أمور كثيرة يمكن قولها عن ملك الاردن الراحل، حسين: عن شخصه وحياته واطواره، وعن سياسته وبلده ومهارته وسط ظروف بالغة الصعوبة وقليلة الامكانات. وعنوان السيرة الشعبية التي وضعها مؤخراً رونالد دالاس، وصدرت عن "بروفايل بوكس"، ترسم هذه الظروف بالرمز والاستعارة: "حياة على الحافّة". بيد ان احد ثوابت السيرة الحسينية، وهو الثابت الاشد قرباً من الحافة، كان العلاقة بسورية والتي لم يفعل الصلف الاسرائيلي غير تعقيدها واعتصارها وتضييق الهوامش التي تتحرك فيها. وبين الهاشميين وسورية قصة حب وكراهية تبدأ بوصول فيصل بن الحسين الى دمشق، ومن ثم اطاحته عن عرشها وتحول سورية الى نظام جمهوري. بعد ذاك ظهرت مشاريع الأمير، ثم الملك، عبدالله لتوحيد "سورية الكبرى" في ظله. وكانت "عاصمة الأمويين" بدورها وفيةً للثورة التي قادها فيصل، من دون الوفاء لفيصل "الرجعي" نفسه. كما كانت لديها خطتها للوحدة، عربيةً سُمّيت أم سورية، الا انها وحدة لا تهادن عبدالله والذين يماثلونه. لقد كان ثمة أردنٌ ما في الوعي السوري، وسورية ما في الوعي الاردني: والوعي الاول بدا "تقدمياً" نظراً الى جمهوريته وتحالفه، منذ اواسط الخمسينات، مع مصر الناصرية والاتحاد السوفياتي وقوله بالاشتراكية ونهوضه على العسكر. أما الوعي الآخر فبدا "رجعياً" ليس فقط بسبب تركيبة نظامه وتحالفاته الخارجية، بل ايضاً لتعاطيه مع موضوع مُلحّ ومباشر هو: دمج الكتلة الفلسطينية في وطنية جديدة وابنية سياسية ودولتية. ولما كان هذا الموضوع عرضة لأيد عربية كثيرة تتوسّله، فقد خاطبت الراديكالية السورية في تلك الكتلة حس "التحرير" و"العودة". وبمعنى ما يمكن القول ان النظامين تبادلا تخويف بعضهما بعضاً، تبعاً لحملهما، كليهما، لفظيةً قومية ودمجية يخافها الثاني. فحين تمكن الهاشميون من الاردنوالعراق معاً، خافت سورية، وحين وجد الاردن نفسه في مواجهة سورية، بلا اي حليف يسنده، خافها وتوجّس. وعلى اختلاف الدعوتين القوميتين، فانهما بلغتا ذروتهما في 1958: عامها اقامت دمشق وحدتها مع القاهرة التي نجمت عنها "جمهورية عربية متحدة" انهارت في 1961، وأنشأت عمانوبغداد الهاشميتان "الاتحاد الهاشمي" الذي عمّر أشهرا فقط اذ قضى عليه انقلاب عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف. لكن القومية لم تكن عنصر التخويف الوحيد. فسورية والاردن ربما كانا بين اكثر بلدان الارض وظيفيةً: الاولى يصعب فهمها من دون "التصدي"، وما المواصفات التي اسبغت عليها، من "القلب النابض" الى "القلعة"، غير شرح لهذه الوظيفة حيال الغرب واسرائيل. والثاني يصعب فهمه من دون "السلام" "الاستقرار" في المنطقة. والمقصود بهما ايضاً الغرب واسرائيل. واذا ما بدت الوظيفتان متعارضتين بالتعريف، فانهما جعلتا العلاقات بين البلدين فقيرة وضحلة المعاني، اي بالغة السياسية الجانحة دائماً الى العنف. فمن النادر ان يقع المراقب على ما هو اقتصادي او تنموي او تعليمي في هذه العلاقات