بعد ثلاثة أسابيع من بدء عملية "الجدار الواقي" التي نفذها الجيش الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، شرعت الدوائر الامنية والسياسية الاسرائيلية بعملية "جرد حسابات" للنتائج التي تمخضت عنها الحملة مقارنة بأهدافها المعلنة، وسط بروز تساؤلات جدية في شأن مستوى النجاح الذي حققته على المستويين "الامني والسياسي". وكان رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون وقادته العسكريون أعلنوا مراراً ان الحملة تهدف الى "تدمير البنية التحتية للارهاب وجمع الاسلحة" واعتقال "المطلوبين" من القيادات الميدانية للمقاومة الفلسطينية. اما الهدف الثالث غير المعلن الذي اشار اليه شارون بأسلوب غير مباشر في حديثه المتكرر عن "القيادة البديلة"، فهو تدمير السلطة الفلسطينية كقيادة شرعية للشعب الفلسطيني بكل مؤسساتها. في وقت بدأت اسرائيل تبحث عن طريقة لإنهاء حملتها العسكرية في الاراضي الفلسطينية، اعتبر وزير الدفاع بنيامين بن اليعيزر ان الحملة "حققت اهدافها تقريباً". وقال في جلسة للمجلس الوزاري الموسع مساء اول من امس ان "الجيش سيعيد انتشاره، وأشدد سيعيد الانتشار ولن ينسحب"، في اشارة اعتبرها المحللون العسكريون دليلاً إلى عدم نجاح هذه المهمة. وأضاف بن اليعيزر بنداً جديداً في اهداف الحرب هو "رفع معنويات الاسرائيليين وإفهام الفلسطينيين انهم لا يستطيعون هزيمة الجيش الاسرائيلي"، الا انه ناقض نفسه عندما قال ان "حملة الجدار الواقي ستزيد عدد العمليات الارهابية". وينسب الجيش الى نفسه انجاز "تطهير مدينتي الارهاب"، كما يصف جنين ونابلس، على رغم ان بعض الاسرائيليين بدأ يسائل قادة الجيش عما حصل في مخيم جنين للاجئين بالضبط. وقال المحلل العسكري لصحيفة "يديعوت أخرونوت" ناحوم برنياع ان هنالك "مشكلة في العملية الحسابية" لعدد الشهداء في المخيم، مضيفاً ان الجيش تحدث عن مقتل 200 فلسطيني ولم ينتشل سوى 14 جثة، وفي المجموع تم اكتشاف 29 جثة، وتساءل: أين ذهبت بقية الجثث؟. وزاد: "في الجيش بدأوا يسألون كيف لمعركة ضارية استخدم فيها الجيش الدبابات والطائرات وسقط فيها 23 جندياً وأصيب 60 آخرون، ان يلحق هذا العدد القليل من القتلى في صفوف العدو؟". وعلمت "الحياة" ان عدداً كبيراً من قياديي التنظيمات الفلسطينية المختلفة في مخيم جنين الذين اعلن مقتلهم خلال القتال الضاري الذي شهده المخيم لا يزالون احياء. وباستثناء محمود طوالبة قائد "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة "الجهاد الاسلامي"، وهو من ابرز القياديين الذي استشهدوا في المخيم، يتبين من قائمة اسماء المقاتلين الفلسطينيين ال 29 الذين اعتقلوا بعد ان نفدت ذخيرتهم باتفاق وتنسيق مع منظمات حقوقية، من بينها منظمة "بتسيلم" الاسرائيلية لضمان عدم تصفيتهم، ان عدداً كبيراً من المقاتلين البارزين موجود الآن في المعتقلات الاسرائيلية. ويقف على رأس هؤلاء جمال حويل الذي تصفه اسرائيل بأنه قائد "كتائب الاقصى" التابعة لحركة "فتح" وعلي الصفوري الجهاد الاسلامي وعلاء الصباح وأحمد دمج وفارس جرادات وعلاء فرحات واياد سلفيتي ومحمد مصباح وعمر خنفر ومحمد الرخ وأنور ابو راهوا ومحمد تركمان ورياض عرقاوي ومنير النجار وزكريا عيسى وسامي حلاقنة ونضال مصباح ومعتصم البنى وصالح الستيخ وعبدالجبار خناص وكمال الصباح ومحمد حطية وبلال رزة وثابت مرداوي وعصام ابو السباع وحسن بشارات والشيخ رياض وحسن جبر. وجرى توثيق اسماء هؤلاء خشية ان تقدم اسرائيل على تصفيتهم جسدياً، بينما لم تعرف اسماء 7 آخرين موجودين داخل بناية سكنية اخرى في المخيم جرى اعتقالهم بغياب ممثلي "بتسيلم" ولا يعرف مصيرهم بعد. والسؤال الذي يطرحه بعض الاسرائيليين: "من هم الذين قتلهم الجيش على مدى ثمانية ايام او اكثر اذا صمد هؤلاء حتى النهاية؟". وفي الوقت الذي يؤكد شهود ان قوات الاحتلال نفذت عمليات اعدام ميداني ضد المدنيين والناشطين، خصوصاً في جنين ورام الله ونابلس، لا يزال العدد الاجمالي لشهداء الاجتياح الاسرائيلي غير معروف. ويتحدث الاسرائيليون عن مقتل 250 فلسطينياً بينما تشير تقارير وزارة الصحة الفلسطينية حتى منتصف الشهر الجاري الى ان العدد قد يرتفع الى نحو 500 شهيد على أقل تقدير. 