تبين تصريحات الرسميين الاسرائيليين وما تتناقله الصحافة ووكالات الانباء من اسرائيل ان الانتفاضة فرضت نفسها على المجتمع الاسرائيلي وتركت آثاراً مباشرة في كل مناحي حياته اليومية. وينقل كوادر وقادة القوى والاحزاب داخل الخط الاخضر ومن "يتسلل" من قوى حركة السلام الاسرائيلية الى مدن الضفة وقطاع غزة ان الانتفاضة دخلت الى بيت كل اسرائيلي. ويتابع الاسرائيليون عبر شاشة التلفزيون يومياً مشاهد الدمار والقتل في الجانبين ويدور بينهم، كما بين الفلسطينيين، حوار حيوي حول الانتفاضة وما يرافقها من اعمال عنف وقتل. ولا خلاف بين انصار السلام في اسرائيل وانصاره في الساحتين الاقليمية والدولية على ان فوز ارييل شارون زعيم اليمين في 7 شباط فبراير الماضي برئاسة الوزراء كان بمثابة انقلاب سلمي، يشبهه بعضهم بالانقلاب الذي وقع في اسرائيل في العام 1977 عندما فاز اليمين بالسلطة للمرة الأولى في تاريخ اسرائيل واستمر في الحكم حتى 1992 وبصرف النظر عن رأي الاسرائيليين في الانتفاضة فقد احتلت من اليوم الاول لانطلاقتها موقعاً بارزاً في الفكر العسكري - الامني الاسرائيلي وأحدثت هزّة سياسية قوية في النظام السياسي، وغيّرت خارطة تحالفاته، ولا تزال تفاعلاتها مستمرة تضغط على الجميع. الى ذلك، زرعت الانتفاضة حالاً من القلق والاضطراب في صفوف واسعة من الاسرائيليين. فالى جانب الخسائر البشرية ومقتل نحو 80 اسرائيلياً وجرح بضع مئات آخرين، بعضهم اصيب بعاهات دائمة، ألحقت الانتفاضة خسائر لا يستهان بها بالاقتصاد الاسرائيلي وتضررت مصالح فئات واسعة من المجتمع، وتحطم القطاع السياحي الذي كان توقع ازدهاراً قوياً في نهاية الالفية السابقة وبداية الالفية الجديدة حيث ألغى مستثمرون اجانب خططاً استثمارية كبيرة في هذا الفرع. واصيبت قطاعات البناء والصناعة والتجارة والزراعة بأضرار كبيرة نجمت عن نقص في العمالة الفلسطينية الرخيصة وتدني التصدير الى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية. واذا كان استياء اصحاب رؤوس الاموال وارباب العمل في اسرائيل من الخسارة لا يزال خافتاً فاستمرار الاوضاع على ما هي عليه فترة اطول يدفعهم الى التعبير عن هذا الاستياء، ولن يتأخروا في اتهام رئيس الحكومة شارون ووزير دفاعه بن اليعيزر فؤاد بالفشل في تحقيق الامن والسلام، وهي التهمة ذاتها التي وجهوها لباراك ولم يصوّتوا له بسببها. الى ذلك، اكدت الانتفاضة للعالم ان لا سلام مع الاستيطان، فزعزعت ثقة المستوطنين بأنفسهم. وحين هبّوا للدفاع عن مصالحهم قتل وجرح عدد منهم وتحولت حياة بعضهم الى جحيم، واضطروا الى البحث عن سكن موقت فيما عاد آخرون الى بيوتهم القديمة في المدن الاسرائيلية، وزاد عدد الشقق الخالية في معظم المستوطنات وتدنت اسعار البيوت فيها وبخاصة المستوطنات المعزولة والقريبة من المدن والقرى الفلسطينية وتلك التي صنفها اسحق رابين تحت بند مستوطنات سياسية. وبينت الانتفاضة لغالبية الاسرائيليين ان مجاراة المستوطنين وانصارهم تلحق اضراراً فادحة بالامن والاقتصاد، وتزجّ بالاسرائيليين في صراعات دموية بداياتها معروفة ونهاياتها مجهولة. ومسّت الانتفاضة أيضاً خلال سبعة شهور من عمرها بعض مرتكزات الامن في اسرائيل. فاذا كان بناء أمن استراتيجي قوي للدول والحفاظ عليه يتحققان بمقدار ما تنجح الدولة في توسيع شبكة المصالح الامنية المشتركة مع التجمعات والدول المحيطة بها واقامة علاقات سلام ثابتة مع جيرانها فالامن الخارجي الاسرائيلي صار بعيد المنال في زمن الانتفاضة، حيث تراجع إمكان اقامة علاقات سلام حقيقي مع الدول العربية جيران اسرائيل. وتدهور الامن الداخلي بمفهومه التكتيكي الى حد كبير، وتلقى ضربة معنوية قوية بعد فشل اذرع الامن الاسرائيلية في وقف الانتفاضة والقضاء على المقاومة المرافقة لها. ضرب الانتفاضة كان أحد الاهداف المبطنة التي كان حزب العمل وليس حزب ليكود يرمي لتحقيقها من اتفاق اوسلو، والمتعلقة بدخول قيادة منظمة التحرير وكوادرها الامنية والعسكرية والمدنية للضفة وقطاع غزة. لقد اعتقد قادة حزب العمل في عامي 1993 - 1994 ان حال التمزق والضعف والانهاك الشديد التي كانت تعيشها قيادة منظمة التحرير بعد حرب الخليج وقبل التوقيع على اتفاق اوسلو كافية لتحويل السلطة الفلسطينية الى اداة بيد الحكومة الاسرائيلية تسند اليها دوراً شبيهاً بالدور الذي اسندته لقوات العميل انطوان لحد في جنوبلبنان، وتصوروا ان بإمكانهم توظيف اجهزة الامن الفلسطينية في خدمة امن دولة اسرائيل والاسرائيليين، بما في ذلك المستوطنون في الضفة الغربية وقطاع غزة. الا ان وقائع الصراع ابان فترة الانتفاضة نسفت هذا الاعتقاد. والتمعن في خلفية هذا التصور الاسرائيلي الخاطئ عن اجهزة الفلسطينيين يبين عدم فهم القيادة الاسرائيلية المشاعر الوطنية والانسانية الكامنة في نفس القيادة الفلسطينية ونفوس افراد وضبّاط هذه القوات. ويبدو ان تجربة القيادة الاسرائيلية مع العميل لحد في جنوبلبنان وعملائها من الفلسطينيين أنستها أن اركان السلطة الفلسطينية ومفاصل عمل اجهزتها الرئيسية لم تعينهم الحكومة الاسرائيلية، وان قوات الامن الفلسطينية تتألف من مناضلين لهم مشاعرهم الوطنية ناضلوا سنوات طويلة من اجل انتصار قضيتهم وتحقيق اهداف شعبهم العادلة، وان المتظاهرين والمحتجين هم اخوانهم واخواتهم واهلهم. والواضح ان القيادة الاسرائيلية فوجئت بسرعة التحول في موقف رجال الامن والشرطة الفلسطينية وانخراطهم السريع في الدفاع عن اهلهم وعن شرف السلاح الذي حملوه، وادركت ان عهد اعتمادها على اجهزة الامن الفلسطينية في ضبط الامن في المناطق الفلسطينية وفقاً للمفهوم الاسرائيلي قد انتهى، كما تيقنت من ان عهد تعامل جيش الدفاع الاسرائيلي مع رجال الامن والشرطة الفلسطينية باعتبارها قوات صديقة قد ولى بعد الاشتباكات التي وقعت بين الطرفين، وبات الفلسطينيون يعتبرونها قوات اقرب الى المعادية وتحولت في كثير من الاحيان الى هدف لاطلاق النار. وبصرف النظر عن الموقف النهائي الذي سيبلوره شارون وأركانه ازاء قيادة السلطة الفلسطينية وأجهزتها المدنية والعسكرية فسيضطر هو وقيادة الجيش