الثنائية بين البلدين - الوظيفتين. والحال انه منذ ان اهتم عبدالله، في 1948، بضم الضفة الغربية، استبد به الخوف من ان تفضي حركة الجيشين المصري والسوري الى تبديد رغبته. وابان اتصالاته السرية باسرائيل، وفي موازاة البحث عن صيغة هدنة، هددت سورية باغلاق حدودها مع الاردن اعتراضاً على عقد معاهدة سلام ثنائية. واذا ما مضت الدولة العبرية في احراج مؤسس الامارة، فالمملكة، المعتدل والمسالم، فان حفيده لم يكن اوفر حظاً منه. فمع مجزرة قبية في 1953، تبين ان الاسرائيليين ينوون اخضاع حسين، في سنته الاولى، لامتحان شديد الصعوبة. وبدورها سادت الاردنَ قناعةٌ مفادها ان سورية وراء العمليات الفدائية التي انجرّت المذبحة عنها، لاحراج المليك الشاب واضعافه وربما اطاحته. وهذا ما لم يحصل، لكن الضربة ومترتباتها كانت من اسباب ابعاد الليبرالي والاصلاحي فوزي الملقي عن رئاسة الحكومة والاتيان بالتقليدي توفيق ابو الهدى الموروث عن عبدالله. وبدا مذّاك ان الاردن لن يُمنح اي فترة سماحٍ ينأى فيها قليلاً عن فم الحوت وينصرف الى مسائل الاصلاح والتقدم. وفي اواسط الخمسينات، نجم عن "الصراع على سورية"، صراع معها ومع مصر الناصرية، حليفتها، لاجبار عمان على الغاء المعاهدة مع بريطانيا، ولمنعها من الانضمام الى حلف بغداد، علماً ان بريطانيا هي التي كانت تزوّد الاردن المساعدات الاقتصادية الاساسية لديمومته. وفعلاً اعفي غلوب باشا، مؤسس الجيش الاردني او "الفيلق العربي"، من مهامه نزولاً عند الضغط الخارجي والداخلي، فحظيت الخطوة هذه بالامتداح حتى من دمشق فضلا عن القاهرة. وما لبث العدوان الثلاثي ان انشب مخالبه، وسط اجماع عربي على تأييد مصر وانقسام غربي حول السياسة البريطانية - الفرنسية - الاسرائىلية. واستفاد الاردن الضعيف من هذا الانقسام، ومن تمايز الموقف الاميركي تحديداً، ليؤكد انتسابه الى ذاك الاجماع. والأمر، في النهاية، لم يكن سهلاً: ففي الاجتماعات التي مهدت للعمليات العسكرية، حاول بن غوريون حمل البريطانيين على الغاء المعاهدة مع عمان، واعتبار الاولوية لحملة السويس، الشيء الذي فُسّر برغبة ربما كانت لديه في ضم الضفة الغربية بالاستفادة من دخان المعركة مع مصر. وفيما رفضت بريطانيا العرض الاسرائيلي، اخبر ايزنهاور نجله، في وقت لاحق، انه كان مستعدا لاستخدام القوة في ما لو اقدمت اسرائيل على عمل عدائي ما، وهو كان مستعدا لذلك حتى لو كان المقابل خسارته الانتخابات. وفيما راحت القوات الاسرائيلية تتقدم عبر صحراء النقب، صدرت الاوامر للجيشين الاردني والسوري بالتعبئة بقيادة عبدالحكيم عامر لانجاز "عملية بيسان". فالبلدان، ومعهما مصر، وقعت معاهدة عسكرية في تشرين الاول اكتوبر 1956، هادفةً من وراء العملية هذه الى قص اسرائيل نصفين بخط يمتد من الضفة الغربية الى المتوسط. يومذاك اراد الملك، الشاب والمتحمس، ان يهاجم فورا، لكن رئيس الاركان الذي انقلب عليه بعد فترة قصيرة، علي ابو نوار، هو من اخّر