5000 معتقل بينهم 350 "مطلوباً" وأسفرت حملات الاعتقال الجماعية في المناطق الفلسطينية المختلفة، وفقاً للمصادر الاسرائيلية، عن اعتقال نحو خمسة آلاف فلسطيني يتراوح عدد المطلوبين او الناشطين بينهم بحسب المصادر ذاتها بين 300 و350 فلسطينياً. وفي المقابل، تشير المنظمات الحقوقية التي تعنى بشؤون المعتقلين الفلسطينيين الى صعوبة احصاء عدد المعتقلين. وأوضح عمر جبران من منظمة "الحق"، احد فروع منظمة الحقوقين الدوليين ومقرها جنيف، ان السلطات الاسرائيلية ترفض كشف هوية كل المعتقلين وأماكن اعتقالهم، مشيراً الى ان العدد قد يزيد عن 6000 معتقل، غالبيتهم من المعتقلين السابقين وأصحاب الملفات الامنية والسياسية. وبحسب افادات فلسطينيين اطلقهم الجيش اخيراً، اكدت المنظمات الحقوقية ان الهدف الرئيس لهذه الحملات هو امتهان كرامة الانسان الفلسطيني من خلال المعاملة غير الانسانية التي يتعرض لها. وأشار احد المعتقلين الى تعرض المئات من الموقوفين في معسكر "عوفرا" العسكري للتنكيل والضرب، كذلك حرموا من النوم ومن الطعام والماء واجبروا على العودة الى منازلهم مشياً على الاقدام ليلاً فكانوا عرضة للقتل في ظل حظر التجوال والانتشار المكثف للجيش الذي يطلق النار على كل جسم متحرك. وأشارت مؤسسة "الضمير" الفلسطينية الى تحويل 25 معتقلاً الى "الاعتقال الاداري"، ما يعني قضاء فترة تتراوح بين ثلاثة الى ستة اشهر في السجن من دون تقديمهم الى المحاكمة او توجيه اتهامات ضدهم. وفي رام الله، كان ابرز المعتقلين على يد الاسرائيليين، اضافة الى امين سر اللجنة الحركية العليا لتنظيم "فتح" في الضفة الغربية مروان البرغوثي، عبدالكريم عويس الذي اعتقل بداية الاجتياح وكان اسمه يتصدر قائمة المطلوبين لدى الاجهزة العسكرية الاسرائيلية، اضافة الى قائد "كتائب الاقصى" ناصر عويس الذي اعتقل في بلدة طوباس قرب نابلس. واعتقل ايضاً جمال الطويل احد قادة "حماس" السياسيين وفايز ابو وردة الذي وصفته اسرائيل بأنه قائد الجناح العسكري ل"حماس" في رام الله. وكان الاثنان اعتقلا داخل منزل في بلدة بيتونيا المجاورة. وبعد يومين من اعتقالهما نجحت اسرائيل في الوصول الى حسان بدران احد قادة "كتائب القسام" التابعة ل"حماس" في منزل ريفي في بلدة النصارية بين جنين ونابلس، إذ قتل آخران من كوادر "القسام" في هجوم بطائرات "اف 16" على المنزل. ومن ضمن "الاهداف" التي حققها الجيش، اعتقال 7 من كوادر "حماس" و"الجهاد الاسلامي" كانوا محتجزين داخل مقر قيادة "جهاز الامن الوقائي" الذي يترأسه العقيد جبريل الرجوب بعد يومين من القصف الجوي والارضي على المقر وتدميره. ومن ابرز هؤلاء بلال البرغوثي الذي تعتبره اسرائيل احد "مهندسي" العمليات التفجيرية. وقتل في نابلس ما لا يقل عن 20 فلسطينياً، من بينهم مسؤول "الجبهة الشعبية" في المدينة ومؤيد الجميل فتح وناشطون آخرون غالبيتهم من حركة "فتح". وفي بيت لحم المحاصرة لا تزال اسرائيل بعيدة من تحقيق هدفها باعتقال نحو 30 من المقاومين الفلسطينيين الذين لجأوا الى كنيسة المهد والمحتجزين داخلها لليوم السادس عشر على التوالي. فإسرائيل تقف امام مواجهة صعبة ضد الرأي العام العالمي واحتمال دخول العالم المسيحي على الخط في ضوء ما يتعرض له الكهنة ورجال الدين المحتجزون ايضاً داخل الكنيسة والرافضون لشروط اسرائيل التعجيزية واصرارها على تسليم المقاتلين