رواية عبده خال الحائزة على بوكر العربية " ترمي بشرر" دار الجمل،تستحق تتويج مسيرة اختطها المؤلف عبر مجموعة روايات لافتة، ناظمها يقوم على طبيعة معالجتها الصادمة التي توغل بعيدا في تصوير التشابكات الاجتماعية وتجليات القسوة والقبح زمن التحولات. انه يبحث عن المحاور التي تشكل عنصر المفاجأة في القص، تلك التي تنتج تراجيديات من طراز معاصر،وهي المختبر الذي تخرج منه التجربة الأخلاقية في مقاربتها الروائية عند عبده خال. وإن كان لنا أن نستذكر رواية عبد الرحمن منيف "مدن الملح"، ونحن نقرأ هذه البانوراما التي يحاول المؤلف تقليب مراياها الاجتماعية، فهو لم يقترب من فكرة الرواية التاريخية، بل يشغله الحاضر الممتد على امتداد أزمنة معاشة،فلا بطله في روايته الأخيرة،الذي يمثل سلطة القصر،يغدو امتداداً لماضي أبيه الرؤوف والمتواضع، ولا هو يشبه أمه المتفهمة والمتواصلة مع مخدوميها، ولا أخته التي تقع في حب صياد لا تعرف له أصلاً أو عائلة.سيد القصر الشرير يشكل حالة خاصة وكأن الراوي في تبئير القص حوله، ينتزع منه سلطة التعميم ويقيم له خصوصية الشر الخالص الذي لا أب له، قدر ما له من مريدين يصنعهم ويتركهم لتعذيب ذواتهم. لعل نظرة عبده خال المتذمرة ، كانت وراء تلك الاضاءات الواقعية والخيالية لتجارب أخلاقية وروحية لأبطاله في هذه الرواية، حيث يوغل القص في نبش الألم الإنساني إلى أقصاه، متتبعا سيرة المهرولين إلى جنة الثروة والحب والنعيم عبر مستنقعات الرذيلة والإذلال والبشاعة. لن نجد في هذه الرواية إلا القليل من الشخصيات من لم تتلوث بخطيئة الدخول في مشروع الثروة التي قلبت حيا معدما رأساً على عقب، عندما قدمت الجرافات لتشيد قصراً من ألف ليلة وليلة على اللسان البحري الذي كان مرتعاً للفقراء، فبدأ سكانه يتساقطون كفراشات أمام مصابيحه التي زادت ليل أرواحهم عتمة.حنين الروائي إلى زمن البراءة الأولى، زمن الطهرانية، يمنعه من معاينة الحالات المتبّدلة لشخصياته إلا ضمن تلك الورطة التي تشكلت منها عناصر الشر والخير: سيد القصر المرصود في هذه الرواية هو الذئب الذي يعاجل فريسته قبل أن تناله، ولن يكون خصمه، سوى خادمه الذي يرى في منامات أرقه يوم الخلاص منه. وفي معادلة الكر والفر هذه يتحول المكان إلى وكر للملذات،وبجهود فتوات الحي الفقير الذين يسخّرهم السيد أدوات طيعة لتنفيذ مهمات إذلال اعدائه واصطياد الفتيات إلى لياليه الحمراء. عبده خال لا تسويات في الرواية بين مفهوم الثروة والفقر، الصعود والهبوط في سلم السلطة، بل هناك خط مستقيم يمضي إليه مصير البطل الذي يروي قصته مذ كان طفلا تكفلت عمته بتربيته على الكراهية وحياة المناكدة، لحين ما باع مواهبه في الاغتصاب وملاحقة الصبيان بأثمان كبيرة، ليتولى تعذيب خصوم سيده جنسيا وتصويرهم كي يصبحوا طوع بنانه. يقوم مركّب الرواية على منلوج اعترافي طويل، يقلّب فيه البطل شعوراً بالذنب من زمن لم يدع له فرصة الهرب من كل الرذائل، فهو يسائل نفسه وعائلته، ثم ولي نعمته الذي يتولى ادارة جماعته على طريقة المافيات العالمية. لعبة الاعتراف تقوم على سرد تنطوي حكاياته المتناسلة على قدر من التوتر والتشويق، الأمر الذي تصبح فيه الحبكة أقرب إلى تقنية سيناريو المسلسل التلفزيوني، ما أن يطوي فيه المشاهد صفحة شخصية ما، حتى تستلمه شخصية جديدة تبز حكايتها الحكاية التي تسبقها. الأسرار تشارك السارد بطولته،والأسرار تتغذى عادة من مصدرين : الجنس والثروة. وفي هذه