لست في وارد العودة إلى الحديث عن النصر والهزيمة بين العرب وإسرائيل في ظل الظروف التي نعيشها حيث ينقسم العرب إلى فريقين أحدهما يروج للهزيمة وينتهج اسلوب التيئيس معتبراً أن الصراع قد انتهى لغير مصلحتنا، والآخر يعيش الأوهام ويتحدث عنها من منطلقات الثقة التامة، مؤكداً أن الممارسات والأساليب المتبعة هي السبيل الوحيد للنصر. وبين هذين الفريقين اللذين يشكلان الغالبية ويتقاسمان الرأي العام، يبرز فريق صغير آخر أشرت إليه في مقال سباق، ينظر إلى الوضع الراهن من منطلقات واقعية وموضوعية من دون مبالغة ولا شطط، معتبراً أن المأزق كبير، والنفق مظلم، والعرب في حال لا يحسدون عليها، ولكن من الظلم تعميم ثقافة الهزيمة والخوف، إذ استثنينا الأيام والأحداث بأن إسرائيل لم تنتصر... وان العرب لم يهزموا على رغم كل ما نشهده من انتكاسات وهوان وضعف وتشرذم. ولكن كيف السبيل للخروج من النفق المظلم؟ وكيف يمكن للعرب ايجاد مخرج لمأزقهم الراهن؟ ومتى سيتحرك العرب قيادات وشعوباً لينفضوا خبار التخاذل ويمنعوا تكريس انتصار إسرائيل وتثبيت هزيمتهم؟ الواقعية تدفعنا للبعد عن الشعارات والأوهام في ظل الظروف الراهنة، فالنصر غير متاح الآن لأسباب كثيرة معروفة للقاصي والداني، فإذا كانت السياسة هي فن الممكن، فإن الحرب والصراع هما أيضاً يدخلان في إطار فن الممكن... والممكن الآن هو حسن إدارة الأزمة وتجميع أوراق القوة، ومنع الانهيارات، وسد الثغرات التي ينفذ منها العدو وسحب الذرائع والحجج التي يستغلها لتنفيذ أغراضه ومخططاته الخبيثة ويسوقها في العالم لمنع الدول القادرة ولا سيما الولاياتالمتحدة من التدخل وبالتالي تأمين حيادها. فالمطلوب الآن تأمين الحد الأدنى من الاجماع العربي على ثوابت ومبادئ تحصن الصمود وتكسب الوقت لتجنب اثار العاصفة الناجمة عن تفجيرات 11/9 في نيويورك وواشنطن وتمرير تداعيات الزلزال الذي هز كيان العالم وغير قواعد اللعبة الدولية ووضع مفاهيم جديدة للعلاقات الدولية والشرعية الدولية والأمن وتعريف العنف والإرهاب والمقاومة وحق الشعوب في الاستقلال والتحرير. وبعيداً عن المزايدات والعواطف لا بد من الاعتراف، ليس بعجز النظام العربي العام وعدم قدرته على التعامل مع المتغيرات في النظام العالمي الجديد وتفهمه لأبعادها، لا سيما بعد زلزال التفجيرات، بل بفشله التام في معظم توجهاته السياسية والإعلامية والاقتصادية والمالية والدولية وفي حسن قراءته لهذه المتغيرات ومواجهتها باستراتيجيات متحركة وفاعلة تكسر حال الجمود وتبتعد عن الأساليب التقليدية والبالية التي أكل عليها الدهر وشرب ولم تعد تنفع مع المستجدات، علماً بأنها لم تنجح حتى في ظل النظام العالمي القديم. ونقاط الضعف والتأزم كثيرة أذكر منها على سبيل المثال: غياب التنسيق والعمل المشترك بعدما تخلينا على عبارة التضامن العربي العاطفية. وغياب الرغبة في تغليب المصلحة القومية العليا على المصالح الضيقة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية بسبب انعدام الثقة واتساع الهوة وضيق الافق وسيطرة الخلافات والحزازات والحساسيات وعدم الاتفاق على الحدود الدنيا من القضايا الحيوية والنقاط الجوهرية. عدم القدرة على بناء المؤسسات الراسخة داخل الأوطان العربية وفي إطار العمل العربي المشترك مثل جامعة الدول العربية والهيئات المنبثقة عنها... فالعالم كله في قطاعيه العام والخاص يبنى على أساس عقلية المؤسسات، ونحن ما زلنا نعيش وفق عقلية الأفراد ومزاجاتهم