في تاريخنا العربي ملك ضليل هو الشاعر امرؤ القيس، ولد في نجد وتوفي في أنقرة وأمّر على فلسطين من دون ان يحكم، ولكنه مات بحسرته بطلب الحكم والسلطان. وإن كان في تاريخنا الحديث ملك حالم آخر - رغم الاختلاف الكبير عن امرىء القيس - فهو الحسين بن طلال الذي اجتمع على وداعه الأخير حشد من القادة شكلوا قمة عالمية من الشرق والغرب، أعداء وأصدقاء، وقد كان حلمه الدائم ان يبقي رأس مملكته الصحراوية التي ورثها عن جده فوق المياه السياسية المتحركة في الشرق الأوسط، فأخذ ينقل بندقيته من كتف الى كتف وفي بعض الأحيان بسرعة تذهل المتابع وتثير دهشة النظارة. إذا لخصنا تاريخ الملك والمملكة فإنه تاريخ مرتبط بفلسطين في معظم فصوله، فالضفة الغربية من نهر الأردن، والسلام أو الحرب مع اسرائيل، طبعت معظم تاريخ الحسين والمملكة الأردنية، بطابع مأسوي هو في حقيقته جزء من تاريخ العرب الحديث ذي البيئة الصراعية. فالمعادلة الصعبة التي ورثها الملك هي ان فلسطين - البلد العربي، قد احتلت أو استوطنت - بصرف النظر عن المفاهيم. وجزء كبير من العرب وكل الفلسطينيين يعتقدون ان هذه الأرض لا بدّ ان تحرر، ولقرب الأردن الجغرافي وتاريخ الأسرة الهاشمية السياسي من "القضية" فإن هذا التحرير بهواجسه وتجلياته العديدة قد ناء بكلكله على الأردن وعلى الحكم فيها. وفي الوقت نفسه عرف الملك حسين وربما جده من قبله، ان "التحرير" بمصادر عربية هي على ما هي عليه من ضعف وما تتوافر عليه من امكانات، أمر "غير واقعي" على أقل تقدير، وغير ممكن في المدى القصير أيضاً. أمام هذه المعادلة المستحيلة وجد فرع الأسرة الهاشمية في الأردن نفسه - منذ ان نشأت الدولة - بين فكي الرحى. فمن ناحية محاربة عدو شرس يتحكم في ترسانة عسكرية وتقنية متقدمة، ومن ناحية أخرى صيحات شعبية غير واعية ولا تتوقف تطالب بپ"الثأر"، فأصبحت المأساة مركبة. الجد الملك عبدالله يقضي برصاص متحمس فلسطيني في أحد أيام القيظ في شهر تموز يوليو سنة 1951، في المسجد الأقصى بالقدس، بينما حفيده - الملك حسين - بجانبه. ولم ينقذ الشاب الغر من الموت غير شارة معدنية علقها فوق ثيابه العسكرية اصطدمت بها رصاصة ثم انحرفت. المصادر الاسرائيلية - وبعض المصادر العربية وكل المصادر الغربية - تقول ان الملك عبدالله كان قد ذهب الى المسجد الأقصى لسببين سياسيين: الأول انه في الأسابيع القليلة التي سبقت قدومه، تم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح، فأراد الملك ان يبدي شجاعة وتحدياً للقوى المناهضة، أما السبب الثاني فهو ان الملك كان يعد للقاء مع الجانب الاسرائيلي لمفاوضات صعبة وسرية لم تكن هي الأولى ولا الأخيرة في تاريخ المملكة المضطرب. الأردن من جهة أخرى في توسطه بين عرب الشمال وعرب الجنوب يعاني معاناة صامتة احياناً، وصارخة أحياناً، فالطرفان يعتقدان ان كلاً منهما له حصة فيها، وهي حصة طبيعية وغير مفصولة جغرافياً، فهو من جهة جزء من الشام تحتدم في شارعه شعارات الثورة والتغيير. وفي الوقت نفسه هو جزء من الجزيرة يحكم من أسرة تربطها ببقية أسر الجنوب وصالاً وخصالاً. كما أن الأردن قد توسط بين