"فن الشعر" كتاب للأديب الكبير خورخي لويس بورخيس يضمّ ستّ محاضرات كان ألقاها بالانكليزية في العام 1967 في جامعة هارفرد وظلت طيّ الأدراج الى أن اكتشفت أخيراً. والمحاضرات التي ترجمت الى الفرنسية تنمّ عن رؤية بورخيس الى الشعر. هنا قراءة. يعترف بورخيس في أحد مقالاته أنّه قارئ قبل أن يكون شاعراً، وأنّه شاعر قبل أن يكون ناثراً. هذا الاعتراف لن يعني أن بورخيس يقدّم الشعر على النثر. فهو لم يستطع كما يقول، أن يحدّد ان كانت نصوصه شعراً أم نثراً: "كل ما أستطيع قوله هو أنني أخاطب الخيال". على أن النثر الذي يقصده هنا ليس "النثر الذي يخاطب العقل" بل النثر الذي يتوزّع بين القصّ والسرد والكتابة الحلمية والفانتازيا. استهلّ بورخيس حياته الأدبية شاعراً وظلّ يكتب الشعر طوال السنوات العشرين لينتقل من ثمّ الى ميدان القصّة والحكاية والمقالة ثم ليعود الى الشعر وخصوصاً إبّان استشراء حال العماء لديه. بدأ بورخيس شاعراً إذاً وانتهى شاعراً في ما يعني الشعر من صنيع فنّي ولغوي. أما الشعر كمقام وحالٍ فهو رافقه حتى في نصوصه النثرية الصرف ومقالاته الفريدة. إلا أنّ شعر بورخيس ظلّ مثار التباس أو "سوء فهم" بالأحرى. فشعره كما يقول الناقد برناردو شيافيتا يجب ألاّ يقرأ كما لو أنّه "شعر" بل كأنّه "قصائد". وهذا يعني ان شعر بورخيس ونثره يمثلان أرقى مرتبات الأدب: "أدب" نثري و"أدب" شعريّ. قد تكون هذه المقاربة من أفضل المداخل الى عالمي بورخيس: العالم الشعري والنثريّ. فهو أصلاً يعتقد أنّ الفروق بين أشكال النثر وأشكال الشعر "عرضية" وليست جوهريّة. هكذا يشعر من يقرأ شعر بورخيس ونثره: الشعر هنا يحمل البعد الأدبي نفسه الذي يحمله النثر وكذلك "الموضوعات" أو التيمات نفسها والخصائص الأسلوبية نفسها ومنها: الاسراف في ما يسمى "المجاز المرسل"، النزعة اللاتينية في التعبير، المعرفة والتبحّر الحقيقيان والمتوهّمان، الاستقراء المشوّش ظاهراً، الاقتضاب الهجائي والساخر... يصيب شعر بورخيس من يقرأه بحيرة شديدة: كأنه شعر وليس شعراً في الآن نفسه. فهو حديث حيناً ولكن على طريقته ونيو كلاسيكي أو نيو باروكي حيناً. وكلا النوعين يمثل انعكاساً لنموذج أو مثال واحد من خلال التخييل البورخيسي. شعر غامض أو ملغز تارة ومأسور طوراً ب"وضوحه الشديد التفسير". شعر استطراديّ، سرديّ تفسيري يخضع لضرورات الوزن والقافية فيما هو في أحيان أخرى متحرّر من ربقة الشروط والمقاييس، مغامر في الجهة القاتمة من الوجود واللغة. لعلّ الحافز الى استعادة بورخيس الشاعر هو صدور كتاب فريد له مترجماً الى الفرنسية تحت عنوان "فن الشعر" دار غاليمار، باريس 2002، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات كان ألقاها بورخيس بالانكليزية في جامعة هارفرد عام 1967 واكتشفت في الآونة الأخيرة في أرشيف الجامعة. والمحاضرات كما تبدو ليست أكاديمية تماماً بل هي