صعود مؤشرات الأسهم اليابانية    أمطار رعدية على اجزاء من مناطق الرياض ومكة وعسير    إعاقة الطلاب السمعية تفوق البصرية    مجلس الأمن يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار وعملية سياسية شاملة في السودان    مرصد حقوقي: المجاعة وشيكة في غزة ومليون طفل يعانون سوء تغذية حاد    رسوم ترمب الجمركية ..التصعيد وسيناريوهات التراجع المحتملة    توتنهام يتغلب على أينتراخت فرانكفورت    النفط يسجل زيادة بأكثر من 3 بالمئة    تشيلسي الإنجليزي يتأهل للمربع الذهبي بدوري المؤتمر الأوروبي    مجلس الأعمال السعودي الأمريكي يحتفي بمرور 30 عامًا على تأسيسه    قتيلان في إطلاق نار في جامعة في فلوريدا    ممتاز الطائرة : الأهلي يواجه الاتحاد .. والابتسام يستضيف الهلال    الغزواني يقود منتخب جازان للفوز بالمركز الأول في ماراثون كأس المدير العام للمناطق    نائب وزير الخارجية يستقبل وكيل وزارة الخارجية الإيرانية    في توثيقٍ بصري لفن النورة الجازانية: المهند النعمان يستعيد ذاكرة البيوت القديمة    «تنمية رأس المال البشري».. تمكين المواطن وتعزيز مهاراته    تقاطعات السرديات المحلية والتأثيرات العالمية    هل أنا إعلامي؟!    فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين    الاستمرار في السكوت    في إشكالية الظالم والمظلوم    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على الخليج    انطلاق مهرجان أفلام السعودية في نسخته ال11 بمركز إثراء    ضبط إثيوبيين في عسير لتهريبهما (44,800) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    وزير الدفاع يلتقي أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني    غدًا.. انطلاق التجارب الحرة لجائزة السعودية الكبرى stc للفورمولا 1 لموسم 2025    القبض على إندونيسي ارتكب عمليات نصب واحتيال بنشره إعلانات حملات حج وهمية ومضللة    أمير القصيم يستقبل مدير فرع الشؤون الإسلامية    نائب أمير منطقة جازان يضع حجر أساسٍ ل 42 مشروعًا تنمويًا    نائب أمير جازان يرأس الاجتماع الرابع للجنة الإشرافية للأمن السيبراني    عبدالعزيز المغترف رئيساً للجنة الوطنية لمصانع الابواب والألمنيوم في اتحاد الغرف السعودية    نائب أمير منطقة جازان يطّلع على تقرير "الميز التنافسية" للمنطقة لعام 2024    أمير القصيم يستقبل منسوبي تجمع القصيم الصحي ويطّلع على التقرير السنوي    معرض اليوم الخليجي للمدن الصحية بالشماسية يشهد حضورا كبيراً    24 ألف مستفيد من خدمات مستشفى الأسياح خلال الربع الأول من 2025    تجمع القصيم الصحي يدشّن خدمة الغسيل الكلوي المستمر (CRRT)    تخريج الدفعة ال22 من طلاب "كاساو" برعاية نائب وزير الحرس الوطني    بتوجيه من القيادة.. وزير الدفاع يصل العاصمة الإيرانية طهران في زيارة رسمية    جامعة الإمام عبدالرحمن وتحفيظ الشرقية يوقعان مذكرة تفاهم    مشاركة كبيرة من عمداء وأمناء المدن الرياض تستضيف أول منتدى لحوار المدن العربية والأوروبية    قطاع ومستشفى تنومة يُنفّذ فعالية "التوعية بشلل الرعاش"    وفاة محمد الفايز.. أول وزير للخدمة المدنية    سهرة فنية في «أوتار الطرب»    1.5 مليون طالب وطالبة يؤدون اختبارات "نافس" الوطنية    