انفسهم او ترحيلهم الى بلد ثان. وأشار النائب المقدسي حاتم عبدالقادر الى ان الحملة الاسرائيلية تمكنت من إلحاق ضرر نسبته 30 في المئة من "النواة الصلبة" في حركة "فتح". وعزا ذلك الى سببين: اولهما ان الناشطين في الحركة عملوا "فوق الارض" وكانوا مكشوفين لدى سلطات الاحتلال الاسرائيلية. وثانيهما ان الهدف المركزي للحملة العسكرية الاسرائيلية هو ضرب السلطة الفلسطينية وتنظيمها الاساس "فتح"، وخصوصاً اعتقال البرغوثي الذي يحظى بشعبية واسعة وتعتبره اسرائيل المسؤول الاول عن الانتفاضة. وأعرب عبدالقادر عن اعتقاده ان المئات من اعضاء "كتائب الاقصى" نجوا من الحملة الاسرائيلية، مشيراً الى ان "الفراغ" الذي احدثته العملية الاسرائيلية بين معتقل وجريح وشهيد يمكن تعبئته في شكل تلقائي. فعندما يسقط قائد ميداني هناك من يخلفه تلقائياً. وعلى رغم العدد الكبير للمعتقلين الفلسطينيين الذي يتجاوز خمسة آلاف شخص، يرى الفلسطينيون في مسألة المعتقلين عنصراً "تفجيرياً" وليس مهدئاً للمقاومة، كما كان معهوداً في تاريخ النضال الفلسطيني للاحتلال الاسرائيلي. وأشار مدير نادي الأسير الفلسطيني وأحد الاسرى المحررين عيسى قراقع الى ان اسرائيل اعتقلت ما يزيد على 15 الف فلسطيني خلال الانتفاضة الاولى، فحولت الحركة الاسيرة الى "وقود" اشعلت الانتفاضة الاولى والحالية. وقال ان اسرائيل تدرك من تجربتها مع الفلسطينيين على مدى اربعة عقود من الاحتلال ان "الثورة" تنطلق من غياهب السجون وان من اعتقلتهم في الانتفاضة الاولى خرجوا اكثر تصميماً من قبل على ضرورة انهاء الاحتلال. وأوضح ان "المعتقل يقوم بعملية صقل وشحذ للفكر النضالي الفلسطيني حيث نجحت الحركة الاسيرة في تجيير هذه التجربة لتعزيز مقاومتها وليس القضاء عليها. وهذا ما يدركه الاسرائيليون اكثر من أي طرف آخر". وأكد قراقع ان في بداية الانتفاضة الحالية، كان عدد المشاركين مباشرة في المقاومة اقل بكثير من عددهم الآن وذلك بفعل الاضطهاد الاسرائيلي الذي طاول مختلف الناس والطبقات الاجتماعية والاقتصادية دون استثناء حتى طبقة السلطة الفلسطينية واولئك الذين دعموا اتفاقات اوسلو. وإن كان هناك من نجاح حققته هذه الحملة فهو القضاء على التيار المعتدل داخل الشعب الفلسطيني. ووجدت اقوال قراقع وغيره من الفلسطينيين صدى في مقالات كتاب ومحللين اسرائيليين في الايام الاخيرة. وأكد هؤلاء ومن بينهم جدعون سيمت في صحيفة "هآرتس" ان شارون "نجح في افشال حل النزاع بالطرق الديبلوماسية والسياسية". وأشار المحللون الاسرائيليون الى ان "الجدار الواقي" لن يحمي اسرائيل من العمليات الفلسطينية لأنها ستعود مجدداً وبقوة اشد وذات طابع انتقامي ينذر بكارثة حقيقة لاسرائيل. وتكمن "المواجهة" الاكبر في مقر الرئيس ياسر عرفات الذي لا يزال يرفض على رغم الضغوط الهائلة التي يتعرض لها اسرائيلياً واقليمياً ودولياً تسليم من احتجزتهم اجهزته الامنية، بناء على ضمانات اميركية، بالاكتفاء بهذا الاجراء الفلسطيني وعدم المساس بهم، وهؤلاء هم العميد فؤاد الشوبكي المتهم اسرائيلياً بمحاولة تهريب سفينة الاسلحة "كارين ايه" والامين العام ل"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" أحمد سعدات وأربعة من كوادر الجبهة الذين تقول اسرائيل انهم خططوا لعملية قتل الوزير الاسرائيلي المتطرف رحبعام زئيفي ونفذوها رداً على اغتيال قائدهم السياسي ابو علي مصطفى. ومن وجهة نظر شارون، فإن حملة "الجدار الواقي" لن تنجح الا بالوصول الى هؤلاء وتقديمهم امام محكمة اسرائيلية كما وعد صديقه القديم زئيفي على قبره. ويرى الاسرائيليون في "صمود" عرفات امام كل هذه الضغوط التي تهدد حياته الشخصية، عنواناً لفشل شارون في حملته التي دمرت البنية التحتية والمنشآت والمؤسسات الاقتصادية والادارية للسلطة الفلسطينية.