أشبه بالمداخلات التي تضيء نواحي مهمّة من رؤية بورخيس الشعرية في معناها العام. ومن خلال هذه النصوص ذات البعد العفويّ في أحيان يمكن استخلاص نظرية ما ترسّخ المفاهيم الشعرية التي تجلّت في "قصائد" بورخيس وفي مقالاته على السواء. علماً أن بورخيس يعتقد كلّ الاعتقاد، أنّ "النظريات الشعرية ليست إلا أدوات نستخدمها لنكتب الشعر". لكنّ كلام بورخيس عن الشعر يماثل صنيعه الشعري والنثري في فرادته وطرافته وعمقه. وقد تكون النظرية لديه هي الوجه الآخر للقصيدة مثلما قد تكون القصيدة أيضاً الوجه الآخر للنظرية. ويجب ألا ننسى أن بورخيس كتب قصائد عن الشعر نفسه ومنها قصيدته الشهيرة "الفن الشعري". لم يلتزم بورخيس كشاعر أيّ مدرسة أو تيّار. وقصائده الكثيرة لم تحمل هويّة معيّنة، وحداثته ظلّت خاصة جداً وعلى خلاف مع "الحداثات" الأخرى. يسخر بورخيس من السورياليين ويسمّيهم "تجار السوريالية" و"جماعة فرويد". أما التيارات الأخرى التي شغلت عصره فكان غريباً عنها تماماً كما كان هو غريباً عن عصره أيضاً. يقول بورخيس: "عندما أكتب أسعى جاهداً لأن أكون أميناً على الحلم وليس على الظروف". الزمن لديه يحضر في معناه المطلق. وكذلك المكان الذي يستحيل أمكنة تتدرّج بين التاريخ والوهم. والشعر يجب أن يكون صنو المرآة التي تكشف عن الوجه الخاص للشاعر، كما يعبّر. وفي قصائده كما في نثره لا يحضر الواقع الراهن، وإن حضر العالم فإنّما حضوراً حلمياً أو تخييلياً. هكذا رفض بورخيس النزعات الجديدة ورفض حمل راية التغيير بل هو راح يتحوّل عكسياً: من الرومنطيقية التعبيرية الى الكلاسيكية الجديدة أو الباروكية الجديدة، ومن الأشكال المفتوحة الى الأشكال المغلقة، ومن العضويّ والحسّي الى التجريديّ. وكان شاعراً ذهنياً، شاعراً "كُتُبياً"، مثقفاً كبيراً وقارئاً كبيراً. يقول الكاتب الفرنسي اندريه موروا في هذا الصدد: "قرأ بورخيس كلّ شيء وخصوصاً ما لم يعد يقرأه أحد". وما أكثر نصوص بورخيس التي تمتدح القراءة كفعل إبداعي والقارئ كمبدع. وقد تستحق وحدها قراءة مستقلة نظراً لما تمثل من معانٍ فريدة. عاش بورخيس كشاعر داخل العصر وخارجه في آن واحد. رؤيته الشعرية تجمع بين الجمالية والميتافيزيقيا والفلسفة الأخلاقية. أما مصادر شعره فتبدأ، كما يشير الناقد صول يونركيفيتش بالتوراة وتنتهي عند والت ويتمان: هوميروس، هيراقليط، الإسلام، القبالة، الصوفية، دانتي، ميلتون، كيفيدو، سيرفانتيس، فيرلين، شكسبير، ادغار ألن بو، سبينوزا وشوبنهاور وأوغسطينوس ويوحنا الصليب... وثقافته العميقة والشاملة جعلت قصائده ونثرياته تنبثق مثل إشراقات قارئ يتخيّل ويحلّق مسقطاً نفسه في ما وراء قراءته. كأنّ ذاكرته الشعرية والنثرية هي مجموعة ذاكرات صهرتها مخيّلته البارعة ولغته النارية لتضحي ذاكرة القصيدة أو النصّ. يتحدّث بورخيس في محاضرة عنوانها "لغز الشعر" عن قضية "التناصّ" ومن دون أن يستخدم هذه المفردة الحديثة والتفاعل مع نصوص الآخرين قائلاً: "لنفترض على سبيل المثال، أنني كتبت قصيدة جميلة - هذا مجرد افتراض عمليّ. وعندما أكون كتبتها يجب عليّ ألا أفاخر بها. لماذا؟ لأنّ هذه القصيدة تجيئني من الروح القدس، من "أناي" المتسامية وربما أيضاً من شاعر آخر. غالباً ما يُهيّأ لي أنني لا أقوم إلا بتمثّل ما قرأته قبل فترة: هذا يصبح اعادة اكتشاف". لعلّ هذه النظرة الحاذقة التي يلقيها بورخيس على مفهوم الصنيع الشعري تبدو سبّاقة الى ارساء ما سمّي لاحقاً ب"التناص" وأضحى اليوم من النزعات الحديثة التي يلهج بها الكثيرون. لكن بورخيس يجعل من مفهومه الشخصيّ ل"التناص" بادرة ايجابية جداً كاشفاً المعنى الحقيقي لما يُسمّى "الذاكرة الغائبة". فالتأثر هنا يحصل على مستوى الإبداع، وليست الكتابة إلا تذكّراً في المعنى الأفلاطوني. ولم يتوان بورخيس عن القول: "ربّما يكون من الأفضل أن يكون الشعراء بلا أسماء" أي أن تبقى قصائدهم غير موقعة وكأن شعراء كثيرين تشاركوا في كتابتها. هذه المأثورة تذكّر برسّامي الأيقونات الذين لم يكونوا يوقّعون لوحاتهم الأيقونية البديعة تخطياً للأنانية الفرديّة وذوباناً في التجلّي الذي يحلّ على مثل هؤلاء الرسامين المتصوفين والمنقطعين الى التأمل والصلاة. يمتدح بورخيس الشعر كثيراً معتبراً أن لغز الشعر هو "الأساس"، فمن خلال تلقفه الشعر كالكحول، كما يقول توصّل الى خلاصة نهائية إزاءه: "كلّ مرّة أجد نفسي في مواجهة الصفحة البيضاء، ينتابني الانطباع نفسه: عليّ ان أعيد اكتشاف الأدب بنفسي". وإن كانت تلك النصوص التي ضمّها الكتاب موجّهة الى طلاب جامعيين يصغون الى بورخيس محاضراً فهي لم تحمل أي نرجسية ولا أي "أستذة" بل إن بورخيس شكّك أكثر من مرّة بنفسه، وتحدّث عن شكوكه أكثر مما تحدّث عن يقينياته ولكن مع ثقة تامّة بأن "الحياة مصنوعة من الشعر". يعترف بورخيس أن تحديد الشعر فعل غير يقيني أو غير نهائي. وإذ يعرّف الشعر قائلاً: "الشعر هو التعبير عن الجمال عبر الكلمات المنسقة فنياً"، يسارع الى القول: "هذا التحديد قد يكون صالحاً ليمثل في قاموس ولكننا نشعر جميعاً أنّه ضعيف". تحديد الشعر يماثل في نظر بورخيس تحديد نكهة القهوة أو اللون الأحمر أو الأصفر، معنى الغضب أو الحبّ، البغضاء، شروق الشمس... ويستشهد بالقديس أوغسطينوس الذي كتب مرة: "ما هو الزمن؟ إذا لم يطرح عليّ هذا السؤال، أعرف ما هو الزمن. أما إذا طرح عليّ السؤال فأنا لا أعرف ما هو الزمن أبداً". يقول بورخيس معلقاً: "أحسّ بشعور مماثل في خصوص الشعر". هكذا يمسي الشعر وكأنّه مثيل "الوردة" التي رأى المتصوّف الألماني الكبير سيليزيوس "أنها من دون لماذا" فهي "وجدت لأنها وجدت". وهذه العبارة علّق عليها هيدغر في ما يشبه التأويل الفلسفي. وإن كان يصعب تناول المحاضرات - النصوص كلّها خصوصاً أنّها متشعبة الموضوعات التيمات فان