العملية، طالبا مزيدا من الوقت لانجاز الهدف الذي يتعدى قص اسرائيل الى محاصرة القدس الغربية اليهودية. اما رئيس حكومته وقتذاك، القومي العربي سليمان نابلسي، فلم يرغب في مهاجمة اسرائيل اصلا. وفي وقت لاحق عُدّ هذا الموقف اهم انجازات النابلسي في الحفاظ على الاردن. وبدوره اخبر السفير البريطاني تشارلز ديوك الاردنيين بان النقطة الاساسية في بروتوكول سيفر الفرنسي البريطاني الاسرائيلي، هي التالية: اذا ما هاجم الاردن اسرائيل، فان المعاهدة الانكلو - اردنية تغدو لاغية، وعلى عمان اذّاك ان تواجه تل ابيب بمفردها. وفي النهاية كان عبدالناصر نفسه من ابرق الى حسين طالبا ابقاء الاردن خارج المعمعة. وهكذا ابتعدت عمان عن الحرب وتجنبت الخضّات. في هذا المناخ المعبّأ قومياً، حصلت انتخابات 1956 فحقق الراديكاليون انتصارات ملحوظة قطفها النابلسي. بيد ان ابو نوار قام بمحاولته الانقلابية الفاشلة فيما هرب بعض ضباطه الى سورية. وراحت الازمات تتلاحق: فاللواء السوري الذي يقوده ضابط مصري، والذي تمركز في شمال الاردن عملا بالمعاهدة، ما لبث ان زحف، مع انقلاب ابو نوار، جنوبا وحاصر اربد. ووسط ضغط شارعي مارسته الاحزاب المطالبة بوحدة مع مصر وسورية، عجز سياسي ذو "ادعاء متواضع" هو حسين فخري الخالدي عن ادامة حكومته، فخلفته حكومة "قوية" وقمعية رأسها ابراهيم هاشم. وفي ايار مايو 1957 وافقت دمشق على طلب حسين سحب قواتها، اذ بدا ان الحرب ستكون البديل الوحيد من ذلك. الا ان قطعات من الجيش السوري انتظرت على الحدود كأنها تفترض حدثا ما وتتوقعه. وبدا التوازن متعادلاً جداً في 1958، سنة اعلان الوحدتين: الاردن محمي بالعراق، وسورية محمية بمصر. لكن الملكية الهاشمية اطيحت، في 14 تموز يوليو في العراق، وتوقع مدير السي. آي. إي. الن دالاس ان يسقط حسين في اية لحظة "حتماً". هكذا لم تعد دمشق في موقع الخوف من الهاشميين، بل غدا الاردن وحيداً في خوفه من سورية التي كانت، منذ ازمة القوات، فرضت حصارا تجاريا شمل بطبيعة الحال كميات النفط التي تحملها الى الاردن حافلات من لبنان تمر باراضيها. وغدا الحصار هذا خانقا بعد سقوط الملكية العراقية. في تلك اللحظة التي شُطب فيها الدور العراقي، اصبح التوازن محكوماً بمعادلة مخيفة للاردنيين: بلد صغير في مواجهة بلد اكبر. واذا كان الصغير يبني دولة ويدمج مجموعتين سكانيتين تربط بينهما علاقات غير ودية تقليدياً، فالكبير يحمل برنامجاً معلناً يقوم على تفكيك الكيانات والدول، متوهّماً دمجاً في كلٍ اكبر. ذاك ان ما حصل بقيام "العربية المتحدة" وانهيار "الاتحاد الهاشمي" ليس مجرد حصار لبلد على يد بلد آخر، بل ايضاً حصار لوظيفة على يد الوظيفة الاخرى، الراديكالية والنضالية. وكانت المفارقة الناجمة عن تضافر البعدين القومي والوظيفي - الايديولوجي مثيرة للسخرية اثارتها للدم. فقد صُوّرت المهمة المتواضعة، اي الدمج "الوطني" للاردنيين والفلسطينيين، مهمة خيانية بالقياس الى المهمة