مع ان البابا يوحنا بولس الثاني اعتذر لليهود عن اساءات مسيحية ضدهم! ومع ان بعثة اوروبية من جمعيات اهلية زارت المشرق في العام الماضي لتقدم الاعتذار، نيابة عن الاجداد الصليبين، عما لحق بالعرب والمسلمين من قتل ودمار ايام الغزوات الصليية، فإن قادة اوروبا لم يقدّموا الاعتذار لأفريقيا في اول مؤتمر ينعقد بين المستعمِرين بكسر الميم وبين المستعمَرين بفتح الميم وبين كبار الاغنياء وضحاياهم من البائسين المسحوقين. لم تعتذر اوروبا لافريقيا ربما لأن الاعتذار الذي يتضمن الاعتراف بارتكاب ابشع المجازر بحق القارة السوداء قد يؤدي الى فتح ملفات صريحة خصوصاً امام الاجيال الاوروبية الجديدة التي تنعم بما سرقه الاجداد من القارة على امتداد مئات السنين من عرق ودماء ونهب متواصل حوّل افريقيا الى اشلاء مبعثرة. ولأن الاعتذار ايضاً قد تترتب عليه نتائج مادية أقلّها التعويض عن المنهوب من ثروات القارة، هذا اذا اسقطنا التعويض عن ملايين البشر الذين حوّلهم الاوروبيون الى عبيد وعن الذين اغرقوهم في البحار خلال عبور المحيطات - لتخفيف اوزان السفن - على الطريق ما بين افريقيا والمحيط الاطلسي كما يقول البطل الراحل كوامي نكروما اول رئيس لغانا بعد حرب الاستقلال. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وصعود التنافس المصلحي الاميركي - الاوروبي، والاميركي - السوفياتي، وبقايا الصراع الفرنسي - البريطاني، فإن مصر تحررت وثارت ضد الاستعمار البريطاني وصمدت وانتصرت في مواجهة التحالف الثلاثي البريطاني - الفرنسي - الاسرائيلي في معركة السويس عام 1967 وامتد اللهيب الى القارة الافريقية، وبدأت الحركات الاستقلالية تنهض في سبيل الحرية ولوضع حد للاستعمار والنهب والاستغلال. وكان من الطبيعي ان تحاول حركات التحرير الافريقية بناء مؤسسات الدولة من الصفر، وان تضع خططاً للتنمية تلعب فيها الدولة دور الموجّه والمرشد للاقتصاد الوطني، وكان لا بد لهذه الحركات من ان تؤمم شركات النهب الاستعمارية لمصلحة الدولة والشعب ليسيطر على ثروات البلاد والعباد، وكان لا بد من التوجه لاقامة نظم للصحة والتعليم والمشاريع المنتجة والبنية التحتية. غير ان الاوروبيين حين كانوا يعجزون عن اجهاض الحركات الاستقلالية. كانوا يحاصرون البلد المتحرر المستقل، ويخترقون القبائل ويفجّرون النزاعات العرقية والطائفية والاثنية في بلاد تحكمها الأميّة بسبب الاستعمار الطويل. وعلى هذا الاساس لم تنعم اي دولة افريقية مستقلة بالاستقرار وهو الشرط الاول لنجاح خطط التنمية، ومنذ السبعينات الى يومنا هذا ربط الاوروبيون تقديم المساعدات لدول افريقيا بمدى اخذها بنظام اقتصاد السوق اي النظام الرأسمالي المفتوح تحت عنوان الديموقراطية، وشنّوا الحروب بالواسطة، ومارسوا الحصار على كل دولة افريقية تأخذ بنظام الاقتصاد الموجّه وتسيطر على موارد الدولة وخاماتها ومعادنها. حدث كل ذلك تحت اسم محاربة الشمولية والاشتراكية، وصحيح ان بعض الزعماء الأفارقة ممن رفعوا شعار الاشتراكية لم يحققوا نجاحات مميزة في خطط التنمية، لكن كان واضحاً ان المستعمرين ما كان همّهم طبيعة النظام سواء كان شمولياً ام غير شمولي. فقد واجه البلجيكيون