مجلس «شموخ وطن» يحتفي بسلامة الغبيشي    معركة الفاشر تقترب وسط تحذيرات من تفاقم الكارثة الإنسانية.. الجيش يتقدم ميدانيا وحكومة حميدتي الموازية تواجه العزلة    الاتحاد الأوروبي يشدد قيود التأشيرات على نهج ترامب    5 جهات حكومية تناقش تعزيز الارتقاء بخدمات ضيوف الرحمن    الأمير سعود بن جلوي يرأس اجتماع المجلس المحلي لتنمية وتطوير جدة    القيادة تعزي ملك ماليزيا في وفاة رئيس الوزراء الأسبق    يوم الأسير الفلسطيني.. قهرٌ خلف القضبان وتعذيب بلا سقف.. 16400 اعتقال و63 شهيدا بسجون الاحتلال منذ بدء العدوان    أنور يعقد قرانه    قيود أمريكية تفرض 5.5 مليارات دولار على NVIDIA    حرب الرسوم الجمركية تهدد بتباطؤ الاقتصاد العالمي    مؤسسة تطوير دارين وتاروت تعقد اجتماعها الثاني    قوات الدعم السريع تعلن حكومة موازية وسط مخاوف دولية من التقسيم    رُهاب الكُتب    سمو أمير منطقة الباحة يتسلّم تقرير أعمال الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللاجئون والمهاجرون إلى أوروبا بعد 11 أيلول - سبتمبر 4 . الحال التي تدفع مهاجرين إلى فرنسا من أبناء الجيل الثالث ... الى الإرهاب
نشر في الحياة يوم 01 - 08 - 2002

انها بيئة أبناء الجيل الثالث من المهاجرين المغاربيين الى فرنسا، أو ما يسمونه "3eme Generation" تلك التي استثمر فيها مسؤولو شبكات الاسلام الجهادي في العاصمة الفرنسية. يجمع من التقتهم "الحياة" في العاصمة الفرنسية على هذه الملاحظة. فالجيل الأول من المهاجرين الى فرنسا كان معظمه من العمال الذين اعتقدوا انهم سيعودون الى بلادهم بعد تحصيل بعض ما يعينهم على تغيير أوضاعهم في بلدهم الذي قدموا منه، ولكن معظمهم بقي في فرنسا بقاء قلقاً وغير نهائي. الجيل الثاني هم أبناء الجيل الأول وورثته وكانوا قرروا الانخراط في الحياة الفرنسية عبر القنوات السياسية والاجتماعية والنقابية، من خلال تأييدهم اليسار مثلاً أو من خلال نشاطاتهم الداعية الى عدم التمييز. الجيل الثالث ثمرة خيبة الجيلين اللذين سبقاه، فهم ليسوا عرباً ومسلمين، لا يجيدون العربية ولا يعرفون عن الاسلام ما يعينهم لقضاء شعيرة واحدة، ولكنهم أيضاً ليسوا فرنسيين، اذ اقفلت في وجوههم السمر الكثير من الأبواب، ولطالما شعروا بعدم اكتمال فرنسيتهم، فصار من السهل، تركيب اسلام عنيف في بنية ذهنية مفككة ومتنازعة.
انها حال زكريا الموسوي وخالد قلقال وبوعلام سعيد. فهؤلاء وغيرهم ممن ظهرت اسماؤهم بعد 11 ايلول سبتمبر وقبله، لا يجيدون العربية وصلتهم بالدين الاسلامي جديدة ومرت باتصال إما حصل في السجن أو في المسجد القريب، ولكنه ليس اسلام أهلهم. ثمة ملاحظات عامة قد تجمع بعضاً من علامات اعضاء الشبكات التي كشفت في أوروبا وفي فرنسا تحديداً. فالكثير من هؤلاء سبق له قبل ان يلتحق بالعمل الجهادي ان حاول الدخول الى المجتمع الفرنسي من هوامشه. ما قالته والدة زكريا الموسوي عنه من انه انقلب الى الاسلام في وقت سريع، وما عرف عن خالد قلقال قبل مقتله لجهة عمله في ناد ليلي، واتبع هذا الكلام بأحاديث عن الصدود التي تلقاها هؤلاء الشبان اثناء امعانهم في الانغماس في هوامش المجتمع الفرنسي، فكانت ردة الى اسلام جديد، تنحصر موضوعاته في قضايا التكفير والاستشهاد والجهاد.
