من صورة محمد الدرة التراجيدية، من لحظة نشرها، تنطلق المخرجة اللبنانية إليان راهب للبحث عن الآخر الغامض. الآخر الموجود في البلاد نفسها او على مقربة منها. عن الجنوبي المسلم والفلسطيني. عن كل هؤلاء الذين يقفون بالقرب منها، تفصلها عنهم مساحة هائلة من الجهل بكامل وجودهم. خامة الفيلم الوثائقي "البعيد القريب" هي حياة مجموعة من الاطفال بعد مقتل محمد الدرة وبحث إليان المخرجة لمعرفة هذه الكائنات وسر عذاباتها ودوافع مقاومتها. ولذلك تقوم وصديقتها بالسفر الى مصر والاردنوفرنسا. ابطال فيلمها اطفال في مقتبل العمر، يحملون روحاً من التحدي. في الجنوب اللبناني تلتقي اليان راهب مجموعة من اطفال يتصارعون مع الجيش الاسرائىلي المتاخم لحدودهم المحررة حول بقرة ومجموعة اغنام. فالاسرائىليون سرقوا المئات من خرافهم، وكان جوابهم على هذه الفعل عفوياً وسريعاً، سرقة بقرة اسرائىلية في المقابل وعدم ارجاعها الا بارجاع خرافهم. في هذه الصورة المضحكة ظاهرياً نتعرف عبر كاميرا إليان البسيطة الحركة وحواراتها العفوية الى افكار هؤلاء الفلاحين الطيبين ومشاعرهم. انهم بشر يحبون ارضهم وزرعهم ويدافعون عنها بشجاعة لا تحدها دبابات العدو ورشاشاته. في هذا الجزء اللبناني تقدم المخرجة صورة حقيقية عن الجنوبي الطيب والشجاع الذي حاولت جهات سياسية التعتيم عليه وتقديمه في اطار طائفي مشوه، وفق حسابات لا علاقة لها بواقع هؤلاء الفلاحين وبأطفالهم الذين يتحدون العدو دفاعاً عن حقوقهم وممتلاكاتهم البسيطة. بعدها تنقلنا المخرجة معها الى القاهرة حيث تأمل لقاء الطفل المصري احمد شعراوي الذي غادر منزل والده وخيم قريباً من حدود فلسطين ليقترب من ساحة الصراع الذي يخوض فيه اقرانه الفلسطينيون مواجهاتهم اليومية. وعلى رغم كل مساعيهما تفشل وزميلتها بلقياه لأسباب عدة منها طمع بعض افراد عائلته بالمال نتيجة التركيز الاعلامي على مبادرة طفلهم، ولأسباب اخرى تخص الواقع المصري. "البعيد القريب" لا يقرب مزايا الآخر الايجابية فقط بل يقدم نقداً جدياً لها، انها رؤية موضوعية. صحيح انها متعاطفة ولكنها واعية بالأجزاء التالفة من الصورة. وهذا ما سنلمسه عندما تتحدث اليان الراهب المارونية عن اقرب جيرانها الاغنياء وملاعب الصبا مع ابنتهم المترفة والمتحدثة بالفرنسية داخل حيهم البيروتي المغلق في وجه اي كائن خارج ابناء الطائفة المسيحية القاطنة فيه. فبعد الذهاب ابعد من الجنوب وتشكل الوعي الجديد بمأساة الآخر، الفلسطيني، تتذكر اليان، لحظة خاطفة من الزمن غائرة في وعيها الطفولي عندما تصرح صديقتها الغنية فجأة بأنها فلسطينية الأصل ولكن اهلها لا يريدون الاعلان عن ذلك خوفاً من جيرانهم. هذا الاعتراف يدفع اليان الى السفر الى فرنسا لملاقاة صديقة الطفولة التي غادرت مع اهلها الى باريس مهاجرة. ولكن حين يلتقيان تصطدم اليان بنكران "الصديقة" لهذه القصة وتكتشف ان صديقة طفولتها تعيش حياة فرنسية خالصة ليس لها علاقة بعالمها الاول. ولكن وعند تجوالها في شوارع باريس تتعرف اليان الى شبان فلسطينيين يتصارعون يومياً مع العنصريين الفرنسيين دفاعاً عن هويتهم وتعريفاً بقضيتهم. ثم تقترب اليان اكثر لمعرفة الآخر عندما تزور هذه المرة عائلتين فلسطينيتين في الاردن. الأولى تعيش مشكلة ابنتها ندى الطالبة في احدى المدارس الاردنية والتي تصر على التحريض والعمل مع زملائها على دعم القضية الفلسطينية وأطفال حجارتها، ويصل التصادم بين ادارة المدرسة الرافضة لهذا النشاط والطالبة ندى الى درجة تتطلب تدخل والدها، الفنان التشكيلي المحبط من تجربته السابقة في المقاومة المسلحة في الاردن واحباطاتها في السبعين، كطرف داعم لها في مواجهة تحتاج الى مساندة اكبر منها. في حوارها مع افراد العائلة تنجح المخرجة في تقديم صورة جديدة تمثل "ثورية" الاطفال العفوية وفعلهم الاحتاجي المحرك والمحفز لتجاوز احباط تجربة الآباء السياسية. هذا الفعل الطفولي هو رفض للحظة العجز جسدتها صورة مقتل الدرة. ورفض لعجز والده المسلوب الارادة. من هذه القراءة الواعية للصورة تتلمس اليان تفاصيل فكرتها بوضوح عندما تزور عائلة الطفل براء الذي غادر بيته باتجاه قرية والده في فلسطين وهو يحمل ادوات قتاله لاستعادتها سكيناً وملاعق مطبخ وكيف تنجح كمحاورة محايدة في كشف الوعي الطفولي الجديد من دون تزويق سينمائي مستعينة بأدوات تقنية بسيطة ورؤية سينمائية واضحة قالت عنها اليان امام الجمهور السويدي الذي شاهد العرض الاول لفيلمها المشارك في مهرجان غوتنبورغ الخامس والعشرين: "يمكنكم القول انه فيلم يبحث عن معرفة الآخر وانه رؤية لبنانية جديدة، واعية للمشكلة الفلسطينية". انه فيلم وثائقي يتحدث لغة سينمائية جديدة وشجاعة نأمل ان تتبلور مع مثيلاتها لتشكل تياراً جديداً لمفهوم الفيلم الوثائقي العربي المؤثر.