لا نعدم بين العرب مجتمعين، أو بين العرب والمسلمين مجتمعين، أو على مستوى كل بلد أو دولة أو شعب على حدة، أفراداً أو جماعات كبيرة سياسية أو دينية أو مذهبية، مؤيدة قليلاً أو كثيراً للنظام العراقي بصرف النظر عن أخطائه الكبيرة والصغيرة في حق العراق والأمة والإنسانية وحقوق الإنسان. كما لا نعدم بين من ذكرنا من عرب ومسلمين أفراداً أو جماعات سياسية بامتياز، مشوبة هنا أو هناك ببعض الملامح القطرية أو الدينية أو المذهبية، من دون ان يضعها هذا في مقام الجماعات الدينية، إلا بناءً على التبسيط العربي السخيف واللبناني الأسخف، هؤلاء مؤيدون سراً أو علناً للولايات المتحدة في كل حركاتها وبخاصة في حربها المنوية ضد العراق، بصرف النظر عما إذا كانوا هم المرشحين أو المؤهلين بعد انتصار الولاياتالمتحدة على العراق وعلى العرب والمسلمين من خلال العراق، لتولي السياسة والإدارة والسلطة تحت المظلة الأميركية مستقبلاً، فقد لا يكون هؤلاء يعنون شيئاً للولايات المتحدة، وقد يطلع اصدقاؤها وأدواتها في الحكم، هنا وهناك، من قلب القوى والأحزاب والجماعات التي تجاهر بالعداء لها وتدعو الى مواجهتها بكل الوسائل وفي كل مكان، من فلسطين الى العراق الى تركيا والسودان! ونحن نتذكر قولة علي الصالح السعدي البعثي العراقي المعروف: "دخلنا الحكم بقطار اميركي وخرجنا منه بقطار اميركي". ألا يصح لنا بمقتضى الخبرة التاريخية المكتسبة، ان نتوقع انه بناء على نتائج الحرب المحتملة يتحدد الموقف النهائي للقوى تجاه الأطراف المتصارعة على اساس النصر او الهزيمة؟ إذاً فانتصار الولاياتالمتحدة على العراق وغيره او على العراق وحده، بحسب مؤشرات الشهية الأميركية وبحسب الوقائع التي يحتمل، وإن بضعف، ان تتركب على الارتكاب العسكري والسياسي الأميركي في العراق، اي بحسب ما يمكن ان ينتج من مقاومة او مواجهة، لن تأتي بحال من الأحوال من التعبئة التي يقوم بها النظام العراقي وأنصاره في الوطن العربي، بل تأتي عادة من مخزون شعبي لا دخل للأنظمة الاستبدادية والأحزاب الاختزالية فيه... إذاً فانتصار الولاياتالمتحدة سيجعلها زعيمة للجميع، وعلى رأسهم المعارضون المدمنون على الحضور السياسي، وقد يطلع من بين الناس وسيطلع معارضون ومقاومون على المدى الطويل يفاجئون الجميع، تماماً كما حدث بعد احتلال اسرائيل للبنان عام 1982 حيث استقبل قسم من الجماهير اللبنانية - من غير اصدقاء اسرائيل - الجيش الصهيوني بالرز، ليتبين فيما بعد ان الورد الإسرائيلي تحول الى شوك، وأن الجماهير لا تحب اسرائيل، بل كان رزها المنثور ضد كثير من القوى التي تصدت لمحاربة الصهيونية، فحاربت الناس والأهل الصامدين الصابرين على المقاومة ومترتباتها، اكثر من محاربتها إسرائيل، بدليل الاجتياح وتبخر القوى الحزبية اللبنانية التقدمية امام الجيش الصهيوني، إلا حفنة من البسطاء الأقوياء في ذاتهم، الذين اتخذوا قرار المواجهة وحدهم من دون سقف سياسي لهم، وعلى عكس رغبة قياداتهم الوطنية اكثر الأحيان، الى ان اشتدت ساعد المقاومة والتحق بها الجميع منجرين امامها ووراءها بعدما بذلوا ما بذلوا من جهود. وفي المقابل، إذا انتصر العراق، فإن