فروقات في معنى الهجرة
في فرنسا الأمر يختلف كثيراً عن بريطانيا. مسألة دمج اللاجئين والمهاجرين وجعلهم جزءاً من الانسجام الثقافي للأمة تبدو امراً ملحاً. في بريطانيا القانون هو الأقوى وهو من تتجه اليه عقول البريطانيين أثناء امتحانها في قضية اللاجئين. أما في فرنسا فالأمة هي التي تحضر في هذا الامتحان. الأمة وليدة الثورة الفرنسية وقيمها. في الحال الأولى بريطانيا لا يشكل هاجس الاندماج عبئاً ويمكنك ان تكون بريطانياً من طريق احترامك القانون. وفي الحال الثانية فرنسا لن تتمكن من انجاز فرنسيتك الا من طريق الاتجاه نحو الانتماء الى القيم التي تمثل الأمة الفرنسية. ستجد نفسك في الحال الثانية فعلاً أمام معضلة الاندماج. فالنقاش الذي يخوضه الفرنسيون ولاجئوهم حول معنى ان تكون مسلماً فرنسياً وأن تميز بين اسلام أوروبي وإسلام في بلادك الأصلية... هذا النقاش يكاد يكون غائباً في بريطانيا لتحل محله معادلات أخرى كالمسؤولية الملقاة على عاتق المهاجرين لجهة احترام القانون وعدم الانزلاق وراء ما يشكل اختراقاً للقسم الذي يؤديه طالب الجنسية.
على رغم شعورهم بالغبن لا ينكر مهاجرو فرنسا ولاجئوها رغبتهم في الاندماج بالمجتمع الفرنسي كما ان الفرنسيين أنفسهم في شكل عام راغبون على ما يبدو في تحويل هؤلاء الى فرنسيين، لكن الرغبتين تتصادمان عند الكثير من التقاطعات، وربما تكون من أشد الأمور تعقيداً تلك العلاقة المستمرة بين مستعمرين سابقين ومستعَمَرين يعيشون اليوم في عاصمة البلد المستعمر، فتتداخل المعاني، وتتراكب العلاقات، فيحمل الرجل الواحد او المرأة الواحدة مشاعر متناقضة تجاه القيمة الواحدة والمعنى الواحد وربما الشخص الواحد.
في فرنسا نحو خمسة ملايين مسلم، وهذا الرقم متفاوت صعوداً ونزولاً، لأن ثمة آلافاً من هؤلاء لا يحملون أوراقاً وبالتالي فهم خارج الاحصاء. وبين هؤلاء نحو 1.3 مليون جزائري ونحو 800 ألف مغربي وعدد أقل بقليل من التونسيين يأتي بعدهم الأتراك فالأفارقة فالمشارقة.
ويظهر ان لتواريخ الهجرة واللجوء صلات أكيدة بما آلت اليه أوضاع الجاليات في فرنسا الآن. الأوضاع التي نتجت من موجات النزوح المغاربي والافريقي الى فرنسا، تبدو صعبة ومعقدة، وهي اثمرت في اكثر من اتجاه. فاللجوء والهجرة بدآ في بداية القرن الفائت، وكان المهاجرون الأوائل محاربون استقدمهم الفرنسيون للمشاركة في الدفاع عن الأمة الفرنسية في حروبها، وخصوصاً في الحربين العالميتين الأولى والثانية. يتحدث أبناء الاجيال الجديدة من المهاجرين عن اجدادهم المهاجرين الأوائل وعن حكايات دفعهم الى الصفوف الأولى في المعارك وعن تلك التسمية التي أطلقت عليهم وهي "لحم المدافع". موجات اللجوء التالية كانت للعمال الذين استقدمتهم الحكومة والشركات، وهم ما يسمى اليوم بالجيل الأول، اذ يبدو ان الجنود المغاربيين في الجيش الفرنسي لم يشكلوا جيلاً كاملاً. والعمال من ابناء الجيل الأول استمروا بعلاقات وطيدة مع بلادهم الأصلية، فراحوا يرسلون جزءاً من عائداتهم الى عائلاتهم الفقيرة في الجزائر والمغرب وتونس. والاقامة الموقتة لهؤلاء تحولت الى دائمة، فانقطع كثيرون منهم عن البلاد التي جاؤوا منها محافظين على وهم عودة واهن. بعضهم تزوج من جديد وأنشأ عائلات في مغترباته وآخرون ارسلوا بطلب عائلاتهم، فتعثر الأمر احياناً ونجح في احيان أخرى، وبين هذين الاحتمالين احتمالات اخرى كقدوم جزء من العائلة وبقاء جزء آخر فيها. كما ان من بين العمال من ابناء الجيل المهاجر الأول من لم يتزوج ولم تتح له ظروف السكن والعمل تأسيس منزل زوجي فبقي مقيماً في منازل الصفيح تلك التي خصصتها الحكومة وإدارات المعامل والمناجم لعمالها. وفي هذه البيئة ووسط هذه الظروف ظهرت الدعوات الأولى لبناء مساجد ومصليات للمهاجرين في مصانعهم وأحيائهم.