قصارى هذه القراءة استخلاص نظريات بورخيس أو مفاهيمه الشعريّة من بين سطورها أو مقاطعها. يمتدح بورخيس مثلاً الشعر الملحمي معتبراً اياه "الشكل الشعري الأنبل". ويستغرب كيف غاب هذا النوع الشعري في مرحلة ما بين الحربين العالميتين مع أنّ الظروف كانت مؤاتية لبروز الشعر الملحميّ. وإن كان بورخيس يعتبر ان ثنائية الشكل والمضمون باتت من مخلّفات الماضي فهو يرى في معنى القصيدة حالاً إشكالية كأن يقول: "لطالما ظننت ان المعنى هو شيء يضاف الى القصيدة. وأعلم علماً لا نقاش فيه، أننا نشعر بجمال القصيدة قبل أن نفكّر بمعناها". لكنّه يعترف أنّ هناك قصائد جميلة لا تريد أن تقول شيئاً. أما المفاجئ فهو موقفه الايجابي من الشعر الحرّ في مفهومه الغربي أي الخالي من الوزن والقافية ومن قصيدة النثر، هو الذي كثيراً ما اعتبر نفسه كلاسيكياً محدثاً أو نيو كلاسيكياً. يتحدّث بورخيس عن الموسيقى الداخلية قائلاً: "حتى لو كانت الموسيقى غائبة فأنتم تسمعونها". والموسيقى التي يقصدها هي موسيقى الأحرف والكلمات القادرة على توليد الايقاع خارج الوزن والقافية. ويعتبر بورخيس أن الشعر الموزون أسهل من قصيدة النثر، فهو خاضع لمفهوم النموذج، ويكفي الشاعر أن يتمرّس في هذا النموذج حتى يكتب قصيدة كلاسيكية. أما كتابة قصيدة النثر فتفترض نموذجاً أشدّ حذاقة ودقة. فالأذن معتادة أن تسمع ايقاعات معيّنة، وما يحصل في قصيدة النثر يكون مفاجئاً جداً. فقصيدة النثر تقترح ايقاعات أخرى تنمّ عنها في وقت واحد، خيبة ورضى. يسأل بورخيس نفسه: ماذا يعني أن أكون كاتباً؟ و... يجيب هو بنفسه قائلاً: "هذا الأمر فقط: أن أكون أميناً على مخيّلتي". كم كان بورخيس أميناً حقاً على مخيّلته الرحبة التي استطاعت ان تكون ذاكرة الآخرين مثلما كانت ذاكرته الشخصية، ذاكرته المفتوحة على المعرفة والشك والحلم! الفن الشعري أن ترى الى نهر من وقت وماء وتتذكّر أن الوقتَ نهرٌ آخر، أن تعرف أنّنا نضيع مثلما النهر يضيع، وأنّ الوجوه تجاري عبور المياه... أن تشعر أنّ اليقظة رقاد آخر، أن تحلم أنّك لا تحلم، وأنّ الموت الذي يرهبه جسدنا هو موت كلّ ليلة، ويسمّى الرقاد... أن تجد في اليوم الواحد أو في السنة الواحدة صورةً لنهارات الإنسان وأعوامه، أن تحوّل إهانة السنوات إلى لحن، وشوشة ورمز. أن تجد في الموت النّومَ، وفي الغروب ذَهباً حزيناً... هكذا الشعر الخالد والفقير. كما الفجر يعود، كما الغروب. أحياناً، في المساءات، وجهٌ ينظر إلينا من داخل مرآة. الفنّ مثل هذه المرآة، يكشف لنا عن وجوهنا. يخبرون أنّ عوليس، مذ تعب من قدرته، بكى حبّاً عندما لمح إيتاكا الخضراء. الفنّ هو هذه الجزيرة في اخضرارها الأبديّ، وليس في الفعل الخارق. وهو النهر اللامتناهي الذي يعبر ويبقى بلّوراً في عينَي هيراقليطس. الواحد المتقلّب هو نفسه والآخر معاً، مثل النهر اللامتناهي. بورخيس عن الاسبانية: عيسى مخلوف