تعود حقوق فكرة الاتحاد الأفريقي إلى الزعيم الغاني الراحل كوامي نكروما. فهو الذي دعا، أثناء مداولات إبرام ميثاق أديس أبابا أيار/ مايو 1963 المُنشئ لمنظمة الوحدة الأفريقية، الى إقامة دولة أفريقية فيديرالية، وكان تصوره أن الوحدة الفورية ستسهل قضية تحرير القارة السوداء من مختلف أنماط الاستعمار وتتصدى لمشكلاتها الاقتصادية وتقضي على المنازعات الحدودية. وقتذاك، قوبل هذا الاقتراح ومؤيدوه بمعارضة قوية، بحجة أنه ليس واقعياً، ويتجاهل صعوبات توحيد قارة ضخمة بكل ما تحويه من تباينات عرقية واجتماعية ولغوية وأيديولوجية سياسية، وغيرها. ثم إن الوحدة الاندماجية تتعارض وطموح الدول الحديثة الاستقلال في صيانة سيادتها الكاملة. وكانت السيادة شديدة الإغراء في ذلك الحين. لم يعش نكروما ليرى فكرته تشق طريقها إلى التطبيق بعد ما يقرب من 40 عاماً، بجهود جيل آخر وفي زمن أفريقي ودولي مختلف، لكن معظم الحيثيات التي جوبه بها الرجل وأدت إلى إحباط نزعته الوحدوية ما زالت عاكفة في تضاعيف الرحاب الأفريقية. بل إن ما يقال عن أكبر نجاحات منظمة الوحدة التي طويت صفحتها في 9 تموز يوليو 2002، وهو إجلاء القوى الاستعمارية وإزاحة الانظمة العنصرية الفجة، يبقى محلاً للجدل. اللهم إلا إذا كنا نتحدث عن الاستعمار والعنصرية بمفهوميهما التقليديين، وليس عن المداخل والأساليب الاستعمارية والعنصرية المستحدثة البديلة، وعمادها السيطرة أو الهيمنة عن بُعد عبر آليات كثيرة، يعلمها العاملون في حقل العلاقات الدولية الراهنة. أما بالنسبة إلى بقية أهداف المنظمة الآفلة فإن التناظر ربما يصبح فقط حول أسباب الفشل لا حول الفشل ذاته، إذ سعت المنظمة إلى "تقوية وحدة أفريقيا وتحقيق تضامنها بطريقة تسمو على كل الخلافات العنصرية والقومية، وضمان رفاهية الشعوب الأفريقية وتعزيز التنسيق والتعاون بين دول المنظمة والدفاع عن سيادتها وسلامة أراضيها، والارتقاء بالسياسات العامة الأفريقية في المجالات التربوية والثقافية ونواحي النقل والمواصلات والصحة والدفاع والأمن". والذي لا ريب فيه أن بين أفارقة اليوم وبين هذه الغايات مسافة شاسعة، كتلك التي كانت يوم قامت منظمتهم، ولعلها أكثر اتساعاً من ذلك. أفريقيا اليوم، التي صارت اتحادية، لا تزال واقعة في أحابيل محاولات بائسة ويائسة للتنمية الاقتصادية والبشرية، وديون متراكمة عاجزة عن الوفاء بها ويزيدها الفساد المالي والإداري عجزاً، وأمراض مستعصية يتصدرها الإيدز الذي يؤذن بحصد شبابها، وتعثر التطور على طريق الديموقراطية السياسية، وعدد كبير من الحروب والفتن الداخلية التي تثور وتخبو بلا ضابط. إنها الأمراض والعوارض ذاتها التي قضّت مضاجع زعماء عصر التحرير، وحثتهم على التآزر ضدها جماعياً عبر منظمة الوحدة، لكن ما ينقص الاتحاديين الآن ومستقبلاً أنهم لا يستطيعون تعليق خسارتهم في مواجهة هذه القضايا الإشكاليات ونحوها على شجب الاستعمار وأعوانه. وهم لا يملكون كذلك التذرع بمعارك الاستقلال والتحرير لتأجيل هذه المواجهة، ثم إنهم أو بعضهم على الأقل، أهلكوا عقوداً من الزمن وكثيراً من النسل والحرث الموارد، وهم يَعِدُون سواد شعوبهم بالرخاء المقبل، الذي لم يحدث إطلاقاً، وبات بمرور الوقت بعيد المنال. لهذا ومثله، يعتقد بعض الخبثاء أن النقلة الكبرى من تجربة الوحدة إلى آفاق الاتحاد، ليست أكثر من قفزة هروبية جبارة إلى امام، من طريقها يتمكن الاتحاديون ونظمهم من التلويح مجدداً بوعد الرخاء، على أن تمنحهم الشعوب فرصة - ممتدة جداً - في سبيل بلوغ هذه الغاية. لقد تحدث هؤلاء عن الاقتداء بالنموذج الاتحادي الأوروبي. بل وتجاوزوه في