القومية التي تقضي بدمج البلدان بعد احالتها واحالة مراكزها الداخلية جثثاً ومِزَقاً. ولم تتأخر محاولات الانقلابات العسكرية والاغتيالات المرعية من "العربية المتحدة" انطلاقاً من دمشق: فكانت حادثة 10 تشرين الثاني نوفمبر 1958 لاغتيال حسين في الجو، او لاجباره على الهبوط وأسره. وقد ذهبت احدى الروايات الى ان سورية كانت استقدمت 200 معارض اردني يقيمون في عاصمتها، الى مطارها الدولي كيما "يرحّبوا" بملكهم الأسير. ولئن نجح حسين في التخلص من طائرتي الميغ اللتين طاردتاه، فان رئيس حكومته هزّاع المجالي ما لبث ان قضى بانفجار كاد يقضي فيه الملك نفسه. ولم يشعر الاردن بالراحة الا مع الانفصال السوري في 28 ايلول سبتمبر 1961، حيث فكرت عمان بالتدخل عسكريا في دمشق، الا ان نجاح الانقلاب وامتناع مصر عن التدخل الغيا تلك الحاجة. وخرج عبدالناصر جريحاً ومهيض الجناح، فيما نكّست الراديكالية العربية اعلامها، متيحةً لعمان ان تسترخي وتُجري، في تشرين الثاني نوفمبر 1962، انتخاباتها الانزه حتى ذاك الحين. بيد ان الراحة لم تطل. فانقلابا 1963 البعثيان في العراق وسورية تعاقبا سريعاً، وبوشرت محادثات "الوحدة الثلاثية" مع مصر. وقبل ان تنجلي المحادثات عن فشل وعنف ومساخر شهيرة، احس الاردنيون بان نظامهم، وربما بلدهم، على كف عفريت. ولئن حاول حسين تلطيف سياسته حيال المحور الراديكالي الجديد، فإن المظاهرات الوحدوية، بما فيها احرق العلم الاردني في جامعة عمّان، غلّبت مجدداً خيار القمع والتشدد. واذ انحسر التحدي الناصري - البعثي بخلاف طرفيه، فان تحدي منظمة التحرير التي اسست في 1964، لم تكن مواجهته اسهل. هكذا اندلعت المظاهرات والمواجهات وتصاعدت لتنهك النظام فعلاً، وتهدد النسيج الوطني الاردني بالتمزيق. واستمر التوتر في العلاقة حتى 1967. لكن النظام الشديد التطرف الذي نشأ في 23 شباط فبراير 1966 في دمشق، اعطى المزيد من الزخم للمواجهات في طورها الاخير: وكان من هذا القبيل قيام عمان، في 21 ايار 1967، بقطع علاقاتها الديبلوماسية مع سورية على اثر انفجار شاحنة محملة ديناميت على نقطة حدودية اردنية، ما تسبّب في مصرع 21 مواطناً. ودخل البعث الحاكم في سياسة من الممانعة الشاملة حيال الغرب والمحافظين العرب، كما حيال الاسرائيليين. وعبر نهجه هذا معطوفاً على تشجيعه "حرب الشعب الطويلة الأمد" كان لدمشق، بقصد منها او من دون قصد، فضل غير مسبوق: فقد وضعت عبدالناصر وجهاً لوجه مع لفظياته ومواقفه الشفوية في اطلاق الحالة الجماهير واستجابتها. وكان هذا يحصل للمرة الاولى منذ 1952. لكن في 24 ايار، وحين بدا وقوع الحرب حتمياً، لم يتأخر حسين عن المشاركة في التعبئة العربية العامة، سامحاً بدخول قوات عراقية وسعودية الى الاردن. واتصل بعبدالناصر مصالحاً اياه بعدما كاد النزاع اليمني يدمر علاقتهما كلياً، ثم توجه الى القاهرة مصحوبا برئيس حكومته سعد جمعة وبقيادات جيشه، مقترحاً معاهدة عسكرية تم التوصل اليها