عرب "الثورة" وشعارات تحرير فلسطين، وعرب العقلانية التي وجدت أن تحرير فلسطين يحتاج الى شيء أكثر وأكبر من الكلام والشعارات. ووجد الأردن الكيان الذي تشكل، أنه يريد ان يبقى للكل وبعيداً عن الكل في الوقت نفسه، وهي معادلة جغرافية صعبة تضاف الى المعادلة السياسية الصعبة. أمام هاتين المعادلتين نقل الملك حسين إبان فترة حكمه الطويلة البندقية من كتف الى أخرى، بمهارة بعض الوقت وبعجالة في الوقت الآخر، بل إن البعض يرى ان الملك كان "ملكاً في تغيير التحالفات"، فكان عليه ان يتعايش مع المتشددين الفلسطينيين، والمتشددين الاسلاميين، ومع سياسة اسرائيل المتقلبة، وان يكون دائماً قريباً من القنوات السرية الغربية والأميركية على وجه التحديد. ولعل هذين النقل والتنقل السريعين وتغيير التحالفات تظهر في موقعتين من أبرز مواقع العرب الحديثة: حرب حزيران، واحتلال العراق للكويت. عشية حرب حزيران لم يكن الملك حسين ولا الأردن ضمن المعادلة العربية التي كان يقودها آنذاك جمال عبدالناصر، بل كان خارجها تماماً. ولأن الحرب دقت طبولها وثارت ثائرة الشارع العربي، وقبل اسبوع من نشوب الحرب امتطى الملك حسين طائرته الكارافيل مصطحباً رئيس وزرائه سعد جمعة، وفي معظم وقت الرحلة من عمان الى القاهرة قاد الملك الطائرة، ربما ليشغل نفسه عن التفكير في الأزمة، ووصل الى القاهرة لابساً لباسه العسكري ومن حزامه يتدلى مسدس اميركي ماركة "بيريتا"، ونقل عن عبدالناصر بعد ذلك انه قال مازحاً للملك: ترى ماذا لو اعتقلناك؟ عبارة تنم عن عمق الهوة السياسية التي قفز فوقها الملك في أيام قليلة. بقية القصة معروفة لجيلنا الذي فوجئ بصورة الملك الذي كان لأيام محط الشتائم المبتذلة من المحطات الاذاعية يعانق الزعيم الكبير، ودخل الأردن حرب 67 وسلاحه محدود، وقيادة جيشه الصغير عقد لواؤها لقائد من مصر دخل الحرب بعد ستة أيام من تسلمه القيادة وهو يكاد لا يعرف حتى أسماء معاونيه، ويتلقى أوامره من خلال لاسلكي مفتوح على آذان العدو. لقد خاض الملك الحرب كما قال بعد ذلك بسبب خوفه من الشارع وليس بسبب ايمانه بتحقيق نصر مؤزر، عزاؤه انه لم يقد الجيش المحارب، فكان أن فقد نصف ملكه حفاظاً على النصف الآخر. في فترة احتلال العراق للكويت نقل الملك من جديد البندقية من مكان الى آخر، فقد كان انضمامه لمجلس التعاون العربي محل استغراب بسبب علاقته الحميمة التي تطورت في حقبة الثمانينات مع الجزيرة العربية، ولعل دافعه كان السعي الى عزل سورية من جهة، ودخول اليمن من جهة أخرى، وكان واضحاً ان قائد ذلك المحور هو الرئيس العراقي صدام حسين. وفي الأيام القليلة السابقة للاحتلال واللاحقة له بدا للمراقبين ان الملك حسين يلعب دوراً كبيراً في الأزمة، خصوصاً عندما كلفه الرئيس حسني مبارك الذهاب الى بغداد ومفاتحة صدام حسين ان ينسحب من الكويت قبل عقد قمة رباعية. عاد الملك ولم يوصل الرسالة، وهنا من جديد تبرز اشكالية الجوار السياسي والدفاع عن "القضية" من جهة، كما تبرز فكرة الحفاظ على الكيان الأردني من جهة اخرى. وإبان تصاعد الأزمة صرح الملك مستجيباً للرأي العام الغالب آنذاك: ان مسألة