مرة أخرى تدخل منطقة الشرق الأوسط في نفق مظلم لا تبدو في الأفق مؤشرات على تلمس نهاياته ولا تلوح بارقة أمل أو قبس من نور يدل على مخرج من المأزق الراهن وسط تساؤلات مقلقة وملحّة عن المستقبل واحتمالات وقوع اضطرابات وحروب جديدة تشمل جبهات عدة وتطاول مختلف الأطراف العربية والإقليمية والدولية في تداعياتها وآثارها وانعكاساتها. ومرة أخرى يقف العرب على قارعة محطة الانتظار وعلة إدمان عادة ردود الفعل وتقمص دور المفعول به، لا الفاعل، على رغم قرارات القمة العربية الأخيرة في الدوحة والدعوات المتكررة للمصالحة العربية - العربية والفلسطينية - الفلسطينية، ولتوحيد الصف والمواقف ورأب الصدع ومواجهة الأخطار المرتقبة والتعامل مع المواقف الملتبسة والمترددة للولايات المتحدة والغرب وروسيا والانجراف الصهيوني المتصاعد نحو التطرف والتعنت وتغليب نهج العداء وإثارة الكراهية والأحقاد ضد كل ما هو عربي في فلسطين وخارجها. والمأزق الأكبر سيكون من نصيب الرئيس الأميركي باراك أوباما حامل أوزار العهد البوشي وهمومه وأزماته، من أفغانستان الى العراق ومن فلسطين الى لبنان مروراً بالعلاقات مع أوروبا والصين وروسيا وكوريا الشمالية ودول أميركا اللاتينية، مع التركيز الشديد على ذيول الأزمة المالية الخانقة التي تقض مضاجع الرئيس الشاب وتهدد مصيره وهو ما زال يحبو في أول عهده بالرئاسة الأميركية. كل هذه القضايا تهم العرب وتؤثر في مجريات حياتهم اليومية وأوضاعهم الحرجة، لكن ما يهمنا هنا هو قضية السلام في الشرق الأوسط والقضية المركزية والمحورية: قضية فلسطين ومستقبل الشعب الفلسطيني وتحرير القدس الشريف. ومأزق أوباما في هذا المجال الحيوي أكبر من مأزق العرب لأنهم اعتادوا على الانتظار وصبروا على التقلبات والحروب والأزمات والمناورات الإسرائيلية، لا سيما في مجال لعبة الانتخابات المبكرة وتغيير الحكومات بحسب مقاسات التطورات ودرجة حرارة المزاج الدولي والضغوط الأميركية الخجولة. مأزق أوباما يتجلى في تقاطع شهر عسله مع شهر عسل بنيامين نتانياهو الذي بدأ عهده الثاني المشؤوم بتشكيل حكومة ليكودية يمينية صهيونية متطرفة وعنصرية مطعّمة بقناع زائف يرتديه ايهود باراك زعيم حزب العمل المتهافت على شهوة السلطة والحكم على حساب كرامته ووحدة حزبه، والمدعي زوراً وبهتاناً انه يلبس لبوس الحمل الوديع والساعي الى تحقيق السلام واستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين. والتقاطع بين شهري العسل يُدخل المنطقة في متاهات الضياع بين يد أوباما الممدودة للعرب والمسلمين وخنجر نتانياهو المسموم الذي تعهد بمواصلة المؤامرة الصهيونية التوسعية التي ينتظر ان تتوسع وتتشعب وتتسارع لمحو الهوية الفلسطينية وتهديد القدس بالكامل وضرب أي أمل بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ودفن الحدود الدنيا المتمثلة في اتفاقات اوسلو وما تبعها من تفاهمات هزيلة مثل خريطة الطريق ومسيرة اللجنة الرباعية المشلولة والمكبلة اليدين والقدمين والمكتومة الأنفاس على رغم ادعاء تمثيلها للأمم المتحدةوالولاياتالمتحدة وأوروبا وآسيا. والسؤال المطروح الآن هو كيف سيتصرف أوباما لنزع الخنجر المسموم وترويض الوحش الصهيوني المنفلت من عقاله والضغط على اسرائيل لحملها على التراجع عن تعنتها والرضوخ لرغبات السلام والتجاوب مع الإرادة العربية المتمثلة بمبادرة السلام الموحدة، إذ أكد العرب في قمتهم انها لن تبقى مطروحة الى الأبد وليكن بعدها ما يكون في حال عدم التعامل