كان تأثير عبد الناصر في اليمن سابقاً على الدور. وقد استمر مضاهياً له ومتصلاً به، ثم انه بقي بعده في غيابه. وبدأ هذا التأثير مع صيحته "ارفع رأسك يا أخي" وكان الزمان قد تطاول على اليمنيين وهم مطأطئو الرؤوس تحت أسواط الإمامة في الشمال وجبروت الاستعمار في الجنوب. وتصاعد بعد ذلك مع سطوع نجم الرئيس المصري في "باندونغ" وبريقه المشع فوق سماء الجزائر، ثم بسبب جسارة قراره بتأميم قناة السويس واستبساله أمام العدوان الثلاثي، واخيراً في تجسده كرمز في وحدة مصر وسورية سنة 1958. كانت أبواب اليمن مغلقة أمام وسائل التعبير، والإذاعة هي الوسيلة الوحيدة القادرة على اجتياز الحدود من دون استئذان أو تأشيرة دخول. غير ان حدة الفقر حصرت "الترانزستور" في أيد قليلة. ومع ذلك استطاع الكثر من السكان الوصول الى منازل توافر فيها "الراديو" واستمعوا الى "جمال عبدالناصر" والتعليقات المعبأة بالتحريض يلقيها أحمد سعيد و"بصراحة" لمحمد حسنين هيكل. كما انفعلوا بالاغاني الوطنية. وكذلك تجلّى هذا التأثير على ضيق مساحته قاطعاً وطاغياً فجر السادس والعشرين من ايلول سبتمبر 1962. ذلك اليوم قامت ثورة في البلد الذي ظل دهوراً مظلماً ومجهولاً. الثابت ان مراحل التاريخ تتداخل، لكن محطات فيه تبرز لتشكل انقلاباً - وليس انقطاعاً بأي حال - على الماضي. والدور المصري في اليمن كان يتسلل تحت سحب التأثير وأدخنته إذ أحس الحكام في صنعاء ان الغضب المكتوم أخذ يتجرأ في التعبير عن نفسه، وحاول الإمام بتحريض من ابنه ولي العهد إدخال إصلاحات شكلية على الحكم وتطوير علاقات تعاون مع الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية أثمرت صفقة سلاح مع موسكو وانشاء ميناء الحديدة بواسطتها، وسفلتة أول طريق في البلاد ربطت الحديدة بصنعاء أهدتها الصين التي قامت كذلك ببناء مصنع للنسيج في العاصمة. وفي الوقت نفسه اضطر الإمام الى استقدام ضباط مصريين لتدريب جيشه المتخلف على السلاح السوفياتي وأنشأ كلية عسكرية ولد من رحمها تنظيم للضباط الأحرار، تمثل روح وأهداف التنظيم العسكري الذي حقق 23 يتموز 1952م. وفي عدن تزايد نشاط الحركة النقابية، وبدأت الاضرابات وحركات العصيان والتمرّد ضد الاحتلال، نشطت الصحافة الاهلية والعمالية وظهرت محاولات لإنشاء احزاب محلية، كما تمكن كل من حزب البعث والقوميين العرب من زرع خلايا في صفوف الشباب اليمني الذي وجد فرصة للتعليم في القاهرة وبيروت. على ان هذه البذرة اندست في تربة هيأتها حركة الاحرار اليمنيين بقيادة مؤسسها الأول أحمد محمد نعمان ورفيقه الشاعر محمد محمود الزبيري. وكانت القاهرة بعد ثورة تموز فتحت أبوابها لحزبهما "الاتحاد اليمني" وتركت لاعطائه مساحة في الصحف والاذاعة المصرية، وفتحت أمام شباب الحزب أبواب المدارس والجامعات المصرية. وفي ما بعد سيتوزع أولئك الشبان في أحزاب تفرقت ذات اليمين وذات اليسار. وسيدخل أكثرهم في صدام مع الأجهزة المصرية التي قدمت الى اليمن حاملة صور جمال عبدالناصر وسيفه وخطبه. هكذا اذاً قامت ثورة 26 ايلول في صنعاء بتأثير ثورة تموز وبمساهمة غير مذكورة لخلايا الاحزاب القومية واليسارية البعث، القوميون العرب، الماركسيون، وشكلت الثورة في اليمن محطة وثوباً لدور أكثر حيوية مارسته ثورة تموز وتركت من خلاله تأثيراً قوياً وصاخباً في مناحي