والتفرد بقراراتهم في كل مجال من مجالات الحياة والعمل السياسي وحتى في مجالات الحرب والسلم! استمرار العمل بعقلية الخمسينات والستينات وعواطفها وشعاراتها، واجواء الحرب الباردة وموازين القوى بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وعدم التمعن في المتغيرات الكبرى في النظام العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الاشتراكي وتفرد الولاياتالمتحدة بالهيمنة على العالم من الآن وحتى "اشعار آخر" وسيطرة اللوبي الصهيوني على مقادير الامور في الولاياتالمتحدة وروسيا وتغلغل اسرائيل في معظم دول العالم ولا سيما التي كانت حليفة او صديقة للعرب. عدم ادراك ابعاد الزلزال الآخر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والذي كرس المتغيرات واعطى الولاياتالمتحدة الضوء الاخضر في تكريس هيمنتها وسيطرتها على العالم ومده الى مناطق جديدة في آسيا الوسطى وغيرها، وعنيت به زلزال التفجيرات في نيويورك وواشنطن الذي أنزل ضربة موجعة بالعرب والمسلمين وبخاصة الشعب الفلسطيني وقضيته بعدما التقطت اسرائيل الكرة ومعها الضوء الأخضر، لتنفيذ مخططاتها ونسف مسيرة السلام وتدمير البنية التحتية للدولة الفلسطينية المنتظرة. بروز صراع مدمر بين عقليتين او تيارين احدهما يروج للسلام والادعاء بأنه لم يعد هناك اي امل للعرب في اي مجال بحيث لم يعد امامه سوى استجداء الرحمة و"الستر" والامان من الولاياتالمتحدة واسرائيل، والثاني يروج لمنطق العنف بغض النظر عن العواقب والنتائج ويعتبره السبيل الوحيد للخروج من الحالة الراهنة وتركيع العدو وارهاب الولاياتالمتحدة. ويغيب عن ذهن هذين التيارين معطيات المنطق وضرورات الكر والفر وواقع المنطقة المتغير حيث يمكن لحدث صغير مفاجئ ان يقلب الآية ويعيد ترتيب الاوراق والتوازنات وفق مقولة: "المنطقة تبقى دائماً حبلى بالاحداث". استمرار سياسات التعتيم وتبادل "التكاذب" على مستوى القمة والقاعدة من جهة، وعودة الاساليب الغوغائية بوجه جديد متطور عبر الفضائيات العربية بما نشهده من ردح وشتائم واتهامات وتضليل واثارة للغرائز والفتن وتمرير مخططات العدو لشق الصفوف وتعميق شرخ الخلافات وتيئيس المواطن العادي وتكفيره بكل ما يؤمن به من قيم ومبادئ ومسلمات. في المقابل نجد استهتاراً بالنهج العالمي الجديد وممارسات تدعم ما يضغط لتحقيقه الآخرون ولا سيما الولاياتالمتحدة واسرائيل وهو رفض كل ما هو قائم واشاعة اجواء الفوضى في العالم العربي وتسليم زمام التغيير للاجنبي… فما يجري اليوم خطير ولا يمكن السكوت عنه لان التمادي فيه يعني ان اي امر من امورنا سيصبح بيد الولاياتالمتحدة ومعها اسرائيل… وهذا ناجم عن عقم عقلية وسياسة من خطط تفجيرات نيويورك وواشنطن ونفذها وكأنه قد تآمر للوصول الى هذه النتيجة… وتكفي الاشارة الى الجدل القائم في الولاياتالمتحدة الآن حول عدم اتخاذ أي اجراء لمنع وقوع التفجيرات على رغم التقارير والمعلومات الاستخباراتية التي تحذر منها وتدل على المشاركين فيها وأماكن اقامتهم لالتقاط اشارات حول الغايات الحقيقية والشبهات التي قيط بها. ومن تابع مجريات الأمور والتطورات والتحركات التي جرت فور وقوع التفجيرات يبدأ بإمساك خيوط اخرى لا سيما بعد الكشف عن خطة متكاملة كانت موجودة على مكتب الرئيس جورج بوش في البيت الابيض قبل الزلزال… لتوقيعها كمرسوم رئاسي… تم تنفيذها بعده في افغانستان وآسيا الوسطى والعالم… والمنطقة بالذات. ومن ابرز هذه النتائج ما جرى