معها اميركياً وأوروبياً بجدية واحترام وعدم الاعتراف بها كاملة من جانب اسرائيل. مخاطر كبرى تنتظر المنطقة نتيجة أي تأخير أو مماطلة في السعي نحو السلام الحقيقي الشامل والعادل، لأن الحكومة الإسرائيلية المطعمة بالسموم والحاقدة تحمل معها "أجندة" جاهزة للتصعيد على مختلف الصعد والإجهاز على القضية الفلسطينية، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: * تقزيم المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية وتحويلها عن مسارها لتركز على الشأن الاقتصادي والحياتي للفلسطينيين ورفض الدخول في عملية البحث عن حلول للقضايا الرئيسة، بما فيها تلك المتفق عليها في أوسلو. * الإصرار على رفض قيام الدولة الفلسطينية المستقلة والتركيز على تثبيت الكانتونات ومحاصرتها وقضم المزيد من أراضي الضفة الغربيةالمحتلة وتحطيم دور السلطة الفلسطينية وصولاً الى دفنها مع اتفاقات اوسلو وما تبعها. * المضي في إقامة المستوطنات الجديدة وتوسيع المستعمرات القائمة على امتداد اكثر من ثلث أراضي الضفة وتدعيم جدار العار ومصادرة المزيد من الأراضي العربية. * الإسراع في تهويد القدس وتدمير الأحياء العربية وإقامة مستعمرات جديدة تحيط بالمدينة المقدسة من كل جوانبها ورفض أي بحث في إعادة القدس العربية أو أي جزء منها وتشديد الإجراءات ضد أهلها العرب لحملهم على الهجرة واليأس وصولاً الى المخطط الصهيوني الجهنمي لهدم المسجد الأقصى المبارك وإقامة الهيكل المزعوم في وقت لاحق. * استئناف الحرب على غزة بعد تشديد الحصار على القطاع باستخدام ذرائع مثل سلطة «حماس» او استغلال حدث ما بإطلاق صواريخ أو تفجير ضخم لإكمال المهمة القذرة التي فشلت في تحقيقها حكومة «كديما» برئاسة ايهود أولمرت. * التهيئة لاستفزاز عرب فلسطينالمحتلة عام 1948، أي ما يسمى "عرب الداخل" لتنفيذ سياسة "الترانسفير"، أو الترحيل الإجباري، بعد تضييق الإجراءات ضدهم، وهذا يستدعي الحيطة والحذر وضبط النفس لمنع اسرائيل من استغلال أي حدث او استخدام ذريعة ما لتنفيذ مآربها العنصرية القذرة وفقاً لما يجهر به ليبرمان الحاقد شريك نتانياهو الرئيس في حكومته المتطرفة. * تصعيد المواجهة مع لبنان، ولا سيما مع "حزب الله"، لحمله على استفزاز إسرائيل أو القيام بتحرك ما لشن حرب جديدة يجرى الإعداد لها منذ حرب تموز (يوليو) 2006. * الإصرار على عدم الانسحاب من مرتفعات الجولان السورية المحتلة مع إمكان المماطلة والمناورة وادعاء الرغبة في استئناف المفاوضات التي بدأها أولمرت مع سورية بوساطة تركية أو بإشراف أميركي مباشر. هذه المواقف المتشنجة التي تمثل الخطوط الرئيسة المعلنة والمخفية لحكومة اليمين المتطرف ستُحرج أوباما وتتسبب بأزمات ومشاكل وإحراجات مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وكل جهة عربية أقامت علاقات مع إسرائيل على رغم زعم نتانياهو بأنه يريد استئناف المفاوضات مع سورية والفلسطينيين لأن العبرة في الأفعال لا في الأقوال. إزاء ما تقدم تبقى الأسئلة المطروحة في مختلف الدوائر والدول: هل سيقدم أوباما على تبني موقف حازم وحاسم لردع الوحش الصهيوني؟ وهل هو قادر على ركوب أمواج هذا التحدي التاريخي وتنفيذ تعهداته المتكررة بتحقيق السلام في الشرق الأوسط وتبني حل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية؟ وهل سنشهد مواجهة حقيقية بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وبين الغرب وإسرائيل في حال رفض الدعوات المتكررة لتحريك عجلة السلام؟ لا أحد يملك مفاتيح الأجوبة الناجعة لأننا تعودنا في السابق على مثل هذه الحالات حيث يبدأ التصعيد وتطلق الوعود ويشتد الوعيد ثم نفاجأ بتنازلات وهبوط تدريجي في حدة اللهجة وصولاً الى تبني الموقف الإسرائيلي او التخلي عن كل الوعود والتعهدات. وما زلنا نتذكر ازمة الرئيس بوش الأب مع إسرائيل عندما شارفت العلاقات على القطيعة بعد تصريح وزير خارجيته جيمس بيكر الشهير: "هذا هو رقم هاتفي"، ليتصل به من يتراجع عن موقفه ويقبل بمبادرة السلام المطروحة آنذاك. لكن علينا ألا ننسى أن أوباما ما زال طري العود في بدايات عهده الأول، ويحتاج الى وقت حتى يلتقط أنفاسه، وبعدها يبدأ الحديث عن التهيئة لمعركة التجديد لولاية ثانية، وهي تحتاج الى دعم اللوبي الصهيوني، علماً ان معظم اعضاء الفريق المحيط به وبوزارة الخارجية هم من اليهود أو الصهاينة. كما ان أولويات اوباما التي قد تلهيه عن الالتفات الى الشرق الأوسط كثيرة ومعقدة ومتشعبة تبدأ بالسعي لوقف النزف الناجم عن الأزمة المالية الكبرى والحد من تداعياتها على الاقتصاد الأميركي وتتواصل مع قضايا الانسحاب من العراق وأفغانستان ومواجهة «القاعدة» والإرهاب وترميم العلاقات مع روسيا. هذه العوائق لا تنفي صدقية أوباما ورغباته في تحقيق السلام ومد اليد للحوار مع العرب والمسلمين وفتح صفحة جديدة مع سورية وإيران. وهنا ايضاً مجال آخر للمواجهة مع اسرائيل التي لم تتراجع عن خططها لتشن هجوماً خاطفاً لتدمير المفاعل النووي الإيراني. كما ان هناك من يروج لمقولة أن أوباما سينجح في تجاوز العقبات ونزع صواعق التفجير ومنع نشوب أي حرب جديدة في المنطقة لأسباب عدة من بينها حماية المصالح الأميركية وتجنب الفشل في بدايات عهده وإثبات جديته في تنفيذ وعوده كما تبين في ايام شهر عسله الرئاسي الأولى، إضافة الى قناعة البعض بأن قرار السلام في إسرائيل لا يتخذه إلا الأقوياء المدعومون من المتطرفين انطلاقاً من تجارب كامب ديفيد (مناحيم بيغن الليكودي المتطرف) ومدريد (الإرهابي اسحق شامير) وأوسلو (اسحق رابين المتشدد) وخريطة الطريق (السفاح أرييل شارون)، اما الحروب ضد العرب فقد شنت في معظمها من جانب حكومات حزب العمل وحزب «كديما» في حربي لبنان وغزة، كما ان نتانياهو نفسه كان يفاوض من تحت الطاولة في عهده الأول كما تعهد لوسطاء بإعادة الجولان الى سورية، لكن فضائحه أسقطته تمشياً مع الدوامة المفتعلة في إسقاط الحكومات والدعوة لانتخابات مبكرة كلما وجدت إسرائيل نفسها في مأزق. كل ذلك لا يفيد لأن الترياق لن يأتي من واشنطن ولا من تل أبيب أو موسكو وأي عاصمة أوروبية بل من العرب أنفسهم. ولهذا لا بد من مواقف عربية واضحة وحازمة وإرادة عربية حقيقية بالعمل المشترك لوضع العالم بأسره امام الأمر الواقع والرضوخ لإرادة السلام والاعتراف بحقوق العرب وبصدق نياتهم وبأن المبادرة العربية صادقة لكنها غير قابلة للاختزال او التجزئة وأن عرضها لن يستمر الى ما لا نهاية. فلا حل إلا بوحدة الموقف العربي وترسيخ المصالحات العربية - العربية وإنهاء التشرذم الفلسطيني وحل الخلافات، إضافة الى تجنب تقديم الذرائع لإسرائيل لمواصلة حروبها العبثية وسحب الأوراق من أي جهة تحاول استغلالها لنفض يديها من عملية السلام. الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر والمخاوف من مرحلة مقبلة مثقلة بالهموم والاضطرابات والمؤامرات جدية وحقيقية مثلها مثل كوابيس الحروب التي تخطط لها إسرائيل في عهدها الليكودي العنصري المتطرف. * كاتب عربي