الجيل الثاني من المهاجرين هم عائلات الجيل الأول وأبناء العمال وأقاربهم. وانضم ايضاً الى هذه الفئة مهاجرون جدد، حملوا خصائص مختلفة. فأبناء العمال نشأوا في ظل قيم المجتمع الفرنسي، لجهة التعليم واللغة والقوانين، وامتلأ معظمهم قناعة بأن عيشهم في هذا المجتمع يتطلب انخراطاً في مختلف اوجه العيش فيه. فانخرطوا في الاحزاب الفرنسية، وأدوا وظائف اقتصادية واجتماعية تفوق بقليل وظائف آبائهم العمال. ولكن يبدو ان قبول هؤلاء لم يكن كاملاً، وظلوا يشعرون بأن فرنسيتهم لم تكتمل وأن المجتمع الفرنسي لم يدخلهم بعد في ماكينته.
علاقة أبناء هذا الجيل بثقافة أهله ولغته وبلاده ضعفت، وكانت في حال من الصعود والهبوط تبعاً لمدى اندماجهم، ولاحتكاكاتهم بقادمين جدد من بلادهم الأصلية. وتبعاً أيضاً لمدى قبولهم من المجتمع الفرنسي.
الجيل الثالث كان حصيلة هذا السياق من الاضطراب في العلاقة مع بلاد المنشأ وثقافة المنشأ، وأيضاً مع البلد الذي استمر مضيفاً وليس وطناً كاملاً. فجميع ابناء هذا الجيل لا يجيد العربية، وهو نشأ في عائلات متنازعة بين أهواء الاقامة ورغبات التمسك بالثقافة الأولى. تعلم في المدارس الفرنسية، وأحياناً لم يتعلم في ظل ثقافة البطالة والنزف الدراسي في ضواحي المدن الفرنسية. تدني مستوى المعيشة لدى هؤلاء رشحهم للانغماس في اعمال ووظائف دنيا، والعيش في ظل مجتمع حدود التفاوتات واضحة فيه. وفيما كان هذا الجيل يعيش ويكبر كانت موجات هجرة جديدة تصل الى أماكن اقاماته في الضواحي والمدن، وكان المهاجرون الجدد يقيمون في احياء أبناء جلدتهم، ويبثون خصائص ثقافية جديدة لم يحملها اعمامهم معهم في هجراتهم الأولى. فالدول التي تصدر المهاجرين، صار فيها تعليم وبطالة وخضع ابناؤها لأنواع جديدة من التمدين والتسييس والتدين. وما يعقد المشهد اكثر، ان المهاجرين الأوائل لم يرسلوا الى بلادهم الأصلية عائدات عملهم فقط وإنما أيضاً ارسلوا اذواقاً وانماط عيش جديدة، فعاد المهاجرون الجدد وحملوا اضطراب علاقاتهم التي أحدثتها هذه الصيغ القلقة من التبادلات الى مهاجرهم. ففاطمة وهي سيدة مغربية، هي أيضاً واحدة من الذين هاجروا الى فرنسا بعد مراهقة وشباب أول قضته في بلدها المغرب حالمة دائماً في الهرب منه الى فرنسا بعد ان تسربت اليها وهي في بلدها بعض أذواق ذلك المجتمع. وما أصاب فاطمة في هجرتها وأثناء استدعائها لما تبقى لها من شقيقات، قد يمثل نموذجاً يفكر فيه في أحوال اللجوء والنزوح المغاربي الى فرنسا.