واوروبيون آخرون نظام باتريس لومومبا في الستينات بالكونغو منذ اول يوم للاستقلال، ثم قتلوا البطل وفصلوا "كاتانغا" في الكونغو بواسطة عميلهم تشومبي، ثم سلّموا السلطة الى الجنرال جوزف موبوتو. واذا كانت تهمة الاستعمار للقائد التحرري لومومبا هو انه حاكم شمولي، فإن موبوتو كان ديكتاتورياً شمولياً وطاغياً والفارق بين لومومبا وموبوتو ان الاول وضع يد الدولة على الشركات الاجنبية التي كانت تمارس نهب الألماس والمعادن، في حين ان موبوتو ترك هذه الشركات تواصل نهبها لثروات البلاد مقابل حصوله على اموال خاصة لبناء قصور فخمة تحاكي قصور لويس الرابع عشر في فرنسا. حكم موبوتو الكونغو ما يزيد على ثلاثين سنة، لم يطالب خلالها الاوروبيون هذا الحاكم بالديموقراطية وحقوق الانسان، فالمصالح الاستعمارية محمية والنهب مستمر وهذا هو المطلوب! وقد فعل موبوتو المطلوب. وابتداء من منتصف السبعينات بدأت حروب الردّة في افريقيا، فأعاد الاستعمار اجتياحه لهذه البلاد بوسائل عدة، استخدم حروب القبائل ضد بعضها البعض، واحتفظ بمحميات عسكرية في بلاد كثيرة، واشعل حروب الحدود. ولم يكن المبشّرون دينياً من الاوروبيين سوى طلائع الكشافة لقوات الاستعمار، ثم الدعاة "المبررين" للاستعمار، على اساس ان حقوق الشعب يمكن الحصول عليها في السماء بعد الموت ولا داعي "لتعذيب الذات" في النضال ضد الاستعمار! وتحت سمع اوروبا وبصرها، شهدت رواندا وبوروندي وجوارهما حرباً قبلية منذ سنتين بين قبائل التوتسي والهوتو ذهب ضحيتها نحو نصف مليون من بني حام، من البشر... وكان السلاح مع الطرفين اوروبياً واميركياً واسرائيلياً. وكانت خلفية الصراع صراعاً على النفوذ في البحيرات المرّة. انه مشهد مرعب ان يشاهد الاوروبيون هذا المسرح الدموي من دون تدخل لوقف المذابح، ولا تحركت اميركا الداعية لحقوق الانسان! التوتسي والهوتو مسيحيون والغرب بصفة عامة مسيحي وهناك مؤسسات مسيحية فاعلة في اوروبا، فماذا فعل كل هؤلاء لوقف المذابح ومنع تكرارها؟ ماذا فعل هؤلاء لملايين المسيحيين الأفارقة الذين يتضورون جوعاً في بلاد كثيرة خصوصاً في اثيوبيا المسيحية؟ الديموقراطية هي الحل عند الاوروبيين، ولكن هذه الديموقراطية التي كانت موجودة في بوروندي وراندا لم تمنع المذابح؟ الديموقراطية واقتصاد السوق الرأسمالي لم يحققا التنمية في بلدان افريقيا منذ السبعينات الى بداية الألفية الثالثة! لو اوقف الاوروبيون سياسات النهب المنظّم للقارة، ولو ساعدوا الأفارقة على بناء المؤسسات التعليمية الدستورية والثقافية، وهي المقومات الاساسية للبناء الديموقراطي، لكان القرار فعلياً للشعب وليس للحركات الاستعمارية، وهذا ما يتعارض مع سياسة النهب. لكن ما حصل هو ان الاوروبيين يقدّمون مضموناً للديموقراطية في افريقيا يختلف عن ديموقراطيتهم، فهم يشجعون اقامة نظام برلماني للتحكم باللعبة السياسية لدفع نواب الى البرلمان يخدمون مصالح شركاتهم، ويمارسون الرقابة على اية نزعة سلطوية تتجه للسيطرة على المقدرات الاقتصادية للبلاد يريدون ديموقراطية تفتت البلاد بدون قيود لشركات متعددة الجنسية تمارس الاحتكار والاستغلال وتترك الفضلات للشعب. الديموقراطية هي الحل