الرواية هناك فن صناعة الجنس او صناعة الحب الذي يعادل البيع في سوق الرقيق، والجنس المثلي الذي يعادل الاغتصاب، وهناك الثروة والنعيم ومجالس الأنس والحدائق الغنّاء والمسابح، وكلها تظهر ملوثة ومشوهة بالعنف والاغتصاب. تلك هي المفارقة او قاعدة اللعبة الروائية في بناء الشخصية السلبية، فما بين لحظة دخول البطل إلى القصر، لحين ما خر في الجامع بين المصلين باكيا وطالبا الغفران، هناك مسافة جد قصيرة هي الزمن المعنوي الذي شيدت عليه أركان السرد،ويتوزع بين ثابت تبدأ وتنتهي فيه الرواية، ويقوم على ايقاع الوصول إلى توبة البطل، ومتحرك يمضي به نحو الكشف عن نوع الخطيئة وأسبابها،ومن هذا الإيقاع تتفتق الحوادث والشخصيات. ولعل المتوالية التي تتكرر فيها الحوادث لتغدو مسرودات تغذي حبكة التشويق في الرواية،لا تدع القارئ يكتشف توقعات حدوثها. فالراوي يلعب في حجزه الوقائع عن قارئه، على الثيمة الفاوستية التي يتحرك فيها القدر والشيطان على مسافة واحدة من الأبطال. الضمير أو الوازع الأخلاقي الذي يلوح بعيداً في منلوج البطل، يجعل من مصيره ومصير الشخصيات الأخرى رهن الانتقام، انتقام القدر الذي يتدخل كي يجعل الشخصيات تدفع أثمان خطاياها.لعل فهمنا لهذا النازع يساعدنا على معاينة البنية العامة التي تشكل خطاب الرواية، وتقوم على مكّون الثقافة الدينية التي تتردد بين ثنايا القص. فالمؤلف على خلاف رواياته السابقة التي صور فيها الخطاب الديني في تحوله إلى سلطة قامعة، يستخدم الدين ملاذاً يجد عبره البطل ما يساعده على الوصول إلى الخطوة الأولى نحو سلامه الروحي. والنزعة الدينية، التي هي ثقافة المكان في الأساس، تبرز في لغة الرواية وفي مفاصلها الأساسية،ولعل عنوانها " ترمي بشرر" بوابة الدخول الروائي نحو تحديد هويتها، وسنجد صوت المؤذن في الرواية أحد شيفرات الخلاص الذي يخترق روح البطل في الكثير من مفاصل الرواية: " ما أن شرعنا بالتعذيب حتى ارتفع أذان صلاة العشاء صوتاً ندياً يصلنا مخترقاً دواخلنا ناخراً الطبقة السفلى منها، ويرتد، يعاود سكب مفرداته بتنغيم آسر، فينتفض جسدانا، ترتعد فرائصنا، نستغيث فلا نغاث، فنعجن بكاء مكلوماً في أعماقنا لننهي لحظات العذاب المتبادلة.". للنساء في هذه الرواية الحصة الأكبر من الأسرار،بل هن مصيدة التشويق في الرواية،ومحركات الأقدار في هذا " البوح القذر" كما يصف السارد سرده في مقدمة الرواية المهداة إلى البطلة الأولى التي قتلها والدها غسلا للعار،بعد أن رفضت البوح باسم من تورط معها،وهو البطل نفسه. رواية تراجيدية مثل هذه تحتاج إلى تدخل القدر في كشف أسرار الأبطال، وعلى طريقة الملك أوديب، يكتشف البطل في النهاية ان المرأة المفضلة عند سيد القصر،والتي انتقمت من صديقه، وحاول هو الانتقام عبرها من السيد، لم تكن سوى أخته من أم أخرى، ولدت وشبت وهو بعيد عن بيتهم. وهكذا تغدو النساء في الرواية بيت القصيد في تلك المأساة البوليسية المشوقة. يفرد السارد صفحات من خاتمته كي يشرح سيرة كل محظية دخلت القصر،ويرفق بها صورا لنجمات لا تظهر منهن سوى العيون. لعل عبده خال السخي في استطراداته، أساء إلى روايته في هذا الفاصل المجاني الذي لعب فيه على فكرة الإيحاء بواقعية القصص. ولكنه بقي إلى النهاية مالكاً زمام قصه، على رغم ما حفل به من مواقف ميلودرامية، ومشاعر متوهجة واستطرادات تحتاج إلى الكثير من التشذيب والاختصار كي لا يجفل القارئ من حجم الرواية المرهق الذي تجاوز الأربعمئة صفحة.