من التفسيرات لترؤس نظام العراق للدورة الأخيرة لمجلس جامعة الدول العربية، القول إن العراق "يستعيد دوره العربي جزئياً" وان الوضع العربي "أمسى أكثر تقبلاً لإعادة استيعاب العراق" وان "العراق يخطو خطوة مهمة على طريق التأهيل عربياً" وان "هناك اشارات على شبه اختراق حققه العراق"، و"ان الأجواء أصبحت مهيئة لحدوث اختراق مهم لجهة تحسن العلاقات العربية والخليجية - العراقية"! هذه التفسيرات والأوصاف، اضافة الى "الهمروجة" الإعلامية التي سبقتها ورافقتها، لم تستطع أن تغطي على الحجم الحقيقي ل"الحدث" وعادية الدورة. ذلك أن ترؤس نظام العراق، على رغم ما فيه من شحنة معنوية محدودة وموقتة، هو اجراء إداري فني، فرضه تقليد دأبت عليه الجامعة ويقضي بتسلم الرئاسة دورياً لاعضائها حسب الحروف الأبجدية، وبالتالي لم يشكل ذلك أي اختراق، ولم تكن مشاركة العراق الأولى في نشاطات الجامعة حيث لم يحرم من عضويتها حتى بعد غزوه الكويت. وإذ يؤكد "تواضع" البيان الختامي الذي أشار الى اتخاذ الدورة قرارات بشأن 46 بنداً لا خلاف عليها، بينما لم يتطرق الى البند 47 المتعلق بالملف العراقي وقضاياه، الشائكة، الى السمة العادية لهذه الدورة. فإن أعمال ومناقشات المجلس التي استمرت يومين قد أوحت، أن ثمة "صفقة" تم ترتيبها بشكل مسبق، كما يبدو، وتقضي ب"تمرير" ترؤس نظام العراق لهذه الدورة وعدم اثارة جميع الأطراف للقضايا الحساسة والخلافية، أي عدم تناول رئيس الدورة لأية قضايا تثير حساسية دول مجلس التعاون الخليجي بوجه خاص، مقابل التزام ممثلي هذه الدول عدم اثارة قضية الأسرى الكويتيين، أو تأكيد مطالبتها بغداد الالتزام بتطبيق القرارات الدولية، وتحميلها وحدها مسؤولية معاناة الشعب العراقي، وما لحق بالعراق والمنطقة من دمار وكوارث، كما دأبت على تأكيد ذلك في الاجتماعات السابقة، أو في اجتماعات مجلس التعاون الخليجي. وانطلاقاً من هذه الدورة يبدو أن الأمين العام للجامعة الدكتور عصمت عبدالمجيد ومساعديه عملوا وبدعم ومساندة بعض الدول المتعاطفة مع نظام العراق، على "تسويق" هذا النظام وتسليط حزمة كبيرة من الضوء على المصالحات العربية، التي تعني هذا النظام أساساً، فضلاً عن الدعوة لتأهيله عربياً. ويعترف عبدالمجيد بأن دعوته لمصالحة نظام العراق وتأهيله ليست جديدة، ذلك ان الجامعة طرحت، منذ عام 1993 ما سماه "مبادرة المصالحة العربية" وأكدت "ضرورة المصارحة قبل المصالحة لتهيئة الأجواء العربية لعودة العراق الكاملة" الى الجامعة العربية. ورغم اصطدام هذه الدعوة بجدار الواقع العربي المعقد الذي ينبذ، بمحصلته، نظام العراق، إلا أن السيد عبدالمجيد واصل اتصالاته ببغداد "لانتزاع" مواقف منها تسهل مهمته، يقول: ان "ما حصل من حوارات شجعني، في كانون الثاني يناير الماضي، على مطالبة العراق بالاعتذار عن غزوه للكويت". ولأن طبع نظام العراق غلب تطبعه في اجتماع دورة مجلس الجامعة في كانون الثاني الماضي "التاريخية" التي خرج منها الصحاف غاضباً وشاتماً، فقد تجمدت مساعي الأمين العام بعض الوقت ليعود فيستأنفها بالاتصالات والمراسلات مع بغداد، ومع رئيس النظام بوجه خاص، فاقترح عليه "اتخاذ مبادرة شجاعة لإتمام المصالحة الشاملة" وتقديم "تنازلات محسوبة لكسر الطوق الذي يكبل المسيرة العربية" ولم يحصل على جواب! وإذ عمد السيد عبدالمجيد الى إعادة طرح دعوته هذه عشية انعقاد الدورة الجديدة لمجلس الجامعة، أملاً في تهيئة الأجواء لمناقشتها وقبولها، الأمر الذي أيده بعض دول الجامعة، وبالغ بعض وسائل الإعلام في الترويج له وتقديمه كأحد القضايا الأكثر أهمية التي طغت على أجواء دورة مجلس الجامعة الأخير! ومهما يكن مصير هذه الدعوة لتأهيل نظام العراق ومصالحته، ومهما كان حجم الجهود التي بذلت ل"تسويقه" وتطلع البعض لقطع خطوات، ولو صغيرة، باتجاه تحقيقه، كما تجلى ذلك في الاجتماعات الأخيرة لمجلس الجامعة العربية، فإن حظوظ النجاح، حتى في تحقيق خطوات صغيرة، ستبقى معدومة، أو متدنية، سواء كان ذلك بسبب رفض نظام العراق ذاته لمثل هذه المبادرة حيث سارع الصحاف للرد على ذلك ب"رفض لعبة التنازلات"، أو بسبب تمسك غالبية الدول العربية، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي، برفض التطبيع مع هذا النظام أو تأهيله، لأسباب معروفة. غير أن