كل من يزور جنوب أفريقيا يدهشه مدى التطور الديموقراطي الحقيقي في هذا البلد الذي شهد تحولاً تاريخياً بانتهاء حقبة نظام الفصل العنصري ابارتهايد منذ عشر سنوات. وهذه السنوات تعد قصيرة في تاريخ الأمم، لكنها بالنسبة الى شعب جنوب أفريقيا حفلت بتغيرات جذرية في طريقة هيكلة المجتمع وتقدمه. صحيح أن هذا البلد لا يزال يعاني من مشاكل خطيرة أهمها انتشار الإيدز الذي يفتك بأرواح الآلاف واستمرار الهوة الاقتصادية بين البيض والسود، لكنك عندما تراقب هذا الشعب تدرك أنه ينظر إلى واقعه ومستقبله نظرة أمل. وأرسى الرئيس السابق نيلسون مانديلا أسس هذا النظام وتبعه بكل ثقة الرئيس ثابو مبيكي فأصبحت جنوب أفريقيا لاعباً مهماً، ليس فقط في المحيط الأفريقي ولكن على مستوى العالم. وإذا كان يجوز لنا أن نطلق على مانديلا لقب الملهم والزعيم الكاريزمي، فيمكن أن نطلق على مبيكي لقب الخبير والديموقراطي، فهو ملم تماماً بالملفات والمواضيع التي يتحدث عنها ويترك لوزرائه حرية التحدث، ووصفته بحق إحدى الصحف بأنه مفكر مستقل يهتم بالتفاصيل ولا يعيش في ظل مانديلا. وبعد هذا التحول التاريخي في جنوب أفريقيا كانت هناك بالفعل مناقشة صريحة وحادة أحياناً بين هؤلاء الذين ينادون بأن تنأى هذه الدولة عن أفريقيا ومشاكلها وتخلفها وتركز على علاقاتها مع الشمال الغني مستغلة تقدمها الاقتصادي والتكنولوجي ما سيعود عليه بفوائد مادية محققة، وبين الذين يرون أن جنوب أفريقيا مدينة لأفريقيا التي لم تتأخر في تقديم التضحيات والعون السياسي والمادي لحركة النضال ضد النظام العنصري وعانت بعض دولها أحياناً من بطش هذا النظام المدعوم من الغرب وإسرائيل. وحسم مبيكي الأمر لمصلحة الخيار الثاني، لذلك نجد أن هناك سياسة جنوب أفريقية نشطة في مجال حل بعض النزاعات المستعصية في القارة مثل مشكلة البحيرات العظمى الكونغو/ رواندا/ بوروندي والقيام بجهد سياسي ومادي كبير في هذا الصدد، إلى جانب مشاركتها الفعالة في مشاكل العالم الثالث. ويرأس مبيكي حالياً حركة عدم الانحياز واختير لكي يرأس أول قمة للاتحاد الأفريقي الذي بدأ رسمياً أعماله خلفاً لمنظمة الوحدة الأفريقية في دوربان في تموز يوليو الجاري. كما أنه صاحب المبادرة الأفريقية الشهيرة "الشراكة الجديدة من أجل التنمية في أفريقيا" التي أطلقها مع زعماء كل من مصر والجزائر ونيجيريا والسنغال وأصبحت تلقى قبولاً أفريقياً ودولياً متزايداً. وفلسفة مبيكي في هذا الصدد هي أن المبادرات الأفريقية السابقة على مدى عقود طويلة فشلت لأنها لم تعبئ الموارد الأفريقية اللازمة واعتمدت أساساً على المعونات من الخارج، وهو أمر لم يتم - ولن يحدث - ولذلك يجب قيام شراكة حقيقية بين أفريقيا والمجتمع الصناعي المتقدم، ومن ثم فإنه لم يمل من تسويق هذه المبادرة أفريقياً ودولياً، وعلى المستويات كافة. وامتد الأسلوب الديموقراطي لمبيكي في تناول ومعالجة شؤون جنوب أفريقيا وهمومها إلى المستوى الأفريقي نفسه، اذ دعا عدداً من خبراء الشؤون الأفريقية يمثلون تيارات مختلفة لبحث هذه الأمور معه بصراحة في ضوء أنه يريد التعرف على آراء الخبراء الأفارقة وليس فقط الحكومات قبل مقابلته زعماء الدول الصناعية الثماني الكبرى الذين اجتمعوا في