لمشاكل افريقيا! شعار جميل يرفعه الاوروبيون، ولكنه في الممارسة شيئاً آخر، فمعظم الدول الافريقية الديموقراطية سمح حكّامها بدفن نفايات سامة ونووية مقابل حفنة من الدولارات لحسابهم الشخصي. الفقر والمجاعة والجهل ثالوث يسيطر على افريقيا، والديون تتراكم، وما حلّ الشعار الديموقراطية شيئاً من هذه المشاكل. ويبقى الحل لمشاكل افريقيا من وجهة نظر اوروبية هو الديموقراطية. ما عاد يوجد تقريباً اي نظام شمولي في افريقيا، فلماذا لم تحدث التنمية منذ حقبة الارتداد في السبعينات الى يومنا هذا؟ واليوم يشتعل الصراع على افريقيا، فقد كان الصراع بين اطراف اوروبية واليوم يتحول الى صراع اوروبي - اميركي، وتستفيد الحركة الصهيونية من ذلك كله لتقيم القواعد الامنية والاقتصادية في افريقيا وتخترق القارة بمراكز هامة لمحاصر العرب في قارة كانت في الستينات والسبعينات في حال انسجام ووحدة موقف تحرري مع العرب ضد الاستعمار. ان المبهورين بالتقدم الغربي عليهم ان يعلموا ان اوروبا لم تتقدم مدنياً وتقنياً فقط بالعلوم والمعرفة والاكتشافات، ان اساس تقدمها كان الاستعمار، ونهب الشعوب في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، والاستيلاء على ثروات الآخرين وحرمانهم منها، والاستيلاء على المواد الخام المعدنية والمنتوجات الزراعية وارسالها مع مئات الآلاف من المقهورين الى بلاد الاستعمار ليتحولوا الى آلة في عملية الانتاج الغربي. الرفاهية للغرب والموت والبؤس للشرق ولافريقيا. حتى الاحزاب الاشتراكية والشيوعية فإنها لم تكن ضد الاستعمار، ولم تكن ضد استعمار شعب لشعب آخر، كانت ضد احتكار القلّة الرأسمالية للثروة المنهوبة من المستعمرات. كان الشيوعيون والاشتراكيون الاوروبيون يطالبون بحصة من عوائد الثروات المنهوبة، ولم يكونوا ابداً ضد الاستعمار، يقولون بوقف استغلال الانسان للانسان في اوروبا ويسمحون ويباركون استغلال امة لأمة، واستعمار أمّة لأمّة. واليوم لا ينظر الاوروبيون الى بؤس المشهد الدامي لافريقيا، ولا تنظر اميركا - داعية حقوق الانسان والديموقراطية - الى هذه المظالم والفظائع المستمرة، فبقايا الثروة في افريقيا تستدعي المنافسة مع الاوروبيين ودواعي العولمة الاميركية الامنية تدفع بالولايات المتحدة الى التواجد والتنافس. وهذا يعني المزيد من اهدار الدماء في افريقيا والمزيد من حروب القبائل والدويلات، فشلالات الدم التي سالت على امتداد مئات السنين لم ترو عطش العنصرية الغربية لمزيد من الدماء الافريقية. كنا نود لو ادخل على برنامج المؤتمر الاوروبي - الافريقي فيلم يعرض الفظاعات الغربية في افريقيا، من باب التذكير بما حدث ولدفع الجالسين على المنصّة من رؤساء اوروبا للتفكير بالاعتذار، لكن المقهورين تكلموا بخجل وطرحوا معاناتهم بخجل... ان اقل المطلوب من اوروبا تجاه افريقيا: 1 - تقديم الاعتذار والاعتراف بالجرائم التي ارتكبت بحق هذه القارة. 2 - التعويض الحقيقي عن هذه الجرائم لا يكون بالاعفاء الجزئي من الديون، وليس فقط بالاعفاء الكلي، وانما بتنمية القارة ومساعدتها فعلياً والتوقف عن نهب الشركات الاستعمارية لمواردها. 