على ملء الفراغ على رغم كل ما تعرضت له من قهر، وأنها أكبر من أن تسمح بفرض "قرضاي" عراقي في بغداد. ومن طبائع الأمور أن أي نظام حكم جديد يتصرف تجاه الدول الأخرى وفق مدركات قادته عن كل منها، ومدى وجود علاقات بينهم وبينها. ويعني ذلك أن الديبلوماسية المصرية تخاطر بمستقبل العلاقات مع العراق إذا تحقق احتمال تغيير النظام السياسي فيه. ولكن هذه ليست مجرد مخاطرة بمصالح مصر الدولة وحدها، لأنها تنطوي على خطر يهدد مستقبل النظام العربي برمته، إذا رد قادة المعارضة العراقية على هذا التجاهل بمثله في حال وصولهم إلى السلطة. ويمكن تجسيد الخطر بصورة أكثر درامية إذا لاحظنا أن دولا عربية عدة لها مكانتها تشارك مصر الانصراف عن المعارضة العراقية، في الوقت الذي تحرص إيران وتركيا على التواصل معها، على نحو قد يدفعها إلى تكوين موقف سلبي تجاه النظام العربي. فإذا حدث ذلك، لن يكون خروج العراق من محنته وفك الحصار المفروض عليه رصيدا يضاف الى حساب هذا النظام، بل ربما يصبح خصما منه. وهذه، بالتأكيد، خسارة كبيرة لأن العراق ليس بلدا صغيرا. فإذا تحمل النظام العربى غياب العراق لأكثر من عقد وهي تحت الحصار، فقد لا يكون في إمكانه أن يتحمل انسحابها منه ضمنا أو صراحة. وهنا، تحديدا، يكتسب طلب الانسحاب الليبي - الذي لم تتراجع عنه طرابلس كليا - مغزى أكبر بكثير مما يبدو الآن. وهنا قد يكون النظام العربي بدأ طريق التفكك الذي بذلت مصر أقصى جهدها لتجنبه من قبل. وحتى إذا حرص النظام الجديد، أو القوى الأكثر إيمانا بالعروبة في داخله، على البقاء ضمن النظام العربي الرسمي، فقد لا يكون هذا هو ما يريده شعب العراق الذي تشعر قطاعات يعتد بها فيه بأن العرب تخلوا عنه. ولا ننسى أن معظم عائلات العراق فقدت عضوا أو أكثر فيها قتيلا أو مفقودا أو مشردا في المنافي خلال ربع القرن الأخير. وربما يتخذ الشعب العراقي موقفا ضد الدول العربية التي يعتقد أنها أيدت نظام صدام حسين حتى النهاية، ولنا في موقف الشعب الكويتي ضد "دول الضد" درس وعبرة. ولا يصح الاستهانة بمدركات الشعوب ومشاعرها في مثل هذه المحن. وأخطر ما يهدد النظام الإقليمي العربي في الفترة المقبلة هو أن "يكفر" شعب العراق أو قطاعات واسعة فيه بعروبته وما يترتب عليها من انتماء والتزام. وهذا هو ما ينبغي أن تتأمله الديبلوماسية المصرية جيدا. فربما تلاحظ أنها بنت موقفها تجاه أزمة العراق تأثرا بميراث الماضي وخبرة مواجهة التدخل الأجنبي أكثر مما اتخذته وفق متطلبات الحاضر ومقتضيات المستقبل المصري أو العربي. وربما تصل إلى أن هذا الموقف لا يمثل امتداداً للدور العظيم الذي نهضت به لحماية النظام العربي مرتين في العقد الماضي، بل يضع هذا النظام في خطر حقيقي. وعندئذ، قد تجد أن في موقفها الراهن تجاه أزمة العراق ما يستحق إعادة نظر في بعض جوانبه. مساعد مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في "الاهرام".