أثارت مشاركة الأمير الأردني الحسن بن طلال في مؤتمر العسكريين العراقيين المعارضين في لندن في تموز يوليو الماضي، هواجس البعض ومخيلات آخرين، بشأن "أطماع" اردنية في العراق. وكما هو معلوم فقد أعلن الأمير الحسن، كذلك أعلنت الحكومة الأردنية، أن هذه المشاركة شخصية. أما العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني فتحدث بلغة واضحة ليس فقط عن عدم علاقة بلاده بهذه الخطوة، بل اعتبرها "خطأ فادحاً". وواقع الحال أنه باستثناء اتصالات أجراها الأردن مع وجوه في المعارضة العراقية ، بين عامي 1995 و 1996، فإن الأردن يعتبر من أقل دول الإقليم اتصالاً بهذه المعارضة، ولم تشهد مؤتمرات وملتقيات المعارضة في غير عاصمة عربية وأجنبية، حضوراً اردنياً يذكر. والاتصالات التي جرت قبل ست أو سبع سنوات، كانت في المقام الأول من قبيل التعرف الى ظاهرة سياسية قائمة، ومحاولة الوقوف على مكوناتها واتجاهاتها، علماً بأن عمان كانت قبل ذلك التاريخ وبعده متهمة بعلاقات وثيقة مع بغداد، رغم التوضيحات الدائمة لطبيعة هذه العلاقة القائمة على أبعاد اقتصادية و"حياتية"، والمستندة إلى وجوب تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بالعراق، وصولاً إلى رفع تدريجي للحصار عنه. وبسبب الوضع الخاص للحالة العراقية، فقد سعى الأردن إلى الحفاظ على علاقات طبيعية مع بغداد من جهة، وإلى انفتاح محدود على بعض مكونات المعارضة العراقية. وهي السياسة التي اتبعتها في ما بعد، دول عربية عديدة معنية بالشأن العراقي، في انفتاحها على الحكم في بغداد وعلى المعارضة في آن، وفي خطوات محسوبة من هذا البلد أو ذاك. وإذ جرى الحديث في منابر إعلامية عربية عن أطماع أردنية و"هاشمية" في العراق، فالصحيح أن الأردن رفض أن يكون منطلقاَ لأي هجوم على هذا البلد. وقد تمحورت زيارة العاهل الأردني الأخيرة للولايات المتحدة ومعها لفرنسا والمملكة المتحدة، للتحذير من كارثة ستتعرض لها المنطقة، إذا ما تحقق هذا الهجوم الأميركي، وأية محاولة للربط بين الوقائع والافتراضات، لا بد أن تنتهي للاستخلاص، بأن الأطماع المتخيلة كانت تملي مباركة ضربة عسكرية على العراق، وذلك لفتح الطريق أمام بلوغ الأطماع، والحال أن الملك عبد الله الثاني أعلن معارضته لمثل هذه الضربة أمام مضيفه الرئيس بوش في البيت الأبيض، كما على شاشة "سي إن إن"، وكل منبر إعلامي أو أكاديمي. وإذا كان هناك من يرغب في العودة إلى الوراء، فإن قيام الاتحاد الهاشمي بين الأردنوالعراق، نشأ في أجواء الحرب العربية الباردة، ومع التحضيرات لقيام الوحدة المصرية السورية. وكان من حظ تلك الوحدة وذلك الاتحاد، أن انتهيا بعد عمر قصير، بحركة عسكرية في كل من دمشقوبغداد، وتحسنت بعدئذ العلاقات بين القاهرةوعمان. ولم تطعن عمان في الحكم الذي نشأ في بغداد بعد 14 تموز يوليو 1958، بمقدار ما كانت تعبر عن صدمتها البالغة، من دموية ذلك الانقلاب الذي أودى برموز العائلة الهاشمية بصورة وحشية غير مسبوقة، ولعل هذا الأمر قابل للفهم من دون عناء. عدا ذلك، لم يعمد الأردن إلى بناء محور مع العراق، مقارنة بمشاريع وحدوية واتحادية مع هذا البلد عقدتها دول مشرقية أخرى. وذلك باستثناء مشروع "مجلس التعاون العربي" الذي ضم مصر والعراق واليمن والأردن في العام 1987، وقد جاء تشكيل هذا المجلس مع شيوع القناعات بأهمية