كندا وبحثوا للمرة الأولى في مساعدة أفريقيا في 26 حزيران يونيو الماضي و27 منه في ضوء المبادرة الأفريقية وكذلك قبل توليه مهمات رئاسة الاتحاد الأفريقي الجديد. خصص مبيكي يوماً كاملاً لهذه المناقشات الحرة وأحضر معه عدداً من وزرائه وجرى النقاش موضوعياً في 17 حزيران يونيو يوم ميلاده الستين. ويهمنا هنا عرض لأفكار هذا الرجل الذي ينتظر أن يزداد مركزه الدولي تصاعداً. تناول الحوار الطويل حول غياب رأي الشعوب في كثير من المبادرات الأفريقية المهمة مثل إنشاء الاتحاد الأفريقي الذي لم يكن مثلاً محل إستفتاء بين الشعوب الأفريقية أو حتى النقاش في البرلمانات الأفريقية على رغم أنه يشكل إلتزامات كثيرة على الدول الأفريقية المنضمة إليه. وتناول معه غياب الديموقراطية والشفافية في أنحاء كبيرة من القارة وإزدياد معدلات الفقر والبطالة من دون معالجات حاسمة من الحكومات التي تدعي أنها تتحدث باسم الشعوب وهروب أموال كثيرة من أفريقيا إلى المصارف الغربية... إلخ. استمع مبيكي إلى كل هذه الانتقادات الموجهة إليه وإلى زملائه من الزعماء متقبلاً معظمها لاعتقاده أنها تعكس واقع الحال الأفريقي خصوصاً في ما يتعلق بمبادرة "الشراكة من أجل التنمية في أفريقيا" التي تركز على النواحي التجارية أساساً المستوحاة من الأفكار الغربية وأن ظاهرة العولمة لم تفد أفريقيا حتى الآن وأن الذين وضعوا هذه الخطة هم من يرون أنفسهم "صفوة" المجتمع من دون أن يعيروا أي انتباه لرأي الشعوب. كانت ردود مبيكي مباشرة كما يأتي: أولاً: ان مفهوم التقدمية الذي يميز سياسته يتعلق أساساً بتحسين مستوى معيشة الملايين من الأفارقة. وبالنسبة إليه فمن غير الصحيح أن القادة الأفارقة هم الذين يملون السياسة من أعلى وعلى الشعوب أن تطيع، فالتقدمية تعنى أيضاً مشاركة الجماهير في عملية صنع القرارات ومحاسبة الزعماء وإعادة صياغة العلاقات بين أفريقيا وبقية العالم، علاقة شراكة تقوم على الاعتماد المتبادل وتأخذ في الاعتبار ما خلفه الاستعمار من آثار وعلى ما يريده الأفارقة لأنفسهم ولقارتهم. وهذا ليس بالأمر الهين خصوصاً إذا كنت فقيراً وما يحمله ذلك من تحدي إقامة علاقات دولية بين أغنياء العالم وفقرائه. ولن تقوم مثل هذه العلاقات إلا إذا كانت تقدمية في مضمونها ومن كلا الجانبين في نطاق تفكير مشترك وصريح في الوقت نفسه. ثانياً: أن الميثاق الأساسي للاتحاد الأفريقي يتضمن مبادئ عامة عدة ارتضاها الجميع وهو ما يمكن أن يشكل مشروعاً تقدمياً. ولم يعد حديث أحد من الأفارقة عما يحدث داخل دولة أفريقية أخرى ينظر اليه على انه تدخل في شؤون هذه الدولة. وهو يعتقد أن هناك فرصة كبيرة أمام الأفارقة لإنجاح مبادراتهم وان الشعوب الأفريقية تتطلع إلى هذا النجاح، ولكن ذلك يقتضي جهداً دؤوباً وعملاً لا يكل، وعلى أفريقيا أن تتخلص من الاعتقاد أنه ما دامت المؤتمرات تتخذ قرارات مهمة ومعقولة، فان تنفيذها سيتم بصورة تلقائية. وأنحى باللائمة على بعض الوزراء الأفارقة الذين اتخذوا قرارات مهمة من دون مشاورة زملائهم في بلادهم بل وحتى زعمائهم، مشيراً إلى ما ذكره له أحد الزعماء الأفارقة بصراحة عن أنه لا يدري شيئاً عن هذه المبادرات الأفريقية المهمة. ثالثاً: انطلاقاً من النقطة