القوى المعادية له في اوساط الناس لأسباب جوهرية اهمها ما اقترفه النظام العراقي من تحطيم الناس والأرض من سطحها الى باطنها، والقيم والسياسة والاجتماع والوطن والدولة، وما ارتكبه من مغامرات كانت محسوبة بدقة اميركية، من إحداث فجوات في جسم المقاومة الفلسطينية، الى حربه ضد ايران ثم احتلال الكويت الخ. هذه القوى، على تقدير انتصار العراق، ستبدل من موقفها، إن لم يكن جميعها فأكثرها على الأقل. حتى الذين يراهنون على اميركا وإسرائيل سينحازون سريعاً الى العراق من دون حساب مع نظامه ورئيسه، وقد سبق لقوى تعاملت مع إسرائيل ان تعاملت مع العراق وتعامل معها العراق من دون حساب ومن دون اهداف سوى هدف الكيد والوقيعة بالدولة الوطنية اللبنانية والشعب اللبناني وعمقه السوري والعربي عموماً والإسلامي كذلك. وهذا لا يعني انه لن تنشأ قوى عربية معارضة للنظام العراقي المنتصر، خصوصاً بعد ان يتصرف تصرف المنتصر! وقد عودنا هذا النظام على الخطل والرعونة واستدراج العداوات حتى في ايام هزائمه الكبرى، فكيف اذا انتصر؟ ما يعني ان حماقاته ورعونته ستتضاعف حجماً وأثراً واستفزازاً للصديق والعدو معاً. هذا اذا كان للنظام العراقي اصدقاء حقيقيون، اي ان الواقع ان من يصادق العراق على نية حسنة هو الذي يخلط بين العراق ونظامه، اما ذو النية السيئة فإنه يكره شعب العراق ولكنه يكره الشعب السوري والشعب الإيراني اكثر، فلذلك ينحاز الى النظام العراقي ضد شعبه والشعوب المجاورة. إذاً فالأهم من كل شيء، من الصداقة والعداء، من النظام العراقي والإدارة الأميركية، هو ان ينتصر العراق، وألا تتحول احلامه ووعوده بالانتصار الى كوارث كالتي حدثت على يديه سابقاً وهي معروفة، حين كانت النتيجة انه مع كل انتصار عراقي كاذب، كان العراق يتردى ويعدي بترديه كل ما حوله وفي عمقه من الدول والبلاد العربية، ليتحول الى رافعة مميزة لمرحلة التخلف العربي المستأنف والمستدام، ولا أحد ينكر ان رعونة النظام العراقي قد اصبحت خزاناً حيوياً وتجديداً لأسباب التخلف والعجز العربي والاستبداد الكريه... إذاً فلينتصر العراق، ولكل واقعة حساب... ونحن، اي من امثلهم في شكهم وارتيابهم وذاكرتهم المجروحة، نحن على استعداد لأن نلتحق بالركب المهلل للنظام والرئيس الملهم، وإذا أصر بعضنا على المثابرة والعداء، ولم يعلن توبته فإننا سننصحه بأن يعتزل وينعزل ليمارس دهشته أو شكه أو حزنه او غضبه وحده ووراء جدران بيته او قبره... وإن كان لسان حالنا وحال الجميع مع العراق ومع العرب والمسلمين انظمة وشعوباً: في الصيف ضيعتِ اللبن... وفي تراثنا الشعبي امثلة قاسية منها: "بعدما بات الطير قام النذل الى الصيد". ويحكى ان دولة عربية سعيدة على رغم اصابتها المزمنة بالهزال واجهتها اخطار المجاعة فعقدت حكومتها اجتماعاً قررت فيه علاجاً للمجاعة المحتملة إعلان الحرب على دولة عظمى تكون نتيجتها احتلال الدولة العربية والتكفل بإطعامها كرماً، اي من مقتنيات الدولة العظمى او بعد استغلال هذه الدولة لخيرات وثروات الدولة العربية المعنية وإعطائها الجزء اليسير من المدخول لتعيش به وعليه بعد تهريب الجزء الأكبر. ولكن وزيراً اعترض