ففاطمة ولدت في العام 1958 في الدار البيضاء، وكان والدها حلاقاً رجالياً وناشطاً في حزب الاستقلال بقيادة عبدالله الفاسي القريب من الملك محمد الخامس الذي قاد المقاومة ضد الانتداب الفرنسي للمغرب. اما والدة فاطمة فهي من شمال المغرب وتعرفت الى والدها من طريق سيدة عملت مع الوالد في المقاومة. درست فاطمة في الدار البيضاء حتى البكالوريا. وكانت عائلتها مؤلفة من سبع فتيات وشاب واحد هو ثمرة الانجاب الأخير لأمها. وتقول فاطمة ان عائلتها النواة كانت اكثر انفتاحاً من المجتمع المحيط الشديد المحافظة، اذ كانت الرقابة شديدة على الفتيات اللواتي كن بدورهن شديدات التملص من هذه الرقابة، "فقد كانت فرنسا قريبة وكانت اساليب العيش تأتي من هناك وتصطدم بعيشنا الضيق". بعد صدامات في الحي ومع الشرطة المتدخلة في حياة الفتيات قررت فاطمة السفر الى فرنسا، وبعد إقامات في غرف مستقلة في ضواحي العاصمة الفرنسية، انتقلت للعيش مع صديقها المغربي الذي أصبح زوجها لاحقاً واستمر زواجهما اربع سنوات انجبت خلالها طفلتين، وانفصلا بعدها. وفي هذا الوقت كانت فاطمة باشرت باستقدام شقيقاتها من المغرب. فجاءت أربع منهن الى باريس، وتزوجت الأولى أخيراً من فرنسي وانتقلت للعيش في مدينة بواتيه، والثانية تقيم في احدى ضواحي باريس وتعمل هناك، وثالثة تقيم عندها في المنزل، ورابعة تقيم نصف وقتها عند فاطمة ونصفه الثاني عن صديقها الفرنسي. علماً ان فاطمة تقيم في منزل من تلك المنازل التي تدعم ايجارها البلدية وهي مخصصة للاجئين. ولفاطمة أيضاً شقيقة خامسة جاءت الى فرنسا وتزوجت من لبناني ثم انفصلا، وأعقب انفصالهما، تحجب الشقيقة وارتداؤها خماراً يغطي كل جسمها وهي الآن متزوجة من ناشط اسلامي تونسي وتقيم في ايطاليا.
في منزلها في الدائرة الرابعة عشرة في باريس، كانت فاطمة وشقيقتاها في انتظارنا. أثاث المنزل يجمع بين ثقافة فرنسية لجهة توزيعه وأساليب استعمال المساحات، وبين تطريزات مغربية للأقمشة والأواني. ثمة وحشة في وجوه الساكنين. صمت غائر ومودة زاوجت بين الدفء المغاربي والتعب المنبعث من قلق الاقامة البعيدة. الوجه الأسمر والحائر للشقيقة الأولى التي اخلت غرفة الاستقبال لضيوف الشقيقة الكبرى، يثبت شعوراً عميقاً بحزن خاص يصيب الوجوه المهاجرة.
انها السابعة مساء، وفي باريس لا يحل الظلام قبل التاسعة والنصف. ضوء آخر النهار المتسرب من باب الشرفة يزيل أي التباس يدور حول حقيقة الأشياء. لون خشب الأبواب هو لونه حقاً الآن، والأواني الموزعة في اماكنها لا تلمع، ووجه فاطمة الحالك مختلف عن ذلك الوجه الذي شاهدناه مساء أمس في النادي الليلي الافريقي.
الكوسكوس المغربي، هو الكوسكوس المفضل لدى غالب ولد شيخ ضيف فاطمة الآخر، نجل العميد السابق لجامع باريس وشقيق إمام مسجد مرسيليا، ومقدم برنامج عن الاسلام في القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي. فهذا النوع من الكوسكوس يصنعه أيضاً ابناء شمال الجزائر، الذين جاء من بينهم والد غالب الى فرنسا. وغالب الذي يرطن بعربية فصحى وبليغة ولكن مقطعة بإيقاعات فرنسية، يبادر فاطمة حين راحت تسعل اثناء حديثه عن المهاجرين بعبارة "حفظك الله"، يقولها مصحوبة بابتسامة فرنسية.