فعلاً، وموافقا على وضع الجيش الاردني تحت امرة مصرية. لقد ارعبه ان تخوض مصر وسورية الحرب وتخسران فيما ينجو الاردن بنفسه. وربما لاح له شبح جده عبدالله بالمعنى الذي يثقل فيه اموات شكسبير على الاحياء. وربما تخوف من تهم "الخيانة" التي ستعود، من غير شك، الى الصدارة. لكن المؤكد ان خُواف الجماهير هو ما دفعه الى حرب كان الامتناع عن خوضها لينقذ الضفة الغربية واهلها من الاحتلال. لقد كان ذلك عبثاً محضاً، الا انه عبث غني الدروس. فحصول حسين على بركة "الجماهير العربية" كانت كِلفته فلكية: دخول الحرب ب22 طائرة هوكر هنتر وبجيش من 20 الفا، "لانجاز" خسارة الضفة الغربية. وبعد كل حساب، لماذا تدخل دولة حربا وهي تعرف سلفا انها ستخسرها، كما كان يعرف؟ هل الجواب عن هذا السؤال كامن في العقل ام في الغرائز التي يتاح لها ان تصبغ السياسة بصبغتها؟ غير ان ملك الاردن توقع ان يبدأ جيشه الحرب دفاعياً بمشاغلة الاسرائيليين على الحدود فلا يتجهون الى مصر وسورية، في انتظار ان يصله الدعم المصري والسوري، والعربي على عمومه، فينتقل الى الهجوم اذّاك. وقد بذلت الولاياتالمتحدة جهدا محموما لاقناعه بعدم التورط، وحثه ليفي اشكول على ان لا يدخل. وفي عمان نفسها حضّه على ذلك خاله ناصر بن جميل ووصفي التل الذي طلب اليه ان يؤجل الانخراط الى ما بعد حصوله على الغطاء الجوي العربي الموعود. وكان التل، الذكي والمجرّب، يدرك ان القوات المصرية الأهم لم يُستكمل سحبها من اليمن بعد. وبانجلاء الغبار، استخلص حسين قلة الثقة بحلفاء المعركة. ولم يدع فرصة تمر، في العلن او في السر، لابداء الرغبة في التسوية، او العمل لذلك. وهذا ما كان يتعارض تماماً مع السياسة السورية، لا سيما وقد خسرت دمشق الجولان وغدت تنظر بعدوانية الى كل من ينوي فصل "مساره" عن "مسارها". بيد ان الجهد الديبلوماسي للملك الاردني بات مُكمّلاً لجهد الرئيس المصري. ذاك ان عبدالناصر الذي احترقت اصابعه، وافق، مثله مثل حسين، على مبادرة روجرز وقرار مجلس الامن 242 اللذين رفضتهما اسرائيل وسورية ومنظمة التحرير. ووسط تلبّد هذه الغيوم، انفجرت الحرب الاهلية الاردنية - الفلسطينية في ايلول سبتمبر 1970. يومها لم يتأخر نيكسون في الاعلان انه اذا ما تدخلت سورية او العراق فان اميركا او اسرائيل هما الوحيدتان القادرتان على التدخل والانقاذ. ولئن شكل كلام الرئيس الاميركي اشارة واضحة موجهة الى السوفيات وحلفائهم المحليين، ودليلاً على اندراج هذه الازمة "الاقليمية" في صلب الحرب الباردة ومتنها، احتفظت دمشق بقراءتها الخاصة. ففي 20 ايلول سبتمبر تقدم الجيش السوري من الشمال، من الرمثا، لدعم الفدائيين. ومرة اخرى استُخدمت القوات المتروكة في الاردن بموجب حرب "قومية" سابقة، وقوداً لتأجيج حرب "أهلية" جديدة. وبالفعل احتل الجنود السوريون اربد، ورغم اصابات جدية اوقعها بهم الجيش الاردني، الاقل عددا وعتادا، اكملوا تحركهم جنوبا نحو عمان، قبل ان يتجمع