هذا المآل لدعوة تأهيل نظام العراق ومصالحته ينبغي أن لا يمنع، ولا يُغيب طرح السؤال الكبير، حول سبب أو أسباب تبني بعض البلدان والجهات والنخب العربية لهذه الدعوة وسعيهم لتحقيقها، وفي مقدم الجميع الجامعة العربية وأمينها العام. إذا كان البعض يتبنى هذه الدعوة لأسباب سياسية وايديولوجية، فإن ثمة من يتبناها لأسباب ودوافع اقتصادية ومصلحية خاصة به كبلد، أو كجماعة سياسية. وتأسيساً على ذلك، فإن من حق العراقيين، لا النظام، شعباً ونخباً فكرية وسياسية طرح السؤال: ما هي المصلحة الوطنية العراقية، فضلاً عن المصلحة الوطنية العربية، في تأهيل النظام الحاكم في العراق واعادته الى الأسرة العربية؟ مهما تكن سلامة وشرعية المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية والاستراتيجية التي يراها أي بلد عربي في الدعوة لتأهيل نظام العراق، فإن هذه المصالح المشروعة ينبغي أن لا تتعارض مع مصالح العراق كبلد، والعراقيين كشعب، بل أكثر من ذلك ينبغي أن لا تكون على حسابهم، وإلا، تصبح غير شرعية. لذلك، وباستثناء مصلحة النظام الحاكم في التأهيل، وهو يمثل مصالح أقلية صغيرة تتناقض مصالحها مع مصالح العراقيين، فإن الغالبية العظمى من جماعات وفئات المجتمع العراقي وتياراته السياسية والفكرية، مهما كانت التباينات والاختلافات السياسية والفكرية في ما بينها، تجمع على رفض تأهيل النظام عربياً ودولياً وترفض مصالحته، وتسعى بكل ما تستطيع، لتضييق الخناق من حوله وتشديد عزلته، باعتبار ذلك أحد العوامل المهمة المساعدة على احداث التغيير في العراق. وإذا كان هدف تغيير النظام السياسي القائم في العراق، هو لمصلحة العراق وشعبه، فضلاً عن مصلحة دول المنطقة وشعوبها، فإن تأهيل النظام عربياً ومصالحته، يتناقض مع، ويسيء الى، المصلحة الوطنية العراقية، والعربية، في آن واحد، لأنه يعيق ويعرقل عملية التغيير ويطيل، بالتالي، في عمر النظام واستمراره على رأس السلطة. أما الأسباب والدوافع المباشرة لرفض تأهيل النظام العراقي عربياً، ومصالحته والتي تجسد المصلحة الوطنية العراقية، فهي: - لأنه يعني مكافأة هذا النظام على قمعه وارهابه شعبه وانتهاكاته الفظة والمستمرة لحقوق الانسان. - ويعني كذلك مكافأة المعتدي غزو الكويت وهذه سابقة ينبغي محاسبة من يقوم بها، فكل من يرتكب جنحة أو جناية أو جريمة ينبغي - حسب جميع الأعراف والقوانين والشرائع - أن يحاسب عليها ويقتص منه بسببها. - ان تأهيل النظام عربياً يستتبع، أو ينبغي أن يستتبع، تطبيعاً داخلياً، أي المصالحة بينه وبين الشعب العراقي، وهذا أمر يرتقي الى درجة الاستحالة، حيث تؤكد ذلك تجربة العقود الثلاثة الماضية. - لأن التأهيل يمثل مساعدة سياسية ومعنوية عربية للنظام بما يمكنه من الاستمرار في السلطة والبقاء على سياسته ذاتها، مع رغبته العارمة للانتقام والثأر. - لأن التأهيل يشكل احباطاً لمعنويات الرأي العام العراقي ولقوى التغيير، وللمعارضة في الداخل والخارج، باعتباره تخلياً عنها وانحيازاً للنظام المعادي لها، مما يشل تحركها ومقاومتها على صعيد الداخل وعلى الصعيدين العربي والدولي. - لأن التأهيل يعني، تأجيل حل "المسألة العراقية" ويساعد في استمرار عملية افراغ العراق من جزء كبير من شعبه ومن هجرة أدمغته، التي لا يمكن لأي منها العودة بوجود هذا النظام. - لأن التأهيل يساعد في الاستمرار بتعريض العراق وشعبه الى الحروب والتوترات المستمرة في المنطقة، من دون أن يؤدي، بالتأكيد، الى أي تغيير في طبيعة تفكير السلطة ونهجها وممارساتها وسياساتها. هذه الأسباب والدوافع لرفض تأهيل نظام العراق عربياً، ومصالحته والنتائج التي ستترتب على تحقيقه - افتراضاً - تشير الى تناقضه مع المصلحة الوطنية العراقية، والعربية استطراداً، وتعارضه معهما. لذلك، وبدلاً من الدعوة لتأهيل هذا النظام، الذي لن يتحقق، وإذا ما تحقق لن يؤدي للمصالحة الشاملة، أو الى التوازن والاستقرار في المنطقة، فإن الدعوة الأكثر واقعية، والتي يمكن أن تتحقق عبرها الأهداف التي يتوهم البعض بامكانية تحقيقها من خلال تأهيل النظام، هي الدعوة الحقيقية والجادة لتغييره والمساهمة في الجهود الوطنية العراقية الساعية لتحقيق ذلك، فضلاً عن الجهود والمبادرات الدولية التي تصب في هذا الاتجاه. * كاتب عراقي مقيم في لندن.