التعاون الاقتصادي ولم تكن لهذا المجلس أية أبعاد سياسية وحدوية أو اتحادية. وإن كان للحرب العراقية - الإيرانية آنذاك انعكاساتها، وكانت بغداد تتمتع آنذاك بتأييد عربي واسع النطاق وشبه جماعي. كما كانت لتجربة مجلس التعاون الخليجي أصداؤها في الدفع بهذه الفكرة نحو التنفيذ، اذ كانت للمجلس الخليجي آفاقه وطموحاته الاقتصادية المعلنة. وعلى الغرار نفسه كانت نشأة الاتحاد المغاربي، وقد وضع الاجتياح العراقي للكويت حداً لتجربة مجلس التعاون الرباعي. وفي محاولة لتوسيع الدائرة قليلاً، فإن من المفيد الإشارة إلى الخطوة الأردنية بفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية في العام 1987، والاعتراف في العام التالي بإعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر. لقد حمل ذلك الإجراء معاني سياسية غير خافية، رغم التشابك الأردني - الفلسطيني جغرافياً وتاريخياً وسياسياً واقتصادياً وسكانياً. وأول هذه المعاني أن الأردن لا ينظر إلى أي حضور سياسي له، خارج الحدود الدولية المملكة الأردنية الهاشمية. ورغم بروز أصوات فلسطينية وأردنية ليست وفيرة، تأخذ على قرار فك الارتباط "عدم دستوريته" إلا أن الأردن تمسك وما زال بهذا القرار. والمقصود بالملاحظة أنه إذا كان للأردن أن "يطمع" بالنفوذ والحضور في بلد آخر، فقد كان هذا "المنطق" يقضي بأن يلتفت نحو الغرب مثلاً، حيث الوشائج والمصالح الحيوية شديدة التشابك والعمق، لا أن ينظر إلى أي اتجاه آخر، بما في ذلك نحو الشرق، حيث العراق الشاسع بتركيبته المعقدة وموقعه الاستراتيجي الحساس، وثروته النفطية التي تجعله محط أنظار أطراف إقليمية ودولية عديدة. وإذا كان الأردن قد صاغ هذه التوجهات في أواخر الثمانينات، وإلى نهاية عهد الملك الحسين الراحل، رغم ما تمتع به الملك الراحل من حضور وشبكة علاقات هائلة، فإن الأمر يصبح مفهوماً أكثر فأكثر مع انتقال الحكم إلى نجله الأكبر الملك عبد الله الثاني، الذي لا يستند بحكم اختلاف التجربة لا إلى تركة الحرب الباردة على المستوى الكوني، إلى ميراث الحرب العربية الباردة باستقطاباتها وانقساماتها و"أطماعها". وإن كان ورث عن والده الراحل هاجس حماية الكيان والنظام السياسي، الذي تحده خمس دول كبيرة بجميع المقاييس، على ما هناك من اختلاف في النظر إلى الدولة العبرية عن دول شقيقة مجاورة. هذا الوعي المرهف بالكيان، ك "كيان نهائي" حسب التعبير اللبناني، غير القابل للتجزئة والامتداد، هو ما يوجه العقل السياسي الأردني في هذا العهد بالذات، وفي هذه المرحلة على الخصوص، وهو ما يجعل الحديث عن أطماع في العراق، نسج خيال أو ترهات، إذ أن ما يشغل الأردن في واقع الأمر هو درء أية انعكاسات سلبية للمستقبل العراقي، وليس السعي إلى مواطئ قدم أو مواطن نفوذ وحضور. ويسع المرء هنا ان يشير إلى أن الأردن لم يقم باتصالات تذكر مع أركان المعارضة العراقية القومية واليسارية والشيعية، وهي الألوان الغالبة على المعارضة. وأبعد من ذلك فإن هناك إدراكاً للحجم المتواضع الذي تتمتع به "الحركة الملكية الدستورية"، رغم أن عراقيين كثر من عامة الناس وصفوتهم، باتوا يترحمون علناً على أيام الملكية مقارنة بما تلاها. أما زعيم تلك الحركة "الشريف علي بن الحسين" فتكفي الإشارة إلى أنه لا ينظر اليه في الأردن كهاشمي ، مما يغني عن أي تعليق. * كاتب اردني.