الحياة كلها. معظم هذا التأثير كان ايجابياً بلا شك، وبعضه تكشّف عن سلبيات بلا حدود. وقد بدأ الدور في شكله الجديد بوجود عسكري مباشر، وهو أمر معروفة بدايته وأسبابه، ومعلومة نتائجه وتبعاته على مصر. ولا بأس، على رغم ذلك، ان نذكّر بالبداية والاسباب، فقد استطاعت الأسرة الملكية الحاكمة ان تلملم صفوفها وتستجمع قواها. وأهم منه ان تعثر على حلفاء خارجيين أهمهم بريطانيا التي تأذّت من إعلان صنعاء عزمها تحرير الجنوب. كذلك استعان ثوار أيلول بمصر. وتدفق الجيش المصري الى اليمن، ومعه ضُخت أشكال أخرى من الدعم. فالجيش المصري حمل أسلحته وعتاده، ثم وجد ان حاجته من الغذاء والمؤونة غير متوافرة في اليمن، ثم انه اكتشف عجزه عن الحركة في أرض جبلية وعرة، وبان له ان مهمته في اليمن ليست معلقة بأجل قصير. ومع ما يستدعيه هذا من تعزيزات إضافية فإن الحاجة ظهرت ملحة لبناء وتطوير جيش يمني حديث توكل اليه مهمة الدفاع عن الثورة بالمشاركة الآن، وبالاستقلال عندما يحين أجل رحيل القوات المصرية، وكانت هذه مهمة المصريين أنفسهم. بعد ذلك اتسعت شرارة الثورة، بحكم طبائع الأشياء، وبالتأكيد على وعد قطعته على نفسها، واندلعت ثورة في الجنوب ألزمت المصريين ان يلبوا ويستجيبوا، فراحوا يتولون تنظيم وسائل الامداد والدعم والتدريب. ذلك كله خلق تأثيرات قوية في أسلوب بناء الجيش وفلسفته وفي ثقافة وتفكير ضباطه، بغض النظر عن كونهم متحمسين أو متحفظين على الدور المصري الذي تحول في بعض الأوقات الى عائق أمام اليمنيين. على ان مصر لم تجد نفسها أمام مهمة عسكرية مجردة، فقد لاحظت ان اليمنيين يبحثون عن التعليم والصحة والكهرباء والماء وغير ذلك من الخدمات ووسائل الحياة الحديثة. وقد طرقت مصر هذا السبيل، وأثرت في وسائل ومناهج الدراسة والادارة. واشتبكت البيروقراطية المصرية العتيدة مع الموروث من الادارة العثمانية لتنشأ من هذا المزيج ادارة يمنية غرقت في مستنقع الفساد. أدى الوجود العسكري المصري في اليمن الى تدخل مكشوف في القيادة السياسية والعسكرية الحاكمة في صنعاء. وفي صفوف التنظيم السياسي القائد للكفاح المسلح في عدن الجبهة القومية. وقد ألقى ذلك بظل كثيف على مستقبل الصراعات السياسية على امتداد التاريخ اللاحق. وبقيت هناك بصمة مصرية لم يمح اثرها في الانقلابات اللاحقة التي شهدتها اليمن. من ناحية ثانية أدت خلافات القاهرة خلال تلك الحقبة مع حزب البعث والقوميين العرب الى صدام مماثل في صنعاء، ووجد البعثيون أنفسهم يتحالفون مع الجمهوريين المحافظين والمناوئين للوجود المصري، كما حملت الاستخبارات المصرية كل أثقال القمع وألقت بها فوق رؤوس الخصوم في اليمن. تزامن الوجود المصري في اليمن مع حماسة جماهيرية كاسحة لعبد الناصر وثورة 23 تموز، وتولّد عن ذلك فوران للتيار الناصري جرى ضبط حركته وتنظيمه بواسطة ضباط من "الشؤون العربية" وهي شعبة من شعب الاستخبارات العامة المصرية. وكذلك ساهمت ثورة 23 يوليو في زيادة انقسام وتشتت التنظيمات القومية. ويطول الحديث عن تأثير ثورة تموز في اليمن إن أردنا الإحاطة بجميع الاشياء، لكن المهم القول ان هذا التأثير ظل ظاهراً وبارزاً بعد رحيل المصريين في اعقاب هزيمة 1967، وما زال ظاهراً وبارزاً اليوم، وأظنه سيبقى كذلك الى أمد طويل. * صحافي يمني. رئيس تحرير صحيفة "الاسبوع" المستقلة.