المصائر التي تنتهي اليها مباشرة العيش في المهاجر، غالباً ما تتسم بالقلق والتبدل الذي يعوق اي استقرار. يمكنك ملاحظة الكثير من حالات الطلاق مثلاً، من دون ان يكون لملاحظتك هذه اي دلالة احصائية. بدءاً بمباشرة بحثك وقراءتك عن والدة زكريا الموسوي الى والد السائق الذي ترك والدته في الجزائر ولم يزرها منذ نحو 30 سنة، الى فاطمة التي تعيش مع طفلتيها، بعد ان أتاح لها الطلاق حياة أرحب كما تقول. اضطراب في الاقامة أيضاً وفي ظروف السكن، فيتحدث الناشط في قضية المهاجرين سعيد بوزيري عن مئتي الف عامل مهاجر على أبواب التقاعد جميعهم من العزاب، ويقيمون في مدن الصفيح في الضواحي الفرنسية. هذا الاضطراب يتيح احياناً فرصاً للعيش الخاص والانغماس في هموم تبعد المهاجرين في هواجس الهويات الثقافية والدينية، ولكنه أيضاً مناسبة لاستعادة الهوية بصيغ عنيفة في احيانٍ كثيرة.
السائق الفرنسي من أصل مغربي قال انه مولود في فرنسا ولا يجيد الا نتفاً من جمل مغربية، ولكنه ما زال مغربياً، وهو موجود في فرنسا لأن هذه الأخيرة تتيح له الحد الأدنى من العيش وإلا كان قطع أوراقه وعاد الى المغرب التي لم يزرها منذ ولد. والسائق مقيم في ضاحية مونت لاجولي التي أقام وتربى فيها خالد قلقال الذي قتل اثناء مواجهة مع الشرطة الفرنسية بعدما رمى بقنبلة في الميترو عام 1986.
الببغاء والعازف
الميترو المتجه الى باربيس في المنطقة الثامنة عشرة من باريس مكتظ بالركاب. المنتظرون في المحطات معظمهم من اصحاب السحنات السمر، ومن بعدهم السحنات السود ثم الشقر. وبين هذا الخليط تضم المحطات التي يتسرب اليها الفرنسيون للانتقال، عشرات من اصحاب الامزجة والقيافات. سيدة سوداء فارعة تحمل ببغاء على كتفها، تحدث متشرداً وعازف غيتار يحمل وعاء لإسقاط القطع النقدية. انه الميترو شريان المدينة غير المرئي. الصمت يغلف الوجوه المرتجة من جراء امعان القطار في السرعة، ليخرج بعد قليل صوت المذياع محذراً الركاب من وجود نشال باشر عمله في إحدى المقطورات. يقول حسن ان التحذيرات غالباً ما تكون قبل مباشرة النشال عمله ولكنه هذه المرة كان اكثر حنكة من ادارة المحطة. الوجوه على اختلافها تلقت صوت المذياع من دون اكتراث كبير. من منا النشال؟ سؤال يبدو انه لم يلح على أحد من الركاب، فالناس هنا ولشدة ما تنقلوا بالميترو صار بديهياً بالنسبة اليهم ان يجلسوا الى جانب غرباء لا يفصحون عن وجوههم.