السابقة فإن من الواضح أن هناك غياباً في المشاورات بين الدول الأفريقية وحتى داخل كل دولة على حدة، على عكس ما قررته القمة الأفريقية في زامبيا العام الماضي من ضرورة تسويق فكرة الاتحاد الأفريقي ومبادرة الشراكة، ولذلك يجب أن نعيد النظر في أسباب عدم تطبيق قرارات منظمة الوحدة. رابعاً: يدعو مبيكي الطبقة المثقفة في أفريقيا الى عدم البقاء في خانة المتفرجين في إنتظار أن تقوم الحكومات بكل العمل، بل يجب عليها أن تنشط وتتفاعل مع الشعوب وهمومها وأن تصبح عاملاً للتغيير الإيجابي. خامساً: يتفق الرئيس الجنوب افريقي مع القول بأهمية احترام حقوق الإنسان الأفريقي خصوصاً أن منظمة الوحدة الأفريقية نفسها اتخذت قراراً بإنشاء محكمة أفريقية لحقوق الإنسان تمّ ذلك في قمة بوركينافاسو عام 1998 ولكن لم تصدق على اتفاقية الإنشاء سوى خمس دول حتى الآن، يجب الإسراع في تطبيقه. سادساً: أن الشراكة التي يطالب بها هي بين الأفارقة أولاً قبل مطالبة المجتمع الدولي بإقامتها مع أفريقيا، وهذا يقتضي أن يبحث الأفارقة كيف يواجهون مشكلة حل النزاعات المسلحة قبل أن يتجهوا إلى خارج أفريقيا ولا يمكن السماح للحكومات بأن تتخلى عن إلتزاماتها. سابعاً: أنه غير صحيح أن مبادرة الشراكة ترمي إلى إلغاء فكرة رعاية الدولة للاقتصاد والإعتماد على القطاع الخاص فقط، فالواقع حالياً هو أن رؤوس الأموال الدولية هي في أيدي القطاع الخاص عالمياً، وعلى أفريقيا أن تعمل كل ما تستطيع لاجتذاب أكبر قدر من هذه الأموال التي تتنافس عليها مناطق أخرى من العالم. وضرب مثالاً على ذلك بتجربة الصين الناجحة التي اتبعت سياسة الباب المفتوح ما أدى إلى إجتذابها كميات كبيرة من الإستثمارات الدولية، ولكن إذا قررت أفريقيا إغلاق الأبواب على نفسها فهي نظرة ضيقة وغبية في الوقت نفسه. ثامناً: أن من بين الأمثلة التي يريد أن يعطيها حول مفهوم الشراكة الأفريقية ما حدث بين جنوب أفريقيا وموزمبيق، فبلاده تمتلك شركة ألومنيوم ضخمة لها خبرات كبيرة وتريد التوسع خارجياً ولذلك تم حضها على إقامة مشروع للألومنيوم في موزمبيق، وهو ما فعلته على أساس أن حكومة جنوب أفريقيا تضمن تزويد المشروع بالطاقة الكهربائية التي يحتاج إليها، وعلى أساس هذه الضمانات وافقت اليابان على المشاركة في رأس المال. ويعد هذا المشروع نموذجاً لمدى تعاون الحكومة والقطاع الخاص ورأس المال الأجنبي. وروى مبيكي قصة طريفة عن حس الشعوب الذي يفوق أحياناً حس الحكومات، اذ توقف بطائرته للتزود بالوقود في مطار داكار في الصباح الباكر في طريقه إلى جنوب أفريقيا بعد مشاركته في مؤتمر التنمية الدولي في المكسيك. فتعرف عليه عمال المطار وأصروا على دعوته إلى مكان عملهم لتناول الشاي ومناقشته بصراحة في كثير من المشاكل الأفريقية. وقبل إقلاع الطائرة بعشر دقائق رأى سفير جنوب أفريقيا في السنغال وأحد وزراء حكومة هذا البلد يلهثان وراءه ويسألانه لماذا لم يذهب مباشرة إلى قاعة كبار الزوار في المطار حيث أعدت له الحكومة السنغالية بساطاً أحمر احتفاء به، واستقبالاً رسمياً. ولكنه رأى أنه استفاد من محادثة هؤلاء العمال البسطاء أكثر من التحدث مع أي مسؤول حكومي أو رسمي. * الأمين العام ل"الجمعية الأفريقية" في القاهرة.