للشعب الفلسطيني على يد شارون وما ملكته الولاياتالمتحدة من حق في يدها بتغيير اي نظام ومعاقبة أية دولة تدعي انها تدخل في تعريف "الحرب ضد الارهاب" حسب مقاييسها واعتباراتها ومصالحها ونظرة اسرائيل اليها ومخططاتها، بل ان الأمر وصل الى حد المطالبة على رغم كل ما يقال عن الديموقراطية وحرية الرأي، بتعديل مناهج التعليم وفرض خطاب اعلامي محدد في الاعلام العربي يتفق والمفاهيم الاميركية والاسرائيلية المغلوطة. يضاف الى كل ذلك الهيمنة على الاقتصاد العربي عن طريق العولمة تارة وبواسطة صندوق النقد والبنك الدوليين تارة اخرى، وبعد التفجيرات، التدخل في كل حركة مالية او اقتصادية تشمل حتى الارصدة الشخصية والتحويلات وجمع التبرعات ليس على صعيد الدول فحسب، بل على صعيد الافراد ايضاً بالحجب والحصار والتجميد والمصادرة. هذه الصورة البانورامية القاتمة تستدعي وقفة عربية جادة للتخلي عن السلبيات وتغيير العقليات السائدة التي اشرت اليها والتعامل مع المتغيرات بعقلانية وحكمة وحسم وسرعة من اجل ايجاد سبيل آمن وسليم لمعالجة المأزق الراهن… والخروج من النفق المظلم. ولا شك ان المبادرة العربية للسلام التي اطلقها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي شكلت بداية جيدة على رغم محاولات طمسها لرمي الكرة الى ملعب الآخرين، تبعتها القمة المصرية السعودية السورية في شرم الشيخ وبيانها الذي قطع الطريق على المزاعم الاميركية والاسرائيلية بمعارضة العنف بأشكاله كافة وفق مبدأ "إلحق الكذاب لوراء الباب" ولا بد من خطوات تالية لحل المشاكل العالقة واعادة تجميع اوراق القوة العربية وتأمين الحد المطلوب من التضامن لمواجهة المتغيرات ودعم الشعب الفلسطيني حتى يتمكن من الصمود في وجه الهجمة الصهيونية الشرسة التي تستهدف سلبه آخر ما يملكه من حقوق وأراض وبنى تحتية وانجازات مع التركيز على الولاياتالمتحدة ليس بحرق الاعلام والتظاهر والتفجيرات، بل بالضغوط السياسية والاقتصادية والتوجه الاعلامي والسياسي لحملها على التراجع عن انحيازها لاسرائيل واقناع الرأي العام الاميركي بأن مصالحه مع العرب وليس مع اسرائيل على عكس ما يروج له "صهاينة" الكونغرس والاعلام الخاضع لسيطرة النفوذ الصهيوني، وان أمنه لن يتحقق الا عندما يتم اقامة سلام عادل وشامل في الشرق الاوسط فمعركة العرب الحقيقية هي في الولاياتالمتحدة قبل اسرائيل فإذا كسبوها هناك كسروا حلقات الحصار الصهيوني. ولكي يتم تحقيق ذلك "لا بد من فترة لالتقاط الانفاس واعادة اطلاق المبادرة العربية للسلام ومنح الشعب الفلسطيني فرصة للملمة جراحه وتجميع قواه لمساعدته على الصمود… وهذا يستدعي عدم تقديم الذرائع لاسرائيل وتجميد أي عمل يضر بالقضية ويعرض المدنيين الفلسطينيين للاخطار ويعمق الهوة بين ابناء الشعب الواحد ويجره الى حرب اهلية هو في غنى عنها، وخلال فترة التقاط الانفاس هذه يمكن الالتفات للبناء والتركيز على الاصلاح والانتخابات وتصحيح مسار السلطة الوطنية وضرب الفساد واقامة ادارة قوية ونظيفة قادرة على تجاوز المحنة الأليمة التي يمر بها الفلسطينيون. ولا حاجة للتأكيد من جديد ان شارون وعصابته يتغذون بالتطرف ويستغلون اية ذريعة على رغم انهم لا يحتاجونها لتنفيذ مخططاتهم الاجرامية، وان فترة التقاط الانفاس يمكن ايضاً ان تحرجهم وتفقدهم مهمتهم التي جاءوا من اجلها وهي تدمير البنيان الفلسطيني واستغلال الفرصة الذهبية المتاحة لهم لفرض شروطهم وهيمنتهم على العرب. * كاتب عربي.