تواصل «عكاظ» سلسلة التحقيقات التي نشرتها حول الإسلام في فرنسا، بعد أن حققت من قبل سبقا حين كشفت عن توجه الحكومة الفرنسية لتعيين وزير الداخلية السابق جون بيار شوفانمو على رأس الهيئة الجديدة «مؤسسة إسلام فرنسا»، المعنية بالإشراف على تأطير الإسلام في فرنسا، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة في الأوساط الإسلامية بل وحتى النخبة السياسية الفرنسية. وانطلاقا من أهمية ملف الإسلام في فرنسا، الذي يشغل ويحرك النخب الثقافية والسياسية الفرنسية، اتجهت «عكاظ» إلى شخصية ذات تأثير قوي في الإسلام «الفرنسي»، وكان له الأثر الكبير في إيجاد هياكل تنظيمية للديانة الإسلامية، المكلف السابق بمهمة الديانة الإسلامية في وزارة الداخلية والمستشار الخاص في عهد شوفانمو.. إنه برنارد غودار، الذي يطلق عليه المهندس الأول للإسلام الفرنسي – إن صح التعبير-، أو الصندوق الأسود لكل المحاولات الفرنسية لتأسيس هيئات إسلامية في فرنسا. غودار؛ يوصف بأنه، ذاكرة إسلام فرنسا لارتباطه الوثيق بهذا الملف على مستوى وزارة الداخلية، فضلا عن علاقاته القوية مع العالم الإسلامي ومعرفته القريبة لشبكات الجالية المسلمة في فرنسا، وهذا ما جعله «المفتاح»الذي لا غنى عنه لإدارة الإسلام في فرنسا. وضع غودار آليات الهياكل التي تعنى بالديانة الإسلامية، بدءا بمجلس الديانة الإسلامية الفرنسية ووصولا لهيئة «مؤسسة الديانة الفرنسية» التي أنشئت في 2005 من قبل دو فيليان وأعيد هيكلتها اليوم لتتولى تسيير إسلام فرنسا. كان المحاور الرئيس في الجزائر والمغرب وتركيا لتقديم الشروحات للحكومات حول السياسة الإسلامية في فرنسا. وكان له دور في تسوية الخلاف الذي نشب حول تسيير الهياكل وتكوين الأئمة بين الجزائر والمغرب. «عكاظ» تنفرد بحوار شامل مع غودار حول «إسلام فرنسا» وما يدور اليوم من جدل حول مساعي تأطير الإسلام، الذي رأى أن هذه المحاولات غير مجدية، بل لا بد من قراءة جوهرية للإسلام بعيدا عن التطرف. • لماذا كل هذا الجدل في رأيكم حول إسلام فرنسا؟ •• قضية الإسلام بشكل عام أصبحت تؤرق العالم، لأن العنف الناجم عن الذين يدعون الإسلام ويرفعون عنفهم باسم الدين، أصبح يهدد المجتمعات نفسها قبل السياسات، لذلك هناك استثمار في هذه القضية من بعض «الشعبويين»، وهذا لا يعني أنه يجب أن نولي هذه المسألة الأهمية ونضعها على طاولة النقاش من أجل تجسيد إطارفاعل وفعال من أجل تأطير هذه الديانة وإخراجها من الصورة المنمطة التي وضعها المتطرفون الإسلاميون من جهة واليمينيون من جهة أخرى. • نادين مورانو صرحت أن فرنسا تشهد غزوا إسلامويا، هل مثل هذه التصريحات تنم عن صورة السياسي الفرنسي؟ •• أنا لا أرى ذلك، نادين مورانو شعبوية في تصريحاتها ولا أفهم كيف تأخذ تصريحات مثل هذه مأخذ الجد ويعاد تداولها في الأوساط الفرنسية السياسية وهم يعلمون أنها غير مسؤولة في تصريحاتها من جهة وليست مثقفة، كي تدلو بدلوها في مواضيع شائكة مثل قضية إسلام فرنسا، لذلك أنا لا أرى في تصريحها الجدية والمسؤولية. كل ما يفعله السياسيون اليوم هو محض اللحظة والآنية السياسية التي توسم بالمصالح السياسية كالحملات الانتخابية وهو ما يجري اليوم، إذ أصبح الإسلام في فرنسا وقود هذه الحملات. وكل سياسي يستثمر هذا الموضوع حسب «نواياه السياسية»، سيكون موضوع إسلام فرنسا محور النقاش في الأشهر القادمة من قبل السياسيين الذين يجدون فيه مادة قابلة للاستهلاك في الحملة الانتخابية، ولكنه لن يكون أبدا محور نقاش واقعي من قبل هؤلاء، لذلك أعتقد أن إسلام فرنسا يجب أن يناقش من قبل المسلمين أنفسهم وخاصة الجالية المسلمة وتمثيلياتها بفرنسا لإيجاد الآليات والصيغ التي تجعل الجالية المسلمة تندمج وتجابه التطرف الذي يعصف