الاردنيون ويستعيدون المبادرة بالهجوم. وكانت المفاجأة الصاعقة ان التوغل البري غير مصحوب باي حماية جوية، وهي الحقيقة التي فُهم معناها لاحقاً مع انقشاع الخلاف بين وزير الدفاع حافظ الاسد وباقي رفاقه الاكثر تطرفاً في القيادة القطرية للبعث. على اية حال، ففي 22 ايلول باشر السوريون انسحابهم تاركين وراءهم دباباتهم وخردة اسلحتهم، فيما كانت الطائرات الاسرائيلية تحلق فوق الجولان وتحشد قوات برية على الحدود مع الاردن. وما هي الا اسابيع حتى اطيح النظام الاشد تصلباً الذي عرفته سورية في تاريخها الحديث. وتحسنت العلاقات العربية نسبيا في مناخ الاستعداد الساداتي لبناء نوع من التضامن خيضت به حرب تشرين أكتوبر. والحال ان الاردن لم يبد حماسة للحرب هذه المرة، خوفا من تكرار حرب 1967 التي حُسمت على جبهته بيومين فقط. لقد اراد السلام مرضوضاً بالذاكرة المُرّة، فما ان ازف العام 1972 حتى اطلق اقتراحه باقامة مملكة متحدة تضم الضفة الغربية وقطاع غزة بعد اعادتهما. والاقتراح هذا انطوى ضمنا على فكرة سلام ثنائي رفضته منظمة التحرير، وكان طبيعيا ان ترفض اقتراحا تجنّب اعطاءها اي شيء. لكن معظم البلدان العربية رفضته ايضاً، لا سيما سورية التي جددت حملتها الاعلامية على عمان، متخوّفةً من انبعاث دور اردني. كذلك فعلت مصر التي شاءت تركيز الاهتمام على استراتيجيتها وحدها. وتوجه محمود رياض بصفته الامين العام للجامعة العربية الى العاصمة الاردنية، طالبا من الملك دخول حرب تشرين. ولئن رُفض الطلب هذا، فقد قُبل نشر القوات الاردنية على الحدود منعاً لالتفاف الاسرائيليين على السوريين عبر اراضي الاردن، وبالفعل نفّذت عمان ما وعدت به، فحصل اشتباكان صغيران مع الاسرائيليين في سياق الدعم الانتقائي والمحسوب للمجهود الحربي السوري. على انه قبل الحرب التقى الزعماء الثلاثة، السادات والاسد وحسين، لكن الاولين لم يكشفا للثالث توقيت بدء الهجوم. وجاءت النتائج العسكرية لتشرين تبرر مخاوف هذا الثالث الذي لم يعرف الاسرار ولا شارك في القتال. الا ان التسوية التي انفتحت للمحاربين، ورعاها هنري كسينجر، هددته بالاستبعاد لأنه لم يحارب. وسريعاً ما عبّر السادات عن ميله الى سلام منفرد، وبدا، لوهلة، ان الاسد يخوّل حسين التصرف نيابة عنه، فيفتتح مؤتمراً يضم الرئيس المصري وتكون مهمته انتزاع توقيع منه بعدم الذهاب منفرداً. وفيما الجميع حائرون ومرتبكون توجه السادات الى القدس. ومن جهته ابدى ملك الاردن كثيراً من التشكك والامتعاض، فحين حاول كارتر والسادات اغراءه بالمشاركة كممثل للفلسطينيين، التفافاً على ما كانت قررته قمة الرباط العربية في 1974، لم يفعل. وسط هذا التخبط العربي، كانت دمشق، عشية الاجتياح الاسرائيلي للبنان، في ذروة نفوذها الاقليمي: فهي تمسك بمعظم القرارين الفلسطيني واللبناني المحجوزين والمحجور عليهما. ولم ينشأ هذا عن عبقرية خاصة بقدر ما كان حصيلة انجراف العراق في حربه المدمّرة مع ايران، وخروج مصر