أسلحة الدمار الشامل والمشكلة الفلسطينية متشابكتان، ولقد أغضب ذلك الموقف ليس أبناء الجزيرة ومصر، بل حتى حلفاءه الغربيين، وقد اعتذر الرئيس بوش عن لقاء الملك حسين بعد ذلك أكثر من مرة. لعل أوضح تلخيص بارد لهذا التنقل السياسي في حياة الملك الحسين يتمثل في ان القوى التي ناهضها الملك في عقر داره سنة 1970 في حرب هي أقرب الى الحرب الأهلية اجتمعت لمناصرته عام 1990. في الحالتين، حرب حزيران واحتلال العراق للكويت، قام الملك حسين بالمناورة السياسية نفسها تقريباً، وهي المراهنة على حدث لا يملك بالضرورة كل أوراقه، ولكنه لتمرير أزمة عاتية لا ينظر الى الثمن المؤجل بل الى الثمن العاجل. لم تكن كل المواقف السياسية مدروسة بل كان العديد منها متخذاً لسبب عاطفي موقت، إلا ان الملك حسين في كل ذلك اكتشف - في اطار البيئة الصراعية العربية - أهمية الدولة الوسيطة، "الأردن في هذه الحال" للنظام العربي. والسؤال الكبير الذي يواجه الأردن اليوم هو: هل يمكن للمدرسة التي استنّها الملك الراحل، والحالم أبداً باستقرار المملكة، ان تستمر لتحقيق الهدف نفسه؟! لعل قراءة حقيقية في ما تم في الجنازة تنأى بنا عن بعض المكنون، إذ ان المعزين جاؤوا بجانب قصد تقديم العزاء لاكتشاف ملامح المرحلة الجديدة التي تغيرت معطياتها تماماً، فالطاقم الذي يدير كفة الحكم في الأردن اليوم هو طاقم جديد سواء الملك عبدالله أو ولي عهده الشاب. كما ان المعطيات العربية والدولية التي سمحت بهامش المناورة الكبير للملك الراحل لم تعد متوافرة، ولعل رمزية انسحاب الرئيس الروسي من الجنازة قبل ان يقدم واجب العزاء أو يلقي نظرة أخيرة على نعش الراحل تقدم لنا تصوراً ولو رمزياً، للقوى الغاربة، والقوى الفاعلة في المستقبل. في المرحلة المقبلة لا يستطيع الأردن ان يلعب الشيء وضده في الوقت نفسه. أو يغير التحالفات، تلك السياسة الناجحة نسبياً في السابق، فأمامه خيارات محدودة بين معسكرات عدة تضيق الخناق على فرص المناورة، فهو والأمر كذلك لا بد ان يتجه لتدعيم السلام. ولا بد انه والأمر كذلك يتجه لنبذ الانحياز الى الديكتاتورية، فإن كان خيار السلام يحتاج الى جهد اسرائيلي وعالمي فإن خيار البعد عن الديكتاتورية هو خيار أردني في معظمه، لذا فإن الخطوة المتوقعة من القيادة الأردنية الجديدة هي الوقوف مع الشركاء الاستراتيجيين، وبوضوح أكثر. لقد بعث أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح برقية عزاء الى الملك عبدالله، كما قام ولي العهد الكويتي ورئيس وزرائها الشيخ سعد العبدالله بزيارة للعزاء وفتح باب جديد للتعاون بين الكويتوالأردن، إذ ان هذا التعاون لا بد ان يستقر على مبادئ ثابتة لا تقبل المناورة. كما قامت المملكة العربية السعودية على لسان الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله بتعضيد الحكم الجديد، كل ذلك ضمن محاولة جادة لضمان استقرار الأردن في المستقبل وتحصينه ضد تحويل البندقية من كتف الى أخرى تحت ضغط معطيات الشعارات الحماسية، فما كان يحلم به الملك الراحل قد تحقق وهو وجود الدولة الأردنية، والتحدي هو الحفاظ عليها. * كاتب كويتي.