لأنه احتمل ان تنتصر الدولة العربية على الدولة العظمى وحينئذ تبتلى بإطعام الجيش الغازي، ووافق المجتمعون على كلامه وتجنبوا الحرب ولم يتجنبوا المجاعة!!! إننا نعلن خوفنا من هزيمة العراق ومن انتصاره المستحيل. نخاف ان يتحول التخلف والاستبداد والاختزال والمصادرة والإلغاء والكذب وتسمية الأشياء بغير اسمائها، الى ايديولوجيا، ويتحول العجز العملي الى لائحة بمطالبنا على السماء التي ملّت من إعطائنا الفرص المهدورة، نخاف ان يتحول الجهاد وأفكار الجهاد والغيب عموماً الى تسويغ للكفر والفساد والإعاقة... نخاف ان يتحول ذلك الى مؤسسة قابضة على مصيرنا ومستقبلنا العربي بدءاً من العراق، تحت وصاية القبائل السياسية، أو تحت الوصاية الأميركية على هذه القبائل التي تعيد انتاج نفسها كلما اشتد شوقنا الى المعاصرة والتقدم والاتزان والتوازن والنهوض، وإدارة معركتنا مع من نختلف معه، خصوصاً الولاياتالمتحدة، بواقعية وعقلانية تبدآن من إدراك مسؤوليتنا عما يقع علينا ولنا وفينا، اي ان نبدأ من داخلنا، لنؤهل اوطاننا للحوار او السجال او الصراع، بدل ان نبقى محكومين بنتائج التوريط الدوري الذي يمارسه النظام العراقي بامتياز. والعارفون بالعراق وجراحه العميقة من النظام لا يصدقون ان هذا الشعب مع نظامه ورئيسه إلا ان يكون الإنسان العراقي مختلفاً كلياً عن البشر. والشعب العراقي ضد اعدائه، كل اعدائه، ولكنه مملوء ألماً وخيبة، حيث انه لن يحفل بمن يسقط النظام، بل سيحتفل بسقوط النظام. نرجو ألا نكون مبالغين، ولا بد ان نتذكر انتفاضة عام 1991 الشاملة والدور الأميركي في احباطها، ونحن أعرف بالعراق وأهله من زوار المكاتب ومراكز الأمن العراقي وفنادق الخمس نجوم والحسابات المفتوحة بالعملة الصعبة... نحن نعرف ما يدور يومياً، مما يندى له الجبين ويحلو معه اليأس او الموت او الانتحار او انتظار الفرج من اي جهة اتى، في الأحياء الشعبية في المدن العراقية، وفي اعماق بغداد، من مآس يومية في ظل صور الرئيس الجاثمة على الصدور والكرامات والفن والأدب والعلم والقيم والسياسة والتاريخ والحاضر. الشعب العراقي مشتاق الى الخلاص من نظامه ورئيسه وخائف من مستقبله تحت هيمنة اميركا. ونحن نشاركه الخوف والعطش والشوق، ولكن الشوق لا يلغي الخوف وكذلك فإن الخوف لا يلغي الشوق والعطش. ولا يكفي الخوف من نظام بديل أسوأ من النظام الحالي في العراق او مساوٍ له في السوء، للقبول بالنظام والركون إليه وبذل اي جهد لحمايته، لأن اي شيء افضل من هذا النظام، اما اليقظة العابرة على الديموقراطية والمعارضة وإعلان النقد الذاتي على تجربة النظام العراقي، فهي ذر للرماد في العيون، وبعد فوات الأوان... الى ذلك، فإن الاستبداد والإلغاء ليسا عارضاً طارئاً على عقل النظام العراقي، إنهما مكون من مكوناته. وفي اي حال، ماذا يفعل العصفور او الصقر او فرخ الحمام الذي يطول حبسه في قفص حديد اذا ما جوَّعه سجانه ثم وضع له طعاماً وفيراً خارج القفص او داخله وفتح باب القفص؟ سيبادر العصفور الى الطيران كسلوك طبيعي، ولن يلتفت الى الطعام، وليس العراقيون اقل نزوعاً الى الحرية من العصافير. * كاتب ورجل دين لبناني.