صحيح ان الجانب الاسرائيلي تلكأ في التنفيذ وقد يستغني كلياً عن اتفاق "غزة وبيت لحم اولاً"، إلا ان هذا الاتفاق - أو التفاهم - يبقى الاول من نوعه بعد قرابة 18 شهراً على تولي اليمين الاسرائيلي بزعامة شارون زمام الحكم في اسرائيل، وتنسحب بموجبه القوات الاسرائيلية تدريجاً من مدن وقرى ومخيمات واراضي هاتين المنطقتين اللتين احتلتهما اواخر عام 2000، لتتولى قوات الامن الفلسطيني حفظ الامن فيها، بما في ذلك وقف كل انواع العمليات العسكرية الفلسطينية داخل اسرائيل، وضد المدنيين والعسكريين الاسرائيليين انطلاقاً من المنطقتين. واتفق الجانبان على ان الانسحاب من "غزة وبيت لحم" خطوة اولى يفترض ان تتبعها خطوات اخرى، تؤدي بمجملها الى انسحاب الجيش الاسرائيلي من كل المدن والقرى والمخيمات والاراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية بحسب الاتفاقات السابقة التي وقعها الطرفان. والى اعادة الوضع على الارض في الضفة والقطاع الى ما كان عليه قبل انفجار الانتفاضة الثانية في 28 ايلول سبتمبر عام 2000، وتهيئة المناخ لاحياء عملية السلام والعودة الى طاولة المفاوضات. وبموجب هذا التفاهم "الاتفاق" انسحبت القوات الاسرائيلية يوم 19 آب الجاري من مدن بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ومخيم الدهيشة، وتسلمت قوات الامن الفلسطينية مهمات حفظ الامن فيها. وتمت العملية من دون اجراءات استلام وتسليم رسمية كالتي تتم عادة في مثل هذه العملية. ومع ظهور هذه السطور في "الحياة" يفترض ان يكون الجيش الاسرائيلي قد بدأ بتنفيذ الشق الثاني من هذا الاتفاق في قاطع غزة بالتدريج، هذا اذا لم تقع احداث تعطل ذلك. فهل نضجت اوضاع الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي للتوصل الى حل امني يمهد لحل سياسي؟ وهل سيتمكن اصحاب "غزة وبيت لحم اولاً" من فرضه على المعارضين له؟ وهل ينجح الاتفاق في تخفيف معاناة الفلسطينيين ام انه سيزيدها ويفجر صراعات فلسطينية داخلية؟ وهل هو بداية تراجع حكومة شارون عن موقفها من السلطة الفلسطينية، بعد فشل سياستها الامنية، ام هو استسلام مموه من قبل السلطة امام شارون؟ كما تقول المعارضة الفلسطينية. اسئلة كثيرة أثارها اتفاق "غزة وبيت لحم اولاً" مثله مثل الاتفاقات الرئيسية التي سبقته. والواضح ان تفاعلاته السياسية والحزبية داخل المجتمعين الاسرائيلي والفلسطيني لا تقل عن التفاعلات الواسعة التي خلقتها اتفاقات القاهرة وطابا وباريس وواي ريفر، المشتقة من اتفاق اوسلو. وهذه التفاعلات لن تهدأ خلال وقت قصير، خصوصاً انه اتفاق تكتيكي موقت اصر الجانب الاسرائيلي على تجريده من اي بعد سياسي يدعمه ويحميه، وانصاره في الجانبين قلة ومعارضيه كثر، ولن يهدأ لهم بال قبل وأده ولديهم القوة والحجج والوسائط الكفيلة بذلك. الى ذلك، لم يكن صعباً التنبؤ سلفاً بأن اتفاق "غزة وبيت لحم اولاً" سيفشل. فهذا اتفاق ولد عبر عملية قيصرية على سبيل التجربة والاختبار... بحسب اقوال مهندسه وزير الدفاع رئيس حزب العمل بنيامين بن اليعيزر، وظهر الى الحياة فجأة قبل ان ينضج الطرفان حلاً امنياً متكاملاً يمهد الطريق لحل سياسي شامل، لا الجانب الفلسطيني رفع الراية البيضاء قبله، ولا شارون رفع راية النصر في الكنيست وشوارع المدن الاسرائيلية بعده. ووصفه شارون في اجتماع رسمي لمجلس الوزراء انه "اجراءات عسكرية محدودة لا تتعدى سحب بضع دبابات من قلب المدن الفلسطينية". والواضح انه وافق عليه للحفاظ على حكومة الوحدة الوطنية التي يتزعمها فقط، وتقديم مساعدة محدودة لشريكه الوفي بن اليعيزر لتعزيز مواقعه داخل حزب العمل. وبصرف النظر عن مدى قناعة رئيس حزب العمل بالسلام العادل والدائم مع الفلسطينيين، فالواضح ان اندفاعه في هذا الوقت بالذات نحو الوصول الى اتفاق امني معهم جاء في سياق الدفاع عن موقعه كزعيم لحزب العمل في مواجهة منافسيه - رامون وميتسناع - خصوصاً ان مؤتمر الحزب بات على الابواب، ونسبة كبيرة من قادته وكوادره وقواعد هذا الحزب باتت تجاهر بنقدها لسياسته المتطرفة، وتتهمه بتحويل الحزب الى قوة ضعيفة ملحقة برئيس الحكومة شارون. ولا يستطيع بن اليعيزر اقناع احد في الجانب الفلسطيني ان شارون تخلى عن هدف تدمير السلطة الفلسطينية وتراجع عن اتهام قيادتها واجهزتها الامنية في الضلوع بالارهاب، وانه بات حريصا