البنيان الذي أزمعوه إلى بعض ملامح تجربة الأممالمتحدة ذاتها، ومن تجليات هذه القفزة النوعية المؤسسة المخصصة للأمن مجلس الأمن الأفريقي، فالأفارقة لم يستثنوا حتى عناوين المؤسسات الاتحادية العتيدة من الاستنساخ على الطريقة الدولية، بخلاف ما استنسخوه عن المذهب الأوروبي مجلس الوزراء، المفوضية، البرلمان، محكمة العدل، مصرف الاستثمار. يتصور أصحاب هذا الرأي أن ما لم تبلغه أفريقيا في عهد منظمة الوحدة لن تتمكن من بلوغه في إطارها الاتحادي، ذلك أن هذا الإطار الأخير يقوم موضوعياً على مقتضيات واستحقاقات وأسس أكثر تطوراً من تلك التي استأنست بها المنظمة الموروثة. وإذا كانت هذه المنظمة أخفقت في معالجة معظم أهدافها، ولم تخلف وراءها سوى تركة مثقلة بالأعباء والهموم، فما الذي يدعو إلى التفاؤل بمستقبل أكثر إشراقاً للتجربة الوريثة؟ هذا التوقع الذي يبدو منطقياً يثير التساؤلات: ألم يكن من الأنسب أو الأوفق أن يستأنف الأفارقة مسيرة منظمتهم، بعد التأمل في عبرة مسارها وتخليصها من عللها بدلاً من هجران هذه المسيرة بالكامل، والتطلع إلى مستوى أعلى درجة منها على صعيد التطور الاقليمي؟ ألم يلحظ دعاة الاتحاد "العملية التراكمية" التي بنى بها الأوروبيون اتحادهم خلال ال50 سنة الماضية، وأن هؤلاء الأخيرين تدرجوا بمشروعهم من جماعة محدودة للحديد والصلب إلى جماعة اقتصادية أوسع عضوية وتخصصاً، إلى اتحاد موسع على الصعيد الاقتصادي العام بكل مضامينه تحدوه الآمال ويحث السعي إلى الوحدة السياسية والأمنية؟ لماذا أهدر الأفارقة هذه العملية في هذه المرحلة مع أن جيل الآباء كان واعياً بأبعادها، وهو ما يفهم من موقف معارضي اتجاه نكروما؟ والحق أن هذا المنظور التشاؤمي لا يخلو من مبالغة، ففي أسوأ الفروض يبقى لمنظمة الوحدة وآبائها المؤسسين فضل السبق والريادة في اجتراح العمل الجماعي، على صعيد قارة بأكملها. وأنهم تمكنوا من تحقيق نقلة تاريخية حين تولوا تحويل معظم شعوب القارة من طور القبيلة إلى عتبات الدولة، وحافظوا ولو بشق الأنفس وبعض السقطات على كثير من المبادىء التي أقروها في أجواء دولية عاصفة، إبان الحرب الباردة وبعدها. في كل حال، لا أحد يعلم يقيناً أي أفريقيا كنا سنعرف اليوم، فيما لو أن هذه المنظمة لم توجد من الأصل، لكن أحد المؤشرات الإيجابية بهذا الخصوص، أن الأفارقة عرضوا نموذجاً للعمل الاقليمي أكثر فاعلية وانتظاماً ومأسسة والتزاماً بالمواثيق والقرارات من ذلك الذي طرحه العرب، على رغم الفارق الكبير بين النموذجين لجهة المنطلقات وبواعث التوحد ومستوى التحديات والموارد لمصلحة النموذج العربي. من باب الإنصاف إذاً أن يجرى تقويم التجربة الأفريقية الوحدوية عمومًا بكل سلبياتها وإيجابياتها، وحبذا لو تم ذلك قياساً بالأمثلة القريبة الشبه من حيث الظروف التاريخية والموضوعية، وذلك لا يعني بالمرة نبذ الرؤى التي تحذر من المغالاة في الآمال المتوقعة من الكيان الاتحادي الوليد. فإذا كان ماضي هذه التجربة يقارن بنظائرها كالتجربتين العربية والأميركية اللاتينية، فإن مستقبلها ينبغي أن يُستشرف بالمنطق ذاته، وليس بالمغامرة التي تنطوي عليها فكرة المحاكاة بالنموذج الأوروبي. ويبدو أن كوفي أنان مسّ هذا المعنى تماماً حين قال في كلمته أمام القادة الأفارقة في دوربان: "إن بناء الاتحاد الأفريقي سيكون أشق بكثير من بناء الاتحاد الأوروبي... إنكم بحاجة إلى قدرة عظيمة على التحمل وإرادة سياسية من حديد للوصول إلى أهدافكم". ومؤدى ذلك أن يلتزم الأفارقة مفهوم الاسترشاد بالنموذج الأوروبي وحكمته بدلاً من الوقوع في غواية تقليده حرفياً. * كاتب فلسطيني.