محطة الميترو في باريس متآكلة خلافاً للمحطات الأخرى. مياه الأمطار وصلت الى زوايا فيها، واختلطت في الغبار فألفت وحلاً قليلاً. أفواج العابرين المنتظرين شارة المرور عند التقاطعات يظهرون عن انتظارهم في لحظة اذعان غريبة للنظام. في باريس منطقة المهاجرين، الناس مسرعون أكثر، وحركة الأسواق أقوى مما يفترضه التسوق. سمرة مغربية وأخرى افريقية حادة، وشرطية سير شقراء. المقاهي قليلة في الشارع. معظم المتاجر تبيع الملابس والأحذية والمجوهرات وفي الزاوية الأخيرة من الشارع مقهى رصيف فرنسي لا يؤمه على ما يبدو المغاربيون. في المقهى لا أدري لماذا استعدت صورة الصديق الجزائري القبائلي، واستعدت حديثه هو الذي لا يجيد العربية عن أن 11 ايلول سبتمبر مثل هزيمة كبيرة للكاثوليكية ساهم فيها اليهود. اما مسلمو أوروبا والعالم فإن حضارة قوية وحية ومتحركة ترفد عيشهم وتحركه. الصديق البربري هو من أبناء الجيل الثالث من المهاجرين أيضاً. قد لا تتطابق ظروفه مع ظروف معظم المهاجرين ولكنك تشعر ان كلامه يخرج من شقاق في النفس أحدثته مفارقة العيش بين ثقافتين وطريقتي حياة. فهؤلاء يعيشون على حافة قناعات شديدة التفاوت وإمكان انزلاقهم سهل ويومي، فيشير غالب ولد شيخ الى عملية Talibanisation طلبنة من طالبان لقناعات ومعارف أبناء الجيل الثالث، وهذا في رأيه أمر سهل، فأبناء هذا الجيل يجهلون الاسلام تماماً، وهو الآن يأتيهم من طريق أئمة ودعاة "جهاديين"، ويكون عدتهم لمواجهة اوضاعهم المتردية في الضواحي. اما المسؤول الثقافي في جامع باريس فيشير الى ظاهرة ترجمة كتب دينية الى الفرنسية يتلقفها شباب من الجيل الجديد يجهلون الاسلام ويرغبون في تعلمه فتصلهم ومن دون مقدمات معرفية كتب الجهاد والتكفير والتحريك، فيعتقدون ان الاسلام هو مجموعة من النواهي والأوامر وفتاوى إباحة القتل.
ما تواجه به اثناء لقائك أو اتصالك ببعض الناشطين في أوساط الجاليات العربية والمسلمة، هو ان الشبان الذين انزلقوا في شبكات ارهابية وفي اعمال عنف لا يمثلون اي نسبة من ابناء الجالية، وان انزلاقهم يمكن ان يفهم في سياق تعثر عملية اندماجهم وقبولهم، وان قضية اللاجئين لا يمكن اختصارها بالمسألة الأمنية، وهذا الأمر صحيح الى حد بعيد، ولكنه أيضاً يخفي رغبة بتحميل المسؤولية كاملة الى المجتمع المضيف، خصوصاً ان لمطلقيه باعاً طويلاً من التنصل من تحمل تبعة اعمالهم. فالإخلال بالأمن لا يتطلب اعداداً اكبر لكي يحصل، والمجتمعات تفكر عادة بهؤلاء الخارجين القليلين على القانون وتحاول ان تصنف افعالهم وأن تلقي بالتبعة على من يجب ان تلقى عليه، والمجتمعات في أوروبا سبق ان حملت نفسها ما لا يحصى من المسؤوليات تجاه افعال جماعية قامت بها. وفي فرنسا جمعيات مهاجرة كثيرة أقل نضالية من جمعيات اخرى، شرعت بتفكير هادئ في قضية أبناء الجاليات وخلصت الى برامج جدية. حكيم الغثاثي، وهو ناشط اسلامي معتدل في جمعية المواطن ورئيس تحرير دوريتها "المدينة" يقول مثلاً ان أحد هموم جمعيته تقديم اسلام أوروبي مختلف عنه في البلاد الأصلية، اسلام يأخذ في الاعتبار ثقافة المجتمع الذي يعيش في ظله، ومرتبط بأوروبا أكثر من ارتباطه بهموم العالم الاسلامي.
كلام الكثير من الناشطين في مجال البحث في أسباب صعود الاسلام الجهادي في اوساط الشباب المهاجرين في فرنسا يتقاطع عند اسباب عدة واحد منها قضية ما يتعرض له الشاب في مجتمع يقاوم اندماجه فيه، ولكن هذه الأسباب تمتد لترتبط أيضاً بدخول خارجي على خط أزمة المهاجرين، وبأزمة ما يسمى المساجد والأئمة الجدد والجمعيات المتناسلة والمرتبطة ببلاد المهاجرين الأصلية. وعندما يقال ان الانتخابات النيابية الفرنسية لم تأت بنائب عربي أو مسلم واحد في بلد يشكل هؤلاء اكثر من 10 في المئة من عدد سكانه فهو أمر يدعو الى التفكير فعلاً، ولكن التفكير يجب ان يكون متبادلاً، ويجب ان تتبادر الى الذهن أسباب عدم قبول الاحزاب الفرنسية ضم اسماء مرشحين من أصول عربية ومسلمة الى لوائحهم الرئيسة.