على اعادة بناء هذه الاجهزة واعتمادها في محاربة الارهابيين وتوفير الامن للاسرائيليين. كما لا يمكن زعيم حزب العمل اقناع قادة وكوادر في حزبه بأنه يملك سلطات وصلاحيات تمكنه من تطبيق اتفاق "غزة وبيت لحم اولاً" وحمايته من المتطرفين في الحكومة والجيش وخارجهما. ويخطئ بن اليعيزر اذا اعتقد ان شارون مستعد للتضحية بحلفائه من اليمين من اجله، وتزويد منافسه نتانياهو بأسلحة النصر في مؤتمر الليكود. الى ذلك، لا خلاف بين السلطة الفلسطينية وقوى المعارضة الوطنية والاسلامية على ان اتفاق "غزة وبيت لحم اولاً" لا يلبي الحد الادنى من الاهداف الوطنية العامة وأهداف الانتفاضة المباشرة، وأن مصيره لن يكون افضل من مصير اتفاقات وقف اطلاق النار الكثيرة التي توصل لها الطرفان وفشلت في تهدئة الوضع. والتدقيق في جوهر مواقف الطرفين يبين انهما متفقان حول ان اليمين الاسرائيلي بزعامة شارون ماض في تنفيذ توجهاته المدمرة لعملية السلام وللاتفاقات التي انبثقت عنها، ويسعى لتدمير القوى الفلسطينية في السلطة والمعارضة، ومصمم على قتل فكرة السلام بين الشعبين وفرض الاستسلام على الفلسطينيين. ولا خلاف بين السلطة والمعارضة على ان حكومة شارون التي لم تحترم اياً من الاتفاقات الفلسطينية - الاسرائيلية السابقة والتي تمت برعاية اميركية - اوروبية، لن تحترم اتفاقاً يتيماً لا يرعاه أحد، اقتصر فيه دور الراعي الاميركي على الترحيب به وتمنى له طول العمر والبقاء. وبغض النظر عن المبالغة الفلسطينية في البيانات والتصريحات، فالخلاف بين السلطة والمعارضة حول اتفاق "غزة وبيت لحم اولاً" تكتيكي يدور حول كيفية ادارة النزاع في هذه المرحلة البالغة التعقيد، وحول افضل السبل المساعدة في تخفيف معاناة الناس في الضفة والقطاع، وتكريس دور السلطة ممثلاً للشعب الفلسطيني، وتقليص جبهة الخصوم والاعداء وتوسيع جبهة الاصدقاء وتعزيز مواقف انصار السلام في اسرائيل. واذا كان ابرع محامي السلطة لم يستطيعوا الدفاع عن اتفاق "غزة وبيت لحم اولاً" في الشارع الفلسطيني خصوصاً امام ذوي الشهداء والجرحى والمعتقلين، فإن ابرع محامي المعارضة لا يستطيعون اقناع احد "بأن الاتفاق نص على وقف المقاومة مقابل لا شيء"، و"ان هذا الاتفاق لن يجلب سوى المجازر والذل"، و"يلقي طوق النجاة لرئيس الوزراء الاسرائيلي وحكومته وليتسنى لرأس الارهاب اميركا ضرب العراق"، و"ينطوي على تراجع كبير عن مطلب انسحاب قوات العدوان من المدن والمخيمات"... الخ من المقولات غير الموضوعية المتسرعة التي تضمنتها بيانات المعارضة. لا شك في ان تباين مواقف القوى الوطنية والاسلامية الفلسطينية - سلطة ومعارضة - حول "غزة وبيت لحم اولاً" وحول "العمليات الانتحارية" مسألة طبيعية وظاهرة صحية تماماً. واذا تعذر الاتفاق حولهما - وأظن انه كذلك - فالمصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على قوى السلطة والمعارضة الحرص في هذا الظرف الدقيق والحساس على الوحدة الوطنية، وحل الخلاف حول "غزة وبيت لحم اولاً" وحول "العمليات الانتحارية" وفق قواعد الديموقراطية التي تعطي المعارضة حق التعبير عن مواقفها علناً ومعارضة الاتفاقات التي لا تعجبها في اطار ما يسمح به القانون، وتعطي السلطة حق تمثيل الشعب والتوصل الى اتفاقات ترى انها تخدم مصالحه وأهدافه وتقلص خسائره. اعتقد ان لا أفق امام الفلسطينيين - شعباً وسلطة ومعارضة - لتحقيق مكاسب في مرحلة حكم شارون، ومهمتهم الرئيسية هي تقليص حجم خسائرهم فيها. وفي هذا السياق لعل من المفيد تذكير قيادة الانتفاضة، قيادة القوى الوطنية والاسلامية، وبعض اركان السلطة، ان تجربة عام ونصف عام من حكم شارون اثبتت خطأ موقفها على ابواب الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة في شباط 2000، حين قالت في بياناتها وتصريحاتها: "باراك وشارون وجهان لعملة واحدة" و"في زمن الانتفاضة لن يستطيع شارون البقاء في الحكم اكثر من 6 اشهر"، ودعا بعضهم العرب في اسرائيل الى معاقبة باراك ومقاطعة الانتخابات. واذا كان الفكر السياسي العربي عموماً والفلسطيني على وجه الخصوص يتحاشى التعامل مع مبدأ مراجعة المواقف السابقة واستخلاص عبرها والاعتراف بالاخطاء، فذاكرة الشعوب قوية، وسجل التاريخ يحتوي على كل المواقف ولا يرحم احداً تسبب في زيادة عذابات الفلسطينيين وآلامهم. * كاتب فلسطيني.