اكتشفت دار الآداب رواية "العسل" للكاتبة اللبنانية الشابة زينة بي غندور، وهي مقيمة في لندن وتكتب بالانكليزية، وسرعان ما نقلتها الى العربية بغية تقديمها وتقديم صاحبتها الى القراء العرب. وكانت الرواية حظيت بترحاب نقدي في معظم الدول الانغلوفونية ووصفتها "المجلة الأدبية" البريطانية بالعمل الجميل والمضيء. هنا قراءة في الرواية في ترجمتها العربية مثلما انجزها ثائر ديب. ربما لم تتعمد زينة بي غندور إرساء عالم شبه "إكزوتيكي" في روايتها "العسل" مقدار ما جذبتها الحكاية نفسها الى عالم يختلط فيه الواقعي والأسطوري اختلاطاً تامّاً، حتى ليصعب الفصل بين هاتين النزعتين المتناقضتين. فالرواية أقرب الى الحكاية التي يتعاقب على سردها أكثر من صوت أو ضمير: الراوية الكاتبة، بعض الشخصيات، الصحافية التي صدف أن زارت القدس لتغطّي الأعمال الاستشهادية... لكنّ "الحكاية" تنطلق من الصحراء الفلسطينية وتحديداً من قرية تدعى "الأحمر" الرابضة قرب أريحا. هناك تحصل "وقائع" الحكاية لا أحداثها بدءاً بقصّة الجامع الأصفر اللون الذي سعى أهل البلدة الى أن يطلوه بالأزرق تيمناً ب"لون السماء الخيّرة"، لكنّ لونه أضحى أخضر تبعاً لاختلاط الأصفر بالأزرق. وعندما عجزوا عن طليه بالأزرق استعانوا بالأحمر "لون الأرض التي يقوم عليها". بداية جميلة لحكاية لن تقتصر على لعبة الألوان ولا على طابع السرد الشعبي "ذات مرّة كان هنالك جامع أصفر اللون..."، بل ان رمزيّة اللون الذي استقرّ على الأحمر وهو لون الأرض الصحراوية بامتياز ستفضي الى جوّ رمزيّ يتوزّع الحكاية كلّها بوقائعها وشخصياتها القائمة على تخوم الحقيقة والخيال. هكذا ستبرز شخصية "روحية" الفتاة الصبية التي ارتكبت معصية بحلولها محلّ والدها المؤذّن عندما عجز عن اداء واجبه. المؤذن رضوان والدها لم يفوّت أذاناً واحداً منذ ثلاثين سنة وقد وجد نفسه ذلك النهار طريح الفراش ولم يكن عليه إلا أن يشير الى ابنته ان تذهب الى "الأشقر" الذي يسمّى ب"التقيّ المداوي" لتطلب منه أن يؤذّن عوضاً عنه فجراً. لكن "روحية"، التي كانت تدرك ربما ان القدر لم يشأها أن تكون فتى يخلف الوالد المؤذّن، أرادت أن تغامر في أمر الأذان مرتكبة معصية تجاه بارئها أولاً وتجاه أهلها وأهل القرية ثانياً. وقفت "روحية" على الشرفة الدائرية وكان لم يبق إلا لحظات على صلاة الفجر. وحين صلّت أحسّت أن "جسدها كان متصلّباً والصرخة فرّت فراراً". وكانت لتوّها أغمضت عينيها "واجتازت الصحراء الى بحر متلألئ وضاء". لم تكن تلك الوقيعة مجرد حادثة عابرة، فهي ستظلّ شاغل أهل القرية، نسوة ورجالاً. النسوة وجدن فيها بادرة غريبة والرجال شعروا أن ذلك الصوت اخترق قلوبهم. ولعلّ الصوت نفسه سيصل الى قلب يحيى، الحبيب الذي كان غادر قرية "الأحمر" ملتحقاً بصفوف المناضلين الاستشهاديين في القدس. ولكنّ الصوت الذي لمس قلبه دفعه الى التخلّي عن مهمته الانتحارية بدلاً من أن يحثه عليها. هنا تبرز مفارقة بيّنة لا في الحكاية فقط بل في بناء العلاقة بين يحيى وحبيبته "روحية" وبين كليهما والواقع الفلسطيني الذي يصبح بمثابة المعطى الحكائي أو الميثولوجي. فالصوت الذي لم يبلغه إلا بالحدس أو المعجزة والرؤيا هل كان ليتمكن من ردعه حقاً عن تفجير نفسه؟ إنّه الحبّ الذي ينتصر على الفعل الانتحاري أو الاستشهادي وعلى ثقافة العنف المعمّمة في بعض الأوساط! كان يحيى، قبيل التحاقه بمهمّته تلك، خلع كوفيته الحمراء وأقلع عن "عقائد البشر" ووجد في "كتاب الله كلّ ما يحتاج اليه". أطلق ذقنه واختفى مع صديقه عيد. كان همّه أن يستشهد مفجراً نفسه بأعدائه الاسرائيليين الذين "جرّوه بعيداً وهو بعد صبيّ يبكي". لم يكن يشعر بثقل "المتفجرات" التي كان يحملها. فهو استحال "وحشاً دموياً" تبعاً للاضطهاد، ولكنّه "وحش" رقيق وعاشق، يحمل في عينيه "وجه أمه". وفيما ينسحب يحيى ينفذ صديقه عيد عمله الانتحاري. هل كان يحيى جباناً في تراجعه أم أنه الحب شاءته الكاتبة أن ينتصر؟ أما "روحيّة" التي كانت تصلّي وعينها دوماً الى "الأقصى" والى قبّته الذهبية، فهي من أهم الشخصيات في الرواية أو الحكاية. فهي تسمى "حورية الصحراء"، صوتها "في غاية الاشراق"، ووجهها "يبهر الأبصار"، شعرها أشقر وبشرتها سمراء، وفي عينيها "حبائل البرق". ويقال عنها انها "مصدر الينبوع الذي يروي الواحة" وان "ابتسامتها تظل تتصادى في القلب"... وعلى رغم هذه المواصفات يظل مجرّد ذكر اسمها يثير "خوفاً غامضاً ونادراً كالمرجان الأسود". هكذا تبدو "روحية" الشخصية التي تلتقي فيها النزعة الواقعية والنزعة الأسطورية. انها شخصية من لحم ودم، ومن وهم وحلم في الآن نفسه، شخصية تُحِب وتُحبّ كأيّ فتاة في صباها وتملك في وقت واحد قدرات خارقة تتمثل في صوتها ونظراتها... فهي مثلما كانت تقرأ لأبيها خلال مرضه، كانت أيضاً تحدّث الجماد من حولها كالكراسي والمناضد والأزهار. وكانت تعلم في سرّها انها ستعيش وتموت مع يحيى. وعندما أصبحت مع يحيي في الصحراء قال لها: "سأحبّك على الدوام، يا لبوتي". وهي لم تكن لبوته فقط بل كانت أيضاً "نورسته" التي غمرته بصوتها ومزّقت أحشاءه. هل هي حكاية حب رواية "العسل" أم أنّها حكاية عن فلسطين وعن الحصار والموت والاستشهاد والعنف الاسرائيلي؟ تبرز في الرواية شخصية الصحافية مايا التي تغطّي وقائع الانتفاضة في فلسطين من غير أن تنحاز الى جهة. فأصدقاؤها العرب يقولون لها: لا سلام من دون عدل، بينما يقول لها أصدقاؤها اليهود: القتلى هم من المدنيين. وعندما ينفّذ عيد صديق يحيى عمله الانتحاري تزور مايا قرية "الأحمر" باحثة عن أهله. وفي تلك القرية حيث دارت الوقائع الملتبسة بين الحقيقة والخيال تكتشف قصّة "روحية" والشخصيات الأخرى مثل الفتاة "أسرار"... وهذه الفتاة لن تقل غرابة عن "روحية" في تلك البقعة النائية من الصحراء. قد يكون أثر الرواية في لغتها الأصلية أشد وقعاً على القارئ الأجنبي لا لأنها تقترب من الطابع الإكزوتيكي قليلاً بل لأنها تقدم عالماً غريباً هو مزيج من الألفة والفانتازيا والتخييل. فالواقع الفلسطيني الذي تتصدّى له عبر مراحله المختلفة 1948، 1967، 1997 إنّما تقدّمه في اطار حكائي مميّز يمنح الوقيعة إمكان حدوثها ولكن خارج المفهوم التسجيليّ أو المباشر. هنا، في الرواية، تغدو قضية فلسطين حكاية من الحكايات المأثورة التي تنحفر عادة في الذاكرة والوجدان. إنّها حكاية الحبّ والموت والاستشهاد والمعصية... حكاية الصحراء والجامع والعائلة والفتاة الخارقة والحبيب الذي يتخلى عن عمله الانتحاريّ. وإن برز بعض الارتباك في تقديم الشخصيات والعلاقات عبر البنية المتقطّعة بين صوت الراوي/ الرواية وأصوات الشخصيات الأخرى روحية، يحيى، مايا، أسرار... فمردّه ربما الى طبيعة الحكاية نفسها، المغرقة في الترميز والتخييل والشعرية. ولئن أشارت المؤلفة في مستهل الرواية الى أنّها تريد أن تتكلّم ب"صوت بعيد عن الشعر" فهي لم تستطع ان تتحاشى أشراك الشعر، موقفاً ولغة. وهي أشراك غاية في الجمال والعمق على ما بدت: "نظر في عينيها وأبصر حقولاً لا نهاية لها من الخزامى" أو: "حين تعاظم ألم "حرة" كثيراً، رفّت بجناحيها ذات مرّة وطارت بعيداً صوب الظلام مثل خفاش". أو: "بكى رضوان كثيراً حتى ان بئر القرية التي كانت قد جفّت، امتلأت قبل أن تمضي الأربعون..." ... مثل هذه الجمل والصور - وما أكثرها - تدلّ إلى شعرية الحكاية التي تنصهر فيها الواقعية والسحر والخيال على طريقة ماركيز حيناً وغونترغراس حيناً آخر. لكنّ زينة بي غندور لم تسعَ الى كتابة رواية في المعنى العام والراسخ للرواية مقدار ما سعت الى أن تحكي "الحكاية كما هي" مثلما أشارت في المقدمة! وإن كانت هذه الرواية عملها الأول فهي تحمل، على رغم بعض الارتباك الكثير من النضج الذي دفع الروائية المصرية أهداف سويف الى أن تصفها ب"العمل المؤثر جداً".