من الساحة العربية بفعل كمب ديفيد. فاذا صحّت النظرية الشهيرة التي صاغها باتريك سيل حول "الصراع على سورية" بين مصر والعراق، فإن النظرية كفّت مذّاك عن العمل، اذ صارت دمشق، في غياب القاهرة وبغداد، وفي ظل الامساك بلبنان والفلسطينيين، هي التي تُطلق المحاور لا التي تنجذب الى محاور الآخرين. مع هذا دل الاجتياح على هشاشة الهندسات السياسية والاستراتيجية العربية، وربما صوتيّتها. فكل شيء بدا في لحظة جبالاً من كرتون ومزاعم. وهذه المرارة كان لها ان جعلت الاحتفاظ ب"الورقتين" اللبنانية والفلسطينية أمراً حاسماً وحيوياً في نظر دمشق، لا سيما وان ترحيل القيادة العرفاتية ومقاتليها الى تونس عامل مساعد. بعد ذاك بدا تقارب حسين وياسر عرفات ناقوس خطر على احتكار قرار المشرق، فكُلّف التصدي له ابو موسى، عامل دمشق الفلسطيني في لبنان. وفعلاً غدا الانشقاق كاملاً يطول المواقف جميعاً، فوقف حسين وعرفات مع العراق ومسيحيي لبنان والمعارضين السوريين، ووقف الاسد مع ايران. ووجّه عرفات، الجريح بحرب طرابلس، ضربة اخرى لسورية بتوجهه الى القاهرة، ما اوحى ببدايات العودة المصرية الى الحظيرة العربية، فيما انعقد، في 1984، المجلس الوطني الفلسطيني في عمان. وفي شباط فبراير 1985 التقى حسين وعرفات في عمان وكان ثالثهما الغائب جورج شولتس. واتفق الطرفان، في النهاية، على ان يتحركا معاً نحو انجاز "تسوية سلمية وعادلة في الشرق الاوسط" مع تعزيز العلاقات "الخاصة" بين الشعبين. بيد ان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير رفضت هذا التوجه، ثم تراجع عرفات نفسه عن الذهاب بعيدا، وتولى الاسرائيليون في عهد شامير اجهاض ما امكنهم اجهاضه من تحرك اردني. ومن ناحية ثانية كانت اعمال التفجير والارهاب والعبوات تفتك بالعاصمة الاردنية. واذا ادى تدهور العلاقة مع منظمة التحرير الى تقارب اردني - سوري صاحب التهيئة للقمة العربية في عمان اواخر 1987، فان التقارب هذا لم يعمّر طويلاً. فمع ابتداء عملية السلام من حول خطة شولتس، التي عارضتها القدسودمشق، ظهر ان الامور متجهة مجددا الى التوتر. ففي مدريد حضرت دمشق على مضض، فيما سرّت عمان بالغطاء الذي منحها اياه تركيب الوفد الاردني - الفلسطيني، فضلا عن تزكية النظرية الاردنية في السلام. ومع انخراط عمان في التسوية، ولا سيما حين توجه الملك الى التعزية بضحايا الدقامسة في اسرائيل، انحدرت العلاقات الى درك ليس غريبا عن تاريخها. وقبل هذا كان الاختلاف قائماً حيال العراق الذي ساهمت دمشق، بطريقتها، في قوات التحالف الدولي ضده، فيما تحفظت عمان عن الحرب عليه بقصد تحرير الكويت. أليس الانجذاب التقليدي للاردن حيال العراق نزعةً قديمة تمليها رغبة الحد من "الأخوة" السورية؟ أوليس في هذا الانجذاب من الحقائق الجغرافية - السياسية ما يتعدى نظاماً بعينه وفترة بعينها، وما يبهّت كل رطانة قومية تحلّق في معزل عن الجغرافيا وعن السياسة في آن؟ * كاتب ومعلّق لبناني.