بدينهم؛ لأن هذا التطرف لم يفرق بين مسلم ومسيحي ولا من ديانة أخرى أثناء الاعتداءات التي حدثت في الأشهر الأخيرة بفرنسا أو حتى في أي بلد غربي أو عربي آخر. الوعي بخطر التطرف يجنب الكثير من تداعياته، وأتذكر قول ملك المملكة العربية السعودية عبدالله، رحمه الله، إن نار التطرف ستطال العالم إذا لم تتم محاربتها في بدايتها. فالسعوديون ذاقوا مرارة الإرهاب، ولذلك فإن الملك كان محقا في دق ناقوس خطر التطرف. • هل تعتقد أن تأطير الديانة الإسلامية هو نوع من الحل لمجابهة التطرف والإرهاب ولماذا فشلت كل المبادرات السابقة بدءا بمبادرة جوكس ووصولا لمبادرة هولاند في إحياء هيئة الديانة الإسلامية؟ •• أظن أن هذه المبادرات لم تحمل على محمل واقعي يمكن أن يتجسد بتضافر كل الأطراف المعنية. أتفق معك أنه بقدر ما تعددت المساعي لتأطير الإسلام في فرنسا بقدر ما أثقل كاهل تلك المؤسسات ولم تتمكن من أداء دورها، ويبدو ذلك جليا منذ مبادرة وزير الداخلية في عام 1989بيار جوكس، حين أنشأ «مجلس التفكير حول الإسلام في فرنسا» وجاء بعده في 1993 مبادرة وزير الداخلية شارل باسكوا الذي أنشأ «المجلس التمثيلي لمسلمي فرنسا»؛ ليأتي بعده مشروع جون بيار شوفانمو الذي قرر عام 1999 إجراء استشارة واسعة، إذ تم اقتراح مجلس فرنسي للديانة الإسلامية، وكنت آنذاك من بين المنسقين في لجنة التكوين لذلك المجلس، التي وفرت للحكومة اليمينية أرضية عمل حقيقية سمحت لدانيال فايون مواصلة العمل الذي أفضى إلى إنشاء المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية عام 2003. • ألا تعتقد أن بفشل هذه المبادرات، تكون الحكومة الفرنسية مطالبة بإعادة النظر في فرض وصايتها على الهيئات والمؤسسات الممثلة للمسلمين ؟ •• أعتقد أن تنظيم وتأطير الديانة الإسلامية في فرنسا لن يتم بمعزل عن تمثيليات الجالية المسلمة بفرنسا لكي تنجح هذه المبادرات وقد أثبت ذلك من خلال التنسيق مع ممثلي المسلمين الذين تجاوزوا خلافاتهم الداخلية من أجل الوصول إلى حل متكافىء تتعايش وتندمج فيه الجاليات المسلمة على التراب الفرنسي وبالتعاون مع السلطات الفرنسية. • ألا تعتبر هذه الوصاية كمساس بقوانين الجمهورية وشعار الدولة العلمانية الذي ترفعه فرنسا؟ •• الديانة الإسلامية هي ثاني ديانة في فرنسا من حيث تعداد السكان، فإذا اعتبرنا أن هذا الكم الهائل من الجالية المسلمة في فرنسا مطالب بالتعايش والاندماج، فإننا أيضا مجبرون على تنظيم ممارسة الشعائر الدينية على تراب الجمهورية ووفق قوانين الجمهورية. فلا يعقل مثلا أن يعيش أكثر من 3 ملايين مهاجر مغاربي في فرنسا ويخضع لقوانين البلدان الأصلية. أكثر الجاليات المتواجدة في فرنسا هي من الجزائر والمغرب وتركيا وتونس، وأكثرها تحكما في التمثيليات هم الجزائريون والمغرب وتركيا. أما باقي الجنسيات من الخليج والشرق الأوسط فهم قلة، لكنهم فاعلون، خاصة دول الخليج كالمملكة العربية السعودية التي تعرف تنظيما جيدا لجاليتها وكذلك لها تأثير مؤسساتي وإن لم يكن مجسدا على التراب الفرنسي، فهي مؤثرة من خلال مؤسسات ثقافية وإعلامية ولا يشوبها الفوضى ولا الخلافات التي تعصف بتمثيليات الجالية المغاربية. لا أخفي عليك أن فرنسا اليوم تعد على ترابها جاليات مسلمة متعددة الأصول وهي مرغمة على أخذ زمام الأمور حتى نتجاوز فكرة عدم الاندماج التي أصبحت تشكل خطرا على الأمن الداخلي للبلد ولذلك فرنسا تسعى اليوم لهذه الوصاية من أجل رفع رعاية الدول لجاليتها التي تعيش في فرنسا، حتى يسهل تنظيم الإسلام في فرنسا. • كيف ترى تأثير المملكة على «إسلام فرنسا» ونحن نعلم أنها ليست حاضرة في المؤسسات والهيئات التمثيلية للجالية المسلمة بفرنسا؟ •• نعم المملكة العربية السعودية ليست مجسدة في هيكل مؤسسي على التراب الفرنسي، ولكنها حاضرة بالشكل المقنع والمفيد وهو الحضور الاستثماري من جهة والحضور الأيديولوجي من جهة أخرى والمسلمون مرجعهم الأراضي المقدسة في السعودية، كما أن الحملة الإعلامية التي تدعمها السعودية من خلال الإعلام تشكل وزنا في نشر الإسلام المعتدل ونبذ التطرف، أضف إلى ذلك استثمارها في المشاريع الثقافية من خلال تمثيلياتها الثقافية الناشطة لأن فتح المجال أمام الهيئات الثقافية سيسمح بتلاقح الثقافات والاحتكاك بالآخر وقبوله وهذا أمر مهم من أجل حوار ثقافي حضاري وديني مثمر وناجع لبناء مجتمعات متسامحة ومتعايشة. • هل تعتقد أن هذه المساحة التي تتحدث عنها ستوفرها مؤسسة الديانة الإسلامية التي سينطلق نشاطها شهر نوفمبر؟ •• «مؤسسة الديانة الإسلامية بفرنسا» هي الشجرة التي يستظل بها كل ما يتعلق بالدين الإسلامي، بالإضافة لكونها ستسير إسلام فرنسا، ستلعب أيضا دور المحاسب والمراقب في آن واحد لممارسة الشعائر الدينية ومراقبة توجيه أموال المشاريع المتعلقة بالإسلام في فرنسا. • هل معنى ذلك أنها ستتلقى الأموال من الدول الإسلامية لتمويل بناء المساجد ومراكز التعليم والتكوين؟ •• أقصد هنا أن المؤسسة لن يكون لها علاقة بتنظيم الشعائر الدينية باعتبارها مؤسسة مدنية تشرف الحكومة الفرنسية على تمويلها تحت وصاية وزارة الداخلية، ستعمل على تنظيم بشكل رسمي هذا التمويل، ومراقبة الأموال المتعلقة بهذا التمويل ولن تمنع الدول من تمويل المساجد ودور التعليم ولكنها ستنظم هذا التمويل وفق إطار قانوني لا يجهل مصدر المال ولا يتخذ أي شكل من الأشكال المشبوهة. المؤسسة معنية أكثر بالتعريف بالدين الإسلامي وما يحمله من قيم حضارية وفكرية. وسيتم ذلك من خلال بحوث ولقاءات ثقافية وأبحاث حول الثقافة الإسلامية. • تنصيب شوفانمو على رأس هذه الهيئة يثير الكثير من التساؤل، فهل هو بداية لصراع خفي يريد للمؤسسة نفس مصير المبادرات السابقة.؟ •• اختيار شوفانمو جاء على أساس علاقته وقربة من العالم العربي وكونه رجل دولة كان له علاقة وطيدة ومطلع بشكل كاف على الملف مما يؤهله للعب دور الوساطة بين الحكومة وممثلي الديانة لإسلامية خلاله مرحلة انتقالية وبشكل موقت. بمعنى أن بيار شوفانمو سيسير المؤسسة لفترة وجيزة، يضعها في مسارها الحقيقي، وبعدها توكل لشخصية مسلمة لتسييرها. • هل تعتقد أن شخصية مثل شوفانمو، تنصح مسلمي فرنسا «بالتستر على دينهم»كفيلة بلعب دور الوسيط حين تشتد الخلافات داخل المؤسسة؟ •• شوفانمو دافع عن تصريحه واسترشد بطلب بعض الأئمة من المسلمين توخي الحذر في ممارسة شعائرهم الدينية، ولكن هذا لا يعني أن الرجل كان محقا، لنعتبرها سقطة إعلامية ما كانت لتصدر من شخصية مقربة من العرب والمسلمين. المسلمون اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالاندماج في المجتمع الذي يعيشون فيه أعتقد أن شوفانمو ارتكب خطأ بتصريحه هذا وما كان منه أن يقول مثل هذا الكلام. • هل مجرد إثارة مواضيع لها علاقة بالديانة الإسلامية، تخرج للعلن العنصرين والإسلاموفوبيين الذين يكبون الزيت على النار؟ •• أعتقد أن هذا الموضوع كشف العراقيل المتجذرة في ثنايا فرنسا العلمانية. مثل هذه التصرفات تنشب عندما يستغل اليمين الشعبوي والمتطرف مثل هذه المواضيع لينفث سمومه في المجتمع، وما قضية لباس البحر «البوركيني» إلا نموذج مصغر عن مدى استغلال أمثال عمدة فيلينيوف لوبيت الفرنسية، ليونيل لوكا، وكريستيان استروزي رئيس بلدية نيس السابق، لهذه المواضيع من أجل إثارة الفوضى والجدل العقيم الذي لا جدوى منه. يجب إعادة النظر في تعاملنا مع الأديان والإسلام بشكل خاص لتتضح الرؤية ويعرف الفرنسيون أن الإسلام هو دين تعايش وحضارة وليس دين تطرف مثل ما هو شائع.