وقادة الاجهزة الامنية الاسرائيلية الاخرى الى اعادة النظر في الترتيبات الامنية الاسرائيلية - الفلسطينية المشتركة التي عمل الطرفان بموجبها مدة طويلة. ولم يعد بإمكان الطرفين الحديث عن العودة الى تعاون وتنسيق أمني بصيغته القديمة بعدما اطلق رجال الأمن من الطرفين النار على بعضهما بعضاً وسقط عدد كبير من القتلى والجرحى، وبسقوطهم سقطت أسس الترتيبات الامنية المشتركة. الى ذلك، كشفت هبّة العرب في اسرائيل للرأي العام العالمي عيوباً اساسية في التكوين "الديموقراطي" لدولة اسرائيل وفي مجال حماية حقوق الانسان. ودفعت عملية القتل التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي بحق ابناء الجليل والمثلث والنقب بعض المؤسسات الدولية المستقلة والتابعة للامم المتحدة الى التدخل لفحص مدى الاعتداءات على حقوق الانسان العربي في اسرائيل، بالاضافة الى حقوق الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة. وبيّنت "هبّة عرب اسرائيل" وما رافقها من عمليات اضطهاد وقتل وقمع ان اسرائيل دولة ديموقراطية لمجموعة اثنية واحدة فقط وليست دولة ديموقراطية لجميع مواطنيها، وان قانون المواطنة الذي ينظم علاقة المواطنين مع بعضهم بعضاً وينظم علاقتهم بالسلطة السياسية يستخدم للسيطرة على العرب وليس لتمكينهم من تحقيق طموحاتهم والتعبير عن تطلعاتهم المشروعة. وإلى جانب انعدام المساواة بين العرب واليهود في الحقوق المدنية في اسرائيل يفرض على الفلسطينيين الانفصال الكلي عن مؤازرة اخوانهم في الضفة والقطاع وتحظر عليهم مساندتهم في تحقيق أهدافهم وأمانيهم الوطنية المشروعة. ومع سفك اسرائيل دماء 13 مواطناً عربياً من حملة الهوية الاسرائيلية فتح جرح الفلسطينيين في الجليل والمثلث والنقب وظهر للجميع ان تجاهل علاجه منذ 1948 كان خطأ اسرائيلياً كبيراً يستدعي التصحيح. واذا كانت غير واضحة الآن طبيعة العلاج التي يفكر بها الاستراتيجيون الاسرائيليون لهذا الجرح القديم فمن المؤكد ان هبّة العرب في اسرائيل لنجدة اخوانهم في الضفة والقطاع وللدفاع عن مقدساتهم فتحت جبهة جديدة في الصراع العربي الاسرائيلي لا تستطيع القيادة الاسرائيلية، ولا القيادة الفلسطينية وحكومات الدول العربية تجاهلها، خصوصاً ان الهبّة نبّهت الصهاينة المتعصبين الى الخطر الذي يمثّله عرب اسرائيل على مستقبل دولة اسرائيل وبأنهم لم يعودوا أقلية بسيطة عددهم نحو مليون وربع مليون انسان. وليس في الأفق ما يشير الى تفكير القيادة الاسرائيلية بحلول ديموقراطية لوجودهم. لا شك في ان اسرائيل قادرة لاعتبارات كثيرة على تحمّل الخسائر والاضرار التي ألحقتها بها الانتفاضة، وعلى القوى الوطنية والاسلامية "قيادة الانتفاضة" عدم المبالغة في تأثير ذلك في موقف اسرائيل من الانتفاضة، فإمكاناتها الاقتصادية الكبيرة وقدرتها العسكرية الهائلة وشبكة علاقاتها الدولية المتينة تمكنها من تحمّل كل الاضرار التي لحقت بها او قد تلحقها لاحقاً، خصوصاً اذا بقيت في حدود معدلها المحدود المعروف. * عضو المجلس الوطني الفلسطيني.