3 - والكفّ عن التدخل بشؤونها الداخلية لتختار وبحرية، النظم التي تلائمها والتي تراعي درجة تطورها. في لاهاي، اقام الاوروبيون محكمة دولية من بين اختصاصاتها محاكمة مجرمي الحرب، فمن يحاكم اوروبا على جرائمها التاريخية في افريقيا؟ بقيت كلمة للقادة العرب، فنحن العرب نمتلك روابط تاريخية مع افريقيا، جارتنا وحليفتنا في معارك التحرر من الاستعمار، نحن الاقرب اليهم في كل شيء، لكن للاسف نحن بعيدون عنهم الآن في حين تقترب منهم اسرائيل والمحاور الاوروبية - الاميركية أكثر فأكثر. ان السيطرة الاجنبية على البحيرات الكبرى ومنابع النيل وبحيرة فيكتوريا تعني، استراتيجياً، محاصرة مصر والسودان، وتطرح امكانية ابتزازنا من الطرف المسيطر! ان السيطرة الاجنبية والصهيونية على ما تبقى من دويلات الصومال مع البحر الاحمر اضافة الى اريتريا وما فيها من قواعد اجنبية تهدد قواتنا وحركتنا في البحر الاحمر وصولاً الى باب المندب قرب اليمن. ان تحويل بلدان افريقيا الى اعداء لنا بتحريض من قوى السيطرة الاستعمارية في منطقة شمال افريقيا العربي هو حصار استراتيجي لنا... وحيال هذه التحديات، لا بد من موقف عربي ينهض بالمسؤولية القومية للدفاع عن الامن القومي العربي. لا بد من موقف عربي للدفاع عن الحليف الافريقي الذي شاركنا وشاركناه هموم وآلام وتبعات معارك التحرر من الاستعمار. لا بد من تنمية المصالح المشتركة مع افريقيا. فأين نحن من ذلك كله؟ ان الرئيس معمر القذافي استدار نحو افريقيا حتى وصل الى استبدالها بالانتماء للأمة العربية، وليس هذا هو الحل، ومصر تولي اهتمامها لافريقيا وتقدم مساعدات ولكن بدرجة اقل مما كانت عليه في الخمسينات والستينات، وليس هذا هو الحل. والجزائر تعيد حضورها افريقياً ولا ندري اذا كان ذلك بالتنافس مع ليبيا ام بالتفاهم والتعاون، ولا ندري اذا كان هذا الاهتمام يأتي في المقام الاول ويصبح الاهتمام الجزائري بالعرب في الدرجة الثانية. المغرب لها سياستها الخاصة في افريقيا، وهي ترتّب رؤيتها في القارة على اساس من يقف معها ضد البوليساريو ومن يقف مع البوليساريو قسم من الصحراء الذي تحرر من اسبانيا وهو موقع نزاع جزائري - مغربي منذ السبعينات. والمملكة العربية السعودية لها سياستها في افريقيا وتقدم الدعم لعدد كبير من بلدان القارة، ولا ندري اذا كان هناك تعاون سعودي وعربي افريقي ينسّق السياسات العربية في افريقيا، والراجح ان التنسيق اذا كان قائماً فهو متواضع. اسمحوا لنا ان نقول بأن السياسات العربية المنفردة ازاء القارة، وان حققت بعض النتائج المحدودة، لكنها ليست بمستوى التحديات التي تتطلب موقفاً عربياً متكاملاً ورؤية استراتيجية عربية موحدة بحيث تتصرف كل دولة عربية معنية بافريقيا وفق هذه الاستراتيجية. فأمامنا سياسية اميركية وسياسة صهيونية، امامنا سياسة الاتحاد الاوروبي، وليس امامنا سياسة اتحاد عربي… نحن المعنيون بأفريقيا اكثر من كل الآخرين. ان تصوب المسار العربي يبدأ بتحويل حركة التضامن العربي من وقفة مرحلية الى ثوابت استراتيجية. ان مفتاح الحل هو بتحويل جامعة الدول العربية الى حالة اتحادية وبدون هذا الاجراء يبقى الامن القومي العربي مستباحاً وتظل افريقيا تائهة تبحث عن نصير. * كاتب وسياسي لبناني.