ويقول حسن: "انه سؤال اخلاقي موجه فعلاً الى المجتمع الفرنسي والى احزابه وقواه، ولكن ايضاً يجب التفكير بحقيقة ان المرشح العربي على لائحة حزب ما سيؤدي الى فقدان هذا الحزب الكثير من الأصوات الفرنسية، وان الاحزاب تتفادى ترشيح هؤلاء تفادياً لحنق الأكثرية".
أصداء من الجزائر
النقاش الفرنسي حول المهاجرين وحول الأمن اشتد بعد 11 ايلول طبعاً، والأحداث أثمرت في الانتخابات الرئاسية والنيابية مزيداً من الفرز. قلقال والموسوي وبوعلام سعيد والفرنسيون الثلاثة في غوانتانامو، واخوان هؤلاء في الشبكات الأوروبية الأخرى في مدريد وبروكسيل، وصولاً الى هامبورغ، يؤكدون ان التحضير ل11 أيلول مرّ عبر الخلايا الأوروبية للقاعدة، وان هذه الاخيرة تمكنت من اختراق الجاليات المسلمة في هذه البلاد، وأسست لنفسها مساجد وأئمة، ووجدت بيئة مناسبة ونموذجية لدعاويها العنفية، مستفيدة من علاقاتها بالجماعات الاسلامية المسلحة في الجزائر. ويقول حكيم الغثاثي ان كل ما يحصل في الجزائر له صدى في فرنسا وكل ما يحصل في فرنسا له صدى في الجزائر. ويتحدث مهاجرون آخرون عن مساجد يسيطر عليها ناشطون في جبهة الانقاذ الجزائرية، وأئمة تونسيون ينتمون الى حركة النهضة التونسية. وطبعاً هذا لا يعني شيئاً بقدر ما يعني سهولة ربط قضايا المسلمين في أوروبا، بقضاياهم في بلاد المنشأ، وهذه إحدى معضلات الجاليات كما يؤكد الناشطون.
حين تنضاف العقائد المستوردة من بلاد "الجهاد" الى وعي فصامي يعيشه شبيبة الضواحي، والى مشاعر متولدة عن حال التهميش التي يعيشها هؤلاء، فتنضج الظروف التي تهيئ الشبان للقبول بالخروج عن المجتمع ومنه.
البطالة واللاجئين
تضم لوائح العاطلين من العمل في فرنسا الشوماج نحو ثلاثة ملايين اسم، نصفهم من الفرنسيين من أصل عربي ومسلم، وتضخم هذه النسبة تم بعد 11 ايلول، ويؤكد عدد من ابناء الجاليات ان الكثير من الشركات صارت حين تعلن عن حاجتها الى عاملين في مصانعها أو مكاتبها تشير الى رغبتها بتعيين موظفين يحملون اسماء فرنسية، وأحياناً تشير الى ضرورة تمتعهم بالملامح الأوروبية. وأكد الغثاثي ان مجموعة من الفرنسيين من اصل عربي ومسلم كانوا في مواقع اساسية في شركات خاصة تم ابعادهم عن واجهة انشطة هذه الشركات لأسباب تسويقية، اذ صار من الصعب على حامل هذه الملامح ان يلعب ادواراً إيجابية في مجالات تفترض علاقات مع جمهور المستهلكين الأوروبيين. الأمر اصبح واقعياً الى حد يصعب نقاشه في سياق من النضال لتحصيل الحقوق. فالمسألة مرتبطة بأسواق ومستهلكين ومزاج عام. الدوافع والنتائج قد ترذلها الاحزاب والاتجاهات السياسية، وهي لا تتطابق مع القيم التي انتجتها هذه المجتمعات، ولكن يبدو ان مسلمي أوروبا أمام تحد من نوع جديد. فصورة الاسلام كما ثبتها الدعاة الجدد، وأضافت عليها اعمال شبكات القاعدة في أوروبا خطوطاً جديدة، مقصورة على "الجهاد" والحرب، وفي الوقت الراهن لا يبدو ان احداً يرغب بتقديم صورة أخرى.